هاملت “1964”.. الفيلم السوفيتي العبقري

بقلم : مهند النابلسي

*تلقى هوراشيو رسالة من هاملت، يوضح له فيها ان الأمير قد هرب خلال التفاوض مع القراصنة الذين حاولوا مهاجمة سفينته المتجهة الى انجلترا، ثم يناقش اثنان من الأصدقاء موضوع انتحار اوميليا، ويصل الى المقبرة هاملت وهواراشيو وأحد حفاري القبور، الذي يكشف ويسخر من  جمجمة الطفل “جيستر” الذي كان صديق هاملت في طفولته، والذي مات مبكرا، فيلتقط هاملت الجمجمة قائلا “الفقير المسكين” متأملا مغزى الخلود والعدم وكأنه يستبصر بالحدس مصيره المأساوي القادم، ثم تقترب جنازة اوفيليا حينئذ من المقبرة ويقودها “ليارتيس”، فيختبىء هاملت وهوراشيو في البدء، ولكن عندما يتحقق من أن اوفيليا ذاتها هي التي ستدفن، يكشف عن نفسه، معلنا حبه الكبير لها، فيتعارك كل من ليارتيس وهاملت بجوار القبر، ولكن هوراشيو يفك العراك.

*ثم يعود هاملت الى اسوار قلعة “اليسينور”، ويشرح لهوراشيو بأنه قد اكتشف رسالة “كلاوديوس” ضمن ممتلكات “روزنكراتس وجيلدين شتيرن”، وقد قام باستبدالها بنسخة مزيفة (طالبا فيها اعدام الحارسين الخائنين)…لكن “ليارتيس” يقاطع المحادثة ويتحدى هاملت للمبارزة، ويقبل هاملت ذلك على الرغم من اعتراض هوراشيو، ثم يبلي حسنا في البداية ويقود المبارزة، فترفع له “جيرترود” نخب التهنئة المليء بالنبيذ المسموم (وهي ربما تعرف ذلك وكأنها تقصد الانتحار عندما تجاهلت أمر كلاوديوس بعدم شرب النبيذ، وبعد ان وبخحها ابنها مرارا لتواطئها بمقتل ابيه الملك)، ويسعى كلاوديوس قبل فوات الآوان لايقافها، ويدرك ليارتيس حينها حجم المؤامرة المحبوكة جيدا، فيضرب ليارتيس هاملت بنصله المسموم في الشجار الذي تلا ذلك، ويتم على عجل استبدال سلاح ليارتيس “المسمم”، ولكن الوقت يكون قد تأخر فاصيب هاملت بطعنة نجلاء مسمومة، ثم تنهار جيرترود فجاة وتدعي أنها قد سممت حتى الموت، محذرة هاملت ايضا الذي يبادر مستعجلا ومباغتا كلاوديوس بطعنة قاتلة قبل فوات الاوان.

*نرى “فورتينبراس” الذي كان يتجه ظاهريا نحو بولندا مع جيشه، نراه يصل يصل لتخوم القصر الملكي في اللحظات الأخيرة، جنبا الى جنب مع السفير الانجليزي، جالبا الأخبار عن موت كل من “روزنكراتس وجيلدين شتيرن”، واعدا هواراشيو بسرد القصة كاملة مع التفاصيل، وعندما يتحقق “فورتينبراس” أخيرا من موت الاسرة الملكية كاملة، يأخذ التاج الملكي لنفسه، ويأمر بجنازة عسكرية مهيبة لهاملت، متحسرا هكذا على وفاة هامليت العبثية، فيما كان قائدا عسكريا فذا يستحق الموت على ساحة الوغى كخصم شجاع.

*أجرى المخرج السوفيتي الشهير ابحاثا مكثفة حول روايات شكسبير، وتعمق كثيرا بمسرحية هاملت، فكتب دراسة بعنوان “عشر سنوات مع هاملت”، لذا فقد اخرج هذا الفيلم مخلصا للنص المسرحي، واستغرق وقت العرض ساعتين وعشرين دقيقة، وفي العام 1923 كان يخطط  لأداء هاملت بمنهجية “البانتونيم”(التمثيل الايمائي الصامت) وبشكل تجريبي فريد، وقد تعمق هنا بمغزى الصمت كعنصر اخراجي هام، فانغمس بمشاهد بصرية وسينمائية آخاذة وبالحد الأدنى من الحوار، وعلى سبيل المثال: وصول هاملت لتخوم قلعة “الزينور” للانضمام الى الحداد في المحكمة، كما بطريقة تصوير الوقفات الاحتجاجية في انتظار ظهور الشبح.

*على عكس فيلم “لورانس اوليفيه” (نسخة عام 1948)، الذي أزال معظم الأبعاد السياسية للمسرحية، مركزا على الاضطرابات الداخلية النفسية لهاملت، بينما يركز “هاملت كوزينسيف” على البعدين السياسي والشخصي في آن واحد، كما ان منهجية “اوليفيه” الاخراجية  تسلط الضؤ  كثيرا على الأدراج الضيقة والممرات المتعرجة والمظلمة احيانا كما الديكورات الداخلية، فيما يركز كوزينتسيف على الطرق الرحبة الواسعة، وعلى الناس والفرسان والقرى والسفراء والمحاكم في الهواء الطلق، كما على القلعة كسجن اختياري، وكثيرا ما تظهر مشاهد الكاميرا المعبرة من خلال “القضبان والأشباك الحديدية” وكأنها ترنو للحرية والانطلاق، كما بدت اوفيليا وهي محبوسة في المشد الحديدي المحكم، كاشارة مجازية للمصيرها البائس في البيئة السياسية الصعبة الضاغطة، في حين يظهر معظم الناس العاديين في الملابس الرثة، يتشابهون كثيرا مع حفاري القبور: طيبو القلب والراغبين فقط في العيش بسلام ومودة!

*حصل الفيلم في العام 1964 على عدد من الجوائز داخل الاتحاد السوفيتي وخارجه، وقد تمت الاستعاضة احيانا عن نقص بعض جمل وكلمات شكسبير البديعة وذات المجاز المعبر بالموسيقى الرائعة الآخاذة من قبل الموسيقار المبدع “ديمتري شوستاكوفيتش”، كما أن الفيلم يمتع المشاهد الذواق بصريا ومشهديا ويشده مندهشا ومأخوذا دون ان يشعر بمرور الوقت الطويل للعرض، حيث تلعب عناصر المناظر الطبيعية والمناخ والغلاف الجوي وطير النورس دورا مساندا لدور الابطال الذين تقمصوا الأدوار ببراعة لافتة في هذا الشريط “الأسود-الأبيض” الكلاسيكي الآخاذ.

*واخيرا فقد حقق المخرج فيلما “أكاديميا” لافتا وبه مشاهد وايماءآت مسرحية مؤثرة لكنه يتمتع بجدارة سينمائية فريدة وخاصة، حيث يتطابق الهيكل مع المعنى والمغزى، ودشن ببراعة عهدا جديدا لسينما ما بعد “أيزنشتاين” الواقعية الفذة، ومزجها ببراعة فائقة مع البعد الرومانسي الساحر والحزين التراجيدي، واخرج فيلما فريدا كمزيج سينمائي استثنائي متجنبا فخ “السمة والصفة الواحدة”، مبتعدا عن المبالغات الدرامية والفذلكات التمثيلية الزائدة، ومحققا تصوره الخاص ومنهجيته التي تنطبع في الذاكرة وتاريخ السينما.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى