الامة العربية والتغيرات في موازين القوى الدولية
بقلم: د. يوسف مكي
عبر التاريخ، وفي الحروب الكبرى التي شهدتها البشرية، هناك منتصرون ومهزومون، والتغيرات في موازين القوى العسكرية والسياسية والاقتصادية الدولية، هي نتاج للخلل بين القوى المتصارعة في ميادين الحروب. والنظام الدولي، قديماً وحديثاً، هو انعكاس واقعي للتغيرات التي تأخذ مكانها في موازين القوة.
استخدمنا مفهوم النظام الدولي، في هذا الحديث، بشكل مجازي، ذلك أن مفهوم الدولة، هو مفهوم معاصر، ارتبط بالثورات الاجتماعية والتحولات السياسية التي شهدتها القارة الأوربية، بعد الثورة الفرنسية عام 1789. وما ساد قبلها هو امبراطوريات وممالك وإمارات ، لا تستمد قوتها من علاقات تعاقدية، بل من عنصر القوة وحده، يفرض المنتصر فيه سطوته داخلياً وخارجياً. وكانت مفاهيم الاستقلال والسيادة وعدم جواز التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان الأخرى، غريبة، على النظم السياسية التي سادت قبل إقرار مبدأ التعاقد وتداول السلطة والفصل بين السلطات.
مثلت اتفاقية ويستفاليا الموقعة في 24 أكتوبر /تشرين الثاني عام 1648م، انتقالاً رئيسياً في المفهوم الأوروبي، نحو الاستقلال والسيادة وعدم جواز التدخل في الشؤون الداخلية للبلدان الأخرى. لكن تلك الاتفاقية اقتصرت على القارة الأوروبية، وكان لها إسهامها الكبير في توقف الحروب المريرة والطويلة، بالقارة الأوروبية. وقد أسست هذه الاتفاقية لمبدأ إنساني عالمي، أقرته لاحقاً عصبة الأمم، بعد الحرب العالمية الأولى، وأعيد التأكيد عليه بعد تأسيس الأمم المتحدة، وانتهاء الحرب العالمية الثانية. ولا تزال الشعوب المقهورة تناضل من أجل تثبيت وترسيخ مبادئ ويستفاليا.
في العصر الحديث، شهد العالم، انبثاق نظامين دوليين، الأول بعد الحرب العالمية الأولى، حيث تأسست عصبة الأمم على قاعدة رفض الاستعمار وحق الشعوب في تقرير المصير، وبقية المبادئ الأربعة عشرة التي أعلنها الرئيس الأمريكي ويدرو ويلسون، والتي عرفت بمبادئ حقوق الإنسان. وكانت نتائج الحرب، وما تمخض عنها من اختلال في موازين القوة الاقتصادية والعسكرية والسياسية للاستعمار التقليدي، قد أكدت بما لا يقبل الجدل، أن النظام الدولي الذي انبثق عن الحرب هو نظام مؤقت. وقد عبرت مبادئ ويلسون بشكل صريح، عن محدودية زمن هذا النظام. فقد أقرت عصبة الأمم استمرار هيمنة الاستعمار التقليدي، على البلدان العربية، ولكن إلى حين. فقد برزت مفاهيم جديدة للاستعمار القديم، حملت مفاهيم الحماية والوصاية والانتداب، وجميعها مفاهيم تشير إلى محدودية زمن ومستوى الهيمنة الاستعمارية على المنطقة.
ولم يمض سوى أقل من عقدين من الزمن، إلا والعالم يشهد حرباً كونية أخرى، أكثر ضراوة وفتكاً وقسوة. ومرة أخرى، كان مركز اندلاع الحرب، هو القارة الأوروبية، تماما كما كان الأمر، في الحرب الكونية الأولى.
السؤال الذي يواجه القارئ العربي، هو لماذا نحن بالذات الذين نظل خارج حركة التاريخ؟! كيف لأمم أخرى، مثل ألمانيا واليابان، تمر بهزائم مريرة، وترفع راية الاستسلام، ومن ثم تنهض من كبوتها بشكل سريع؟ بل إن تركيا التي توحد العرب مع الغرب، لإنهاء سلطنتها العثمانية، والتي ألحقت الهزيمة الكاملة بها، نهضت من جديد، حين تكون المقاربة بواقع العرب؟! أسئلة لا يقصد منها الاحباط والتيئيس، بل المساعدة على التفكيك والفهم، وتقديم أجوبة تساعدنا على الخروج من النفق الراهن.
في حديث سابق، ناقشنا أهمية التراكم، ببعديه الحضارى والكمي. وما تفردنا في المنطقة بمعاناته، هو انعدام التراكم. فألمانيا كانت بلدا قويا قبل الحرب العالمية الأولى، وجرت هزيمتها، لكنها تمكنت من استعادة عافيتها عسكريا واقتصاديا بسرعة فائقة، جعلتها تحاول الانتصار لكرامتها التي أهدرت في الحرب الكونية الأولى. وحين جرت هزيمتها، لم تكن الهزيمة نهاية المطاف. فقد ظلت خبراتها كامنة فيها. وجاء الأمريكيون بمشروع مارشال وحلف الناتو، لينتشلوها من الهزيمة، ولتعيد بناء قوتها الاقتصادية بسرعة قل لها نظير.
والحال هذا لا يختلف كثيراً عن اليابان، التي كانت قوة استعمارية قبل الحرب، تمكنت من احتلال بلدان في آسيا أضعاف مساحتها وسكانها. لم تفقد خبراتها ولا مصادر ثروتها ولا إرثها، وعادت مجدداً، قوة اقتصادية عالمية رائدة.
وبالتأكيد فإن أي مقاربة موضوعية بيننا وبين هذه الأمم ليست في صالحنا. فالأمة العربية عانت من انقطاع طويل، بعد سقوط بغداد، لأكثر من ألف عام، تفتت الأمة إلى إمارات وممالك صغيرة، وتعطلت سبلها عن مواصلة دورها الحضاري. وحين بدأت يقظتها العربية الجديدة، في منتصف القرن التاسع عشر، لم تتمكن من تحقيق التراكم في هذه اليقظة، فقد زج بها في خضم الأحداث، وهي لم تزل غضة بعد. وكان تنافسها مع استعمار فتي، يفوقها قوة وعدداً، وتراكماً حضارياً.
وبسبب عوامل الضعف هذه ضاعت فرص كبيرة، علينا. لم نتمكن من اقتناص نتائج هزيمة السلطنة العثمانية، بعد الحرب العالمية الأولى، وأضعنا فرص بناء الدولة الحديثة، بعد تمكننا من انتزاع الاستقلال، بعد الحرب العالمية الثانية، وهزيمة الاستعمار التقليدي.
فهل سنضيع مرة أخرى، فرصة الخلل الراهن في موازين القوى الدولية، وتباشير انبثاق نظام دولي جديد، بدأت ملامحه في التشكل، أم أن قدرنا سيظل دائماً البقاء على هامش التاريخ؟