قصة قصيرة.. الكُرّاز
بقلم : سعيد نفاع
كنت حشرت نفسي في قعدة ربيعيّة في باحة دارنا الترابيّة، شارك فيها أبي وثلّة ممن تبقى من رفاق عمره بعد أن كان أخذ منهم الموت الكثيرين، واليوم كان مشمسا وقد اشتاقوا إليه بعد أن أقعدتهم أيام الشتاء، الطويلة في بلدنا، طويلا حول نار مواقد البيوت. وما كان حشري نفسي ذاك اليوم كما في الكثير من السابقات واللاحقات من الأيام، إلا بسبب ما وصل مسامعي وأنا داخل الدار من تكرار ذكْرِ الفحول والكراريز في “ندوتهم” عن الانتخابات التي كانت جرت قبل أيام، وحديث الانتخابات عند هذا الجيل له نكهة خاصّة لم نذقها نحن، وإن ذقناها قلّما نفقه طعمها إلا بعد جهد وتفكير.
حيّيت وجلست دون أن يعيروا انضمامي كثير انتباه وظلّوا على ما هم عليه وكأن وجودي أو عدمه سيّان، حاولت أن أفهم ما علاقة الانتخابات والفحول والكراريز التي كان تكرّر ذكرها في الحديث، انتظرت قليلا، وإن كنت أعرف ما الفحل وما الكُرّاز، ولكن لا أعرف لماذا خطر ببالي أني ولا مرّة أشغلت ذهني لأعرف لماذا سمّوا الكراز كرّاز، كما الكثير من الكلمات التي نستعملها كمفروغ منها لا تخطر على بالنا أصولها إلا بالصدف، فوجدتني أسأل مقاطعا…
ألتفت أبي إلي وفي وجهه نظرة غريبة، وبادرني ونوع من الاحتجاج يزيّن ملامحه:
- شو ما علموك في الجامعة ليش سموه الكُرّاز؟!
هذا الرد السريع غير المتوقع أضحك رفاقه واغتصب منّي الابتسامة وأنا المعتاد على أسلوبه، وطبعا لم يكن ينتظر مني جوابا، وسؤاله الاستنكاريّ لم يكن وليد صدفة البتّة فهو يعرف أني فعلا لا أعرف، ولكنه يعرف أيضا أنني أعرف أن ما حشْره الجامعة إلا مقولة احتجاج على تجهيلها والمدارس إيانا الكثيرَ من تراثنا، حسب ادعائه الدائم، وأجاب:
- لأنه الكبش الذي يضع عليه الراعي كُرزه (خُرْجه) ليحمله، وعلى رقبته يوضع كذلك الجرس، ويكون أمام القطيع ولا يكون إلا أجَمّ… يعني أقرع بلا شواهين… لأن الأقرن يشتغل بالنِطاح، ويكون مخصي كمان لأنه الفحل يتلهى بالعنزات… فهمت؟!
الكلّ، أقارب وجيران وأهل البلد، مجمع أن أبي كان خفيف الظل وساخرا لاذعا حسب السياق، والصياغات التي يتفتق عنها ذهنه في وصف الحالات التي تمر بها البلد ووصف ناس البلد، تضحك الصخر ولكن ليس قبل أن تفلقه أحيانا، وتبكيه ولكن ليس قبل أن تذيبه أخرى. والحقّ يقال إنه كان يرميها هكذا ودون سابق إنذار وعلى أصحابها وأمامهم وقلّما أخذ منه أحد على خاطره، وإن أخذ يجد ألف طريقة لمراضاته و-“على توْ الحارِك”، وإن لم يسعفه الأمر فيطب عليه بزيارة فتصفو القلوب وتصفو العقول ودون حتى ذكر الحادثة، ولا يغادر الباب قبل أن يدّب فيه أخرى وداعا فيبلعها ضاحكا، بعد أن يكون بلّعه التي قبل بمجرّد الزيارة.
صحيح أن أبي كان شيخا ومن بيت مشايخ، ولكن ليست الهيبة من مركزه ما جعل الناس تتحمّل كلامه الجارح المضحك من شدّة السخريّة، وإنما لأنه طيّب القلب، وعلى هذا أجمعوا، وما استعمل يوما أصله وفصله على الناس فأخذوا كلامه بطيب خاطر، ويبدو أن أكثر الكلام تقبّلا وولوجا للقلوب والعقول هو هذا النوع من الكلام الذي يجعل الإنسان يضحك من حاله وعلى حاله مرّة دامعا وأخرى واجما.
يوم طلّق أسعد، أحد أعضاء “الشلّة”، زوجته وبعد عمر طويل إذ كانت عقُرت بعد أن أنجبت له بنتا، والبنت في عرفه لا تخلّد اسما، كان يعرف ورغم رغبته في الولد الذكر، أنه يجازف، فقد لا يجد في جيله العروسة التي يتمناها، ربّما قلبه وأكيد جسده. وفعلا لم يكن الأمر سهلا، ولكنه وجدها عانسا تصغره بسنوات وجهها كالعُطبة، وتزوجها إيمانا أن هذا سيفي بالغرضين ولدا وجسدا، ويبدو أن الزيجة الجديدة طابت له فغاب عن الشلّة طويلا، ويوم أن اشتاقت البلاد لأهلها وحلّ أسعد دون سابق إنذار على الشلّة في يوم ربيعيّ في المنزول، وما كاد أحدهم أن يسأله: “شو وين هالغيبة ؟!” …حتى استّل أبي ردّا من قاع الدست: “من يوم ما تمرمغ في دار المشحرة ما عدنا شفناه…!”.
وفي لهجة أهل البلد “المرمغة” هي تمرّغ الحمير حكّا لجلودها على تراب ناعم بعض الشيء مخلوط بحصى صغيرة يتجمع بفعل الجرف في مستوى من منحدر، و”دار المشحرة” هي القطعة من الأرض التي تخصص لعمل الفحم وكان يجب أن يكون ترابها ناعما هو الآخر بعض الشيء، لتُدمل به الأخشاب دون أن يُبقي لها متنفسّا بعد أن تُولّع كي تُفحّم، ومع الزمن وكثرة الاستعمال يصير هذا التراب أسود، وفي تفسير كلام أبي المفسّر، فالحمار هو أسعد ودار المشحرة حضن زوجته الجديدة الفتيّة التي لون بشرتها كالعُطبة.
وضحك الجميع حتى الدموع وضحك أسعد حتى كاد أن يختنق وهو المعروف عنه كثرة الضحك على الشاردة والواردة، وما أن التقط أنفاسه وأسعفته حنجرته وأحس أنه يجب أن يثأر، حتى ردّ: “ليك مين عمال يحكي عبدِك مقمطون…!”.
خرجت “مَقْمَطون” هذه من فمه مقطّعة الأوصال مشوّهة، لأن أوتار حلقه كانت ما زالت ترزح تحت عبوديّة ضحكه. وأما “مقمطون” هذه فحكاية تعود لأيام صباهم، وقد كان “النّوَرْ” يجولون في القرى مقيمين على بيادرها، وفي أيام راحتهم من عروضهم البهلوانيّة كانت نساؤهم وبناتهم تدور على البيوت تشحذ وعلى الغالب بقايا طعام. و-“على الحكي” صادف أن كان أبي وأسعد وغيرهم من شلّة صباهم، يتحلقون على صخرة بين البيوت في الحارة استعملوها للديوان، وبعضهم يلعب “البُدْريس”، وال-“بُدْريس” هذا مخطط مربع مقسم إلى مثلثات يخطّونه بحجر حثّان على قطعة ملساء من الصخرة وأدوات اللعب عليه حصى صغيرة، والرابح هو من يستطيع أن يسبق غريمه في بناء خط مستقيم بحصاه.
حطّت على الحلقة نوريّة وأصرّت وقد رأت في أياديهم الحصى أن تضرب لهم في “الوَدَع” طبعا طمعا بما سيأتي بعده، ولم يعرفوا لماذا حطّت عينها على أبي وأصرّت أن تقرأ له كفه. للتخلّص منها وقد كان النّوَر حسب الرواية “ثقيلين دم” قبل أبي، وكان يجب طبعا أن تعرف تفاصيله وأهمها اسمه، فسألته وأجابها بسرعة خاطره وخفّة ظلّه: “عبدِك مقمطون” وسط ضحك الشلّة ودون أن تفهم النوريّة سرّ الضحك، فهمُّها كان أن تحظى ببعض بقايا أكل تملأ به وعاءها بعد أن تقرأ له الطالع، وراحت تفرك كفّ أبي وتقول:
- إسمع يا مقمطون… أنت كذا وكذا…
وطالت هذه الكذا والكذا… وبعد كلّ كذا كذا…”يا مقمطون”. إلى أن وصلت وقد عدّلت جلستها وتغيّرت ملامحها، وقد وصلت الذروة:
- في صبيّة في هالحارة بتحبّك يا مقمطون… وما عارفة توصلك وهي مليحة وانت تستاهلها…
وكان أبي قد اكتفى من قراءة طالعه وقد ضحك وضحك القوم كفايتهم، فعاجلها:
- أيوه… هاي حمارة دار عمّي اسعيد…
ما كاد ينطق آخر حرف حتى كانت حصى “البُدْريس” التي استعملتها لضرب الودع وقراءة الكف تتطاير في الهواء، وناولته كفا على سحنته لو كان أكله في غير ذلك لكان له ما بعده، لكنه تقبّله ضاحكا رغم المفاجأة والألم، وابتعدت النوريّة مسرعة خوفا من ردّة فعله، لكن الكف كان قد راح في جلده أو على الأصح سحنته وسط ضحكه وضحك الشلّة، ولم يكسب أبي من قراءة طالعه إلا اكتشاف حبّ حمارة دار عمه اسعيد له، وصفعة النوريّة، وأن أضاف على اسمه اسما لا معنى له، صارت الشلّة تناديه به أوقات الضحك.
كان يوم القعدة الضُّحَوي ذلك غداة أيام انتخابات كما قلت، وأبي كان شارك فيها مرتين أو ثلاثة بعد النكبة والاحتلال في ال-48 ، فأبي وجيله لم يكن دخلَ في عقولهم استقلال وغير استقلال، ورحل والكثير من أبناء جيله ورغم أنهم قبضوا “تأمين وطني” من الدولة، وكان أحيانا واحتجاجا عن الحالة وإهمال أولاد اليوم ذويهم، يقول: “لولا الخِخَام (الحاخام بالعبريّة كناية عن الحاكم اليهودي رحل أبي ولا أعرف من أين جاء بهذا المصطلح) لَكَان ثلثين الختياريّة مات من الجوع”، ورغم ذلك ظلّ بالنسبة لأبي وأجياله مجيء اليهود احتلالا، غير أن أبي قطع على نفسه عهدا ووعدا أن لا يعود وينتخب بعد ما صادرت الدولة أرضنا، لكن الانتخابات والتي هي عندنا واحدة في قفا الثانية مرّة كنيست ومرّة مجالس، كانت وظلّت تأخذ حيّزا من حديث الناس ولم يتخط هذا الحديث شلّة أبي.
في ذلك اليوم الربيعيّ المشمس الذي قررت فيه أن أحشر نفسي في جلستهم، كان كلّ يجتهد في الانتخابات وما قبلها وما بعدها، حسب معرفته وما تيسّر له وما سمعه ذلك الصباح من نشرة أخبار دار الإذاعة الإسرائيليّة طبعا، كانوا يذكرون أسماء الأحزاب والقوائم وقد شوهوها إيما تشويه وهي أسماء عبريّة لا يفقهون معانيها، وأكثر كانوا يعرّجون على المرشحين العرب في تلك الأحزاب مجمعين أنهم “فص كُرْ لا ينفع ولا يضر”، ليستدرك بعضهم قائلا: “لا… لا… صحيح فص كر لكن يضر”.
الحق يقال، أن في حديثهم كان الكثير من إصابة كبد الكثير من الحقائق، وإن صاغوها بلغتهم وشبهوها بتشبيهات من حياتهم الفلاحيّة، لكن إصاباتهم كانت أبلغ كثيرا من خطب بعض الزعماء حينها واليوم. أنا من ناحيتي لم أشارك في النقاش وأنا السياسيّ حتى العظم ولا حتى بملاحظة، هكذا أردت أن أسمع ما يقول هؤلاء القوم عن الانتخابات التي لم تهديء لي مرّة بالا، خصوصا وأن كلامهم كان ينضح بعدم رضا عمّا آلت إليه أحوالهم وأحوال العرب عامّة، وانتظرت بفارغ الصبر أن يجيء ذكر الفحول والكراريز الذي كان سبب حشري نفسي في قعدتهم هذه، و- “يوريكا”… عندما شجّ عقلي حتى الصميم كلام قاله أبي بغضب محرَّرا كليّا هذه المرة من سخريته اللاذعة، والشرر يكاد يتطاير من عينيه، إذ قال:
- نسيتوا الحديث الشريف: كما تكونوا يولّى عليكم؟!
- …..
- إن كنّا “….. “. دبّها كلمة لم اعتد سماعها أو مثيلاتها منه، كان الزعماء فحول… وإن كنّا أو صرنا “…..” أردفها الأولى وأصعب منها، يكون ويصير الزعماء كراريز… وشو بدكوا من الكراز الأجم والمخصي غير حمل خُرج الراعي والجرس… والمشي على الراس كمان؟!
ردّ أسعد باقتضاب وكأنه يفتّش عن عزاء:
- إن خِلْيت بِلْيت ….
لا أعرف لماذا ساد بعد كلام أبي وردّ أسعد المقتضب الصمت على كلّ الشلّة، لم يقطعه إلا ظهور أمي تحمل “مَغْلي الزّوفة”، تناولْتُه منها مقدّما إياه لهم ليس لأن ذلك ممنوع على أمي كما في أيامنا وفتاوى آخر زمن، وإنما راحة لها. وإن كانت العادة أن يشكر كلّ بالمجاملة التي تخطر على باله مقدّم الشاي، إلا أنهم تناولوا الفناجين دون أن أحظى بكلمة مجاملة فلم ينبس أحدهم ببنت شفة، وراح كلّ يرشف الشاي من فناجين العظم الصيني بصمت، أما أنا فقمت وغادرت دون استئذان ولم أشاركهم شرب شاي الزوفة، ربّما لأجد لي “مَلْطى” أتفقد فيه فحولتي.