محور المقاومة في فلسطين و الثورة الإيرانية

أحيت الجمهورية الإسلامية الإيرانية يوم الإثنين الماضي،الذكرى الأربعين لقيام الثورة الإسلامية التي اندلعت في 11شباط/فبراير 1979،بوصفها حدثاً تاريخياً تغييرياً مهماً في عموم العالم الإسلامي،ودافعًا نضاليًا سياسيًا قويًا لمحور المقاومة في فلسطين من أجل تحرير الأرض السليبة من الاستعمار الاستيطاني الصهيوني المدعوم من الإمبريالية الأمريكية.

فالثورة الإسلامية الإيرانية بوصفها ثورة شعبية عميقة تضاهي في حدثها ومدلولاتها الثورات الكبرى التي حصلت في القرن العشرين،ولاسيما الثورتين الروسية والصينية،شكل انتصارها  أهم حدث في تاريخ الإسلام والمسلمين في الثلث الأخيرمن القرن العشرين،وهناك ثلاثة عوامل أساسية صنعت هذا الانتصار،وهي:إسلامية الثورة،حيث الإسلام هو المفجِّر لطاقات الأمة والمحرِّك لها، ثم القيادة الإسلامية الثورية التي تمثلت في الإمام الخميني رضوان الله عليه والعلماء الذين التفوا حوله،وأخيراً الجماهير حيث انخرط في الثورة الشعب بأكمله،ولم تكن ثورة طبقية ضد طبقة ولم تكن انقلابًا عسكريًا يوصل فئة من الجنرالات إلى الحكم.

أما عن منجزات الثورة الإسلامية فلا يخال أحد أن هذه الثورة قد قلبت الموازين على كل الأصعدة المحلية والإقليمية والدولية،وشملت آثارها كل المجالات السياسية والاقتصادية والدولية، وشملت آثارها كل المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية والاجتماعية والحضارية وغيرها،ويبقى أهم إنجاز للثورة وهو تأسيس الجمهورية الإسلامية وإقامة النظام الإسلامي،وتقديم  الدعم الكامل لمحور المقاومة الذي يقاتل العدو الصهيوني في فلسطين المحتلة.

لقد خاض الشعب الإيراني المسلم في طور الانتقال من الثورة إلى الدولة واحدة من أهم وأخطر التجارب في حياة الشعوب،حيث خاضت الثورة سنوات من الحرب الطاحنة وواجهت العديد من المؤامرات التي يحيكها الاستكبار العالمي متمثلاً بالإمبريالية الأمريكية،للنيل من الثورة الإسلامية، لكنّها بعون الله خرجت من كل هذه المحن ظافرة قوية تحسب لها قوى الاستكبار والشر ألف حساب.

إنّ ما يشد قوى التحررالوطني في العالمين العربي والإسلامي للثورة الإسلامية في إيران،هو تقديمها خطابًا إسلاميًا راديكاليًا في تناوله مسألة الصراع مع الإمبريالية الأمريكة والكيان الصهيوني،وفي مناهضته للإيديولوجيات الغربية بشقيها الليبرالي والماركسي.فالثورة الإيرانية قامت لتحقيق برامج الإسلام في محاربة الإستبداد الأسود الذي مارسه الشاه، ومحاربة الفوارق الطبقية الطاغية ،ومحاربة الصهيونية العالمية والإمبريالية الأميركية،والدعوة إلى تحرير فلسطين،وفي القلب منها القدس.ومع ذلك، لم تكن المواقف العربية بالنسبة إلى إيران بمستوى موقفها المبدئي ضد الاحتلال الصهيوني.

ما يجب توضيحه هنا وربما يغيب عن أذهان البعض أنّ موقف الجمهورية الإسلامية من القضية الفلسطينية نابع من الإسلام،وهذا ما يمليه الإسلام على إيران أن تتعامل مع كل القضايا بشكل مبدئي .فهذا يعني أن الولاء للإسلام هو الذي يدفع إيران إلى تحمُّل كل تبعات موقفها من نصرة قضية فلسطين وعلى أساس هذا الولاء تختار الجمهورية الإسلامية سياستها ومواقفها الملائمة في نصرة القضية الفلسطينية والشعب المحروم في فلسطين.وإلاّ ما الذي يدفع إيران أن تسمّي في طهران شارعاً باسم فلسطين أو حتى باسم الشهيد فتحي الشقاقي الفلسطيني،وليس هناك شارع باسم مصدق مثلاً وهو من أهم الزعماء بل الأبطال القوميين الإيرانيين.

والواقع أنّ موقف الجمهورية الإسلامية من القضية الفلسطينية يُعَرِّي الكثير ممن تاجروا بهذه القضية عبر الشعارات الرنانة وانتهى بهم الأمر أن يرموا أنفسهم في أحضان الكيان الصهيوني ، حيث إن “إسرائيل” في عقيدة الجمهورية الإسلامية هي غدة سرطانية يجب استئصالها كما قال الإمام الخميني (رضوان الله عليه). وقال أيضاً عنها: “إن إسرائيل جرثومة فساد غرست في قلوبنا ويجب التوحد لاستئصالها”.

الثورة الإيرانية هدمت أهم قلعة من قلاع الإمبريالية الأمريكية في إقليم الشرق الأوسط،ومع ذلك،لم يتحقق قيام تحالف إيراني ـ عربي،يكون بمنزلة  الحلف الجبهوي لمواجهة أعداء الأمة العربية والإسلامية.فالشعب الفلسطيني لم يعد ينتظر شيئًا من الأنظمة الرسمية العربية لتقديم الدعم اللازم للمقاومة الفلسطينية،على الصعد كافة، بوصفها أنظمة خاضعة وتابعة للإمبريالية الأمريكية الرامية من خلال حركتها الدبلوماسية النشطة في المنطقة إلى  دفع الدول العربية باتجاه تسريع قضية التطبيع مع الكيان الصهيوني،والتمهيد لمنظومة الشرق الأوسط الجديد بقيادة الكيان الصهيوني،مستغلة تفكك النظام العربي الذي لا يملك أي مشروع مستقبلي للمنطقة العربية، في ظل إصابته بالإعياء الشديد،وتنصله من التزاماته وقضاياه،ولاسيما أنّ المسؤولين العرب ليسوا على استعداد حتى للممانعة وهم يشعرون بأن القضية الفلسطينية أصبحت عبئًا عليهم،ويرغبون في تقديم التنازلات للتخلص من هذا العبء.

ولايزال النظام الرسمي العربي غير قادر على تقديم أجوبة مقنعة وجادة ومسؤولة للتحديات التي تواجه الأمة العربية. ومازالت معظم الأنظمة العربية تقول للإدارة الأميركية الحالية ولسابقاتها أيضا، ماقاله المتنبي لسيف الدولة: فيك الخصام وأنت الخصم و الحكم…ورغم أن العرب والإيرانيين ينتمون إلى أمة إسلامية واحدة يجمعها ويوحدها الإسلام الذي ذابت فيه كل القوميات والأعراق والأجناس والألوان والألسنة، الإسلام الذي صنع بتلاقح ثقافات وخبرات الشعوب التي انصهرت فيه أعظم حضارة عرفها التاريخ ولا ينكر أحد أن إيران كان لها مساهمة خلاقة ومبدعة ومميزة في هذه الحضارة، فإنّه مع ذلك،تعيش العلاقات بين العرب والإيرانيين وضعًا مضطربًا بل عدائيًا،بسبب الدعم الذي تقدمه الجمهورية الإسلامية الإيرانية لمحور المقاومة من أجل تحرير فلسطين،أولاً،وثانيًا بسبب هيمنة الإمبريالية الأمريكية على مقررات الأمة الأمة العربية والإسلامية ،والتحكم  في واقعها،ورهن مستقبلها لخدمة مصالحه وأهداف الكيان الصهيوني ،وليبقى العالم الإسلامي والعربي منقسمًا، متخلفًا ومحرومًا.

لعل الأمر الأكثر إثارة للجدل،والأكثر خطورة من التشدد تجاه إيران،هو تعزيز العلاقات السياسية والاقتصادية بشكل علني،بين الممالك الخليجية والكيان الصهيوني وفي سياق ما يبدو تعزيزاً للعلاقات مع ضامني الأمن الغربيين، وتقوية للجبهة المناهضة لإيران، إضافةً إلى أنه نتيجة بناء روابط تجارية مثمرة مع أحد الاقتصادات الأكثر تطورًا في المنطقة، يظهر أن بعض الحكام الخليجيين يرغبون في التعاون والتآزر الأمني مع الكيان الصهيوني  بشكل علني.فهاهوالمحور الأميركي السعودي الصهيوني غير المسبوق يرتسم في الشرق الأوسط، إذ  أنّه بمجرد أن تحوّل تنظيم “داعش” الإرهابي إلى العدم بدأت الصراعات التي كانت نائمة، أو التي دُفع بها إلى مستوى ثانوي، فترة ذروة وانهيار مشروع التنظيم، تستيقظ في الشرق الأوسط..

وهكذا أيضاً أتاح القضاء على تنظيم “داعش” ظهور الصراع الخفي بين المملكة السعودية و إيران، المدرج تحت اسم فضفاض وخادع،هو”الحرب بين السنة والشيعة”،هذه النارعادت للاشتعال، تذكيها الولايات المتحدة، من خلال قرار انسحاب الرئيس دونالد ترامب من الاتفاق النووي بين إيران والدول العظمى الست. فمنذ زيارة ترامب للسعودية في أيار عام 2017 لم تتوقف عملية التحشيد العسكرية والسياسية ضد الجمهورية الإسلامية في إيران على نية استهدافها تحت عناوين نووية وصاروخية واتهامات متعلقة (بنفوذها) المبالغ فيه في إقليم الشرق الأوسط.ويرتسم حالياً في المنطقة محورغير مسبوق بين السعودية والكيان الصهيوني   والولايات المتحدة الأمريكية ،توحده الكراهية  المشتركة للجمهورية الإسلامية الإيرانية ، وإرادته في لجم نفوذها  الإقليمي.

فالكيان الصهيوني والمملكة السعودية لا يمكنهما أن يقبلا سعيَ إيران لكي تصبح قوة نووية ، والذي تريد منه إيران تأمين تفوقها الاستراتيجي،لهذا انسحبت واشنطن من الاتفاق النووي وفرضت على إيران عقوبات اقتصادية قاسية .وهناك مساعِ لتشكيل تحالفات عسكرية إقليمية من أجل العدوان عليها أو محاصرتها،لا سيما في ظل إعلان قرار الانسحاب الأمريكي من سورية .

إن الروابط التاريخية والعقيدية والجيوستراتيجية والمصالح المشتركة التي تربط إيران والعرب كبيرة جداً،وسقوط الشاه الحليف الاستراتيجي للكيان الصهيوني،وانتصار الثورة الإسلامية كان يجب أن يكون إضافة لأهمية العلاقات العربية الإيرانية ،ويفتح الباب إلى مزيد من التعاون والتضامن،لكنّ أعداء الأمة العربية والإسلامية أشعلوا الفتن والمؤامرات،ولا زالوا،بين إيران والعرب حتى تهدر طاقات الأمة ويستفيد أعداؤها.

ويعتبر محور المقاومة الدور الإيراني ضروريًا في مواجهة  الكيان الصهيوني،وهذا ما يرتب العمل من أجل إيجاد جبهة إسلامية عريضة لمواجهة التحديات الاستكبارية الصهيونية.في هذا السياق،يعمل محور المقاومة على ضرورة تحقيق التضامن العربي الإسلامي ، لمواجهة التكتلات العملاقة  التي تتشكل في العالم. فمنذ غزو العراق عام 2003 ،ووصولاً إلى حرب تموز على لبنان 2006،وانتهاءًا بالحرب الإرهابية الكونية المستمرة على سورية منذ نحو ثماني سنوات ،تزايد العدوان الأمريكي-الصهيوني-الخليجي تجاه دول وشعوب المنطقة ممن يرفضون سياسات الهيمنة والإملاءات الأمريكية والصهيونية.

وقد يكون مفيدًا هنا التذكير بالنوايا الأمريكية بعد احتلال العراق مباشرة، حيث أكد الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش أنّ النية موجودة للزحف نحو طهران ودمشق لإخضاعهما كما خضعت بغداد في سنة 2003، فجاءت  الشراكة الأميركية-الصهيونية  لتفجرحرب تموز 2006 على محورالمقاومة في لبنان، حيث تحولت تلك الحرب إلى ثلاث حروب متداخلة ومتشابكة مع بعضها بعضا:الحرب بين حزب الله  والكيان الصهيوني،والحرب من أجل مستقبل لبنان،والحرب الإمريكية الإيرانية المتعلقة بإعادة رسم خريطة المنطقة.

مع بدء الحرب،قالت كوندوليزا رايس:إنّ العالم يشهد مخاض ولادة شرق أوسط جديد، بيد أن هذه الفكرة بالذات ليست جديدة، وشمعون بيريز ليس صاحبها كما يعتقد كثيرون.المشروع لا يعني أن يندمج الكيان الصهيوني في المنطقة العربية ويصبح جزءًا من المنطقة ومن تاريخها، إنّما أن يصبح الكيان الصهيوني هو الرائد الأمني والعسكري والسياسي والاقتصادي.هناك بعد آخر للفكرة أشد خطورة من البعد الجغرافي يتعلق بالانتماء والهوية.صموئيل ساندي بيرجر مستشار الأمن القومي للرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون يهودي وكان يتمتع بنفوذ واسع. في كلمة ألقاها في مقر”منبر السياسة الإسرائيلية” في واشنطن في أواخر التسعينات من القرن الماضي توقع أن تكون منطقة الشرق الأوسط في العشرين سنة التالية غير عربية،وأنّ الجيل القادم غير مؤهل لأن يحمل الهوية العربية،أي أنّ المنطقة العربية تتحول إلى منطقة شرق أوسطية لا هوية جامعة لها،والانتماء الثقافي والقومي يتحول الى انتماءات،وتكون “إسرائيل” مركزهاونواتها والمحرك الذي يحركها.أي أنّ مشروع الشرق الأوسط الجديد ليس بديلاً لخريطة سايكس بيكو بالمعنى الجغرافي والحدود فحسب، إنما هي بديل بالمعنى الأشمل وهو الثقافي.

والواقع أن المتابع لتطور الأحداث التي شهدتها المنطقة منذ انطلاقة المقاومة عقب الغزو الصهيوني للبنان عام 1982،وإخفاق المفاوضات الصهيونية السورية،وتقهقر الجيش الصهيوني من جنوب لبنان بفعل ضربات المقاومة اللبنانية في آيار/مايو 2000،وانهيارمسارالسلام الفلسطيني- الصهيوني،والإخفاق الأميركي المتمثل في الحرب على العراق، والحرب الكونية لإسقاط الدولة الوطنية السورية ،والحصار الاقتصادي المفروض على إيران،كل هذه الاحداث المترابطة تؤكد حقيقة واحدة أن المقاومة أصبحت في نظر الادارتين الاميركية والصهيونية تشكل العقبة الأصعب تجاوزها لولادة شرق أوسط جديد أميركي-صهيوني  .

إنّ أول مستلزمات تكوين جبهة أو حتى حد أدنى من التفاهم والتنسيق أو التعاون بين دول المنطقة هو إدراك حجم الخطر الذي يتهدد الأمة العربية والإسلامية من الوجود الصهيوني. فالدول العربية  و الإيرانية تملك الموقع الجغرافي،وتملك النفط وتملك الممرات الإقليمية والدولية الاستراتيجية،وتملك الطاقات الجيولوجية والبشرية الهائلة لكن في قلب هذا كله غرسوا لنا خنجراً اسمه  الكيان الصهيوني مسلح بأكثر من 200 رأس نووي لا أحد يتكلم عنها والحديث فقط هو عن خطر إيران.

ومع تعاظم الخطر الذي يتهدد القدس في ظل اتفاقات الاستسلام التي وقّعتها قيادة منظمة التحرير الفلسطينية مع العدو الصهيوني، لا يسعنا إلا أن نتذكر بإجلال الإمام الخميني (رض) الذي أعلن اليوم العالمي للقدس في الجمعة الأخيرة من رمضان من كل عام. وفيما تعتبر حركة المقاومة في فلسطين أن علاقتها مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية هي علاقة استراتيجية بسبب المواقف المبدئية التي اتخذتها الثورة الإيرانية من القضية الفلسطينية،فإنّه بالمقابل تعتبر الأطراف المعادية (الإمبريالية الأمريكية و الكيان الصهيوني و الأنظمة الرجعية العربية)لنضالات الشعب الفلسطيني ، محور المقاومة في المنطقة العربية  المتكون من سورية،وحزب الله وحركتي حماس والجهاد الاسلامي ، بأنه تحول إلي ورقة في أيدي ايران في صراعها مع الولايات المتحدة ،ولاسيما أنه يتلقي دعمًا سياسيًا وماليًا من قبل طهران .

في ضوء هزيمة الاستراتيجية الأمريكية-الصهيونية الخليجية في إسقاط الدولة الوطنية السورية، وفشل  كل الرهانات الأمريكية والصهيونية على تقسيم سورية إلى دويلات قائمة على أسس طائفية ومذهبية وعرقية،انتصر محور المقاومة، الذي كانت إيران وروسيا من أبرز المشاركين فيه.من هنا جاء التصعيد الأمريكي –الصهيوني -السعودي ضد إيران والدعوات لتشكيل تحالفات عسكرية واسعة لمهاجمتها،والتلويح بالحرب في المنطقة ،كنوع من الانتقام والثأر أو التعويض عن الهزائم والخسائر التي لحقت بالمشروع الأمريكي الصهيوني التركي الوهابي، ومحاولة بائسة لنقل المعركة إلى إيران.

وبعد مرور أربعة عقود على قيام ثورتها،لاتزال الجمهورية الإسلاميةالإيرانية تقاوم استراتيجية الحصاروالخنق الاقتصاديالمفروض عليها من قبل الإمبريالية الأمريكية،وتعتبر القضية الفلسطينية ،والصراع مع الكيان الصهيوني،محوراستراتيجيتها الجوهرية في المنطقة.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى