تدجين الشعوب.. فلسفة التطويع والإخضاع

بقلم : حسن العاصي

تمكنت الأنظمة العربية عبر العقود التي أمضتها جاثمة فوق تطلعات الشعوب العربية، من ترويض هذه الشعوب وتخليصها من العنفوان الذي كان يميزها، وتحويلها إلى مجموعات من القطعان والطوائف والملل والمذاهب والأعراق، أقوام ضعيفة وخاضعة وصاغرة، مذعنة ومستسلمة لمصيرها، وعاجزة غير قادرة لا على تغيير واقعها ولا حتى على تحريكه.
سياسة التهجين التي اعتمدتها النظم العربية تواصلت عبر عقود متتالية، وأدت إلى محصلة مرعبة في الواقع العربي، حيث تجلت في المستويات المفزعة لمعدلات الفقر والأمية والتخلف الحضاري، وانتشار الجهل وشيوع القهر والاستبداد، وتفتت النسيج الاجتماعي، وظهور النزعات المذهبية والعرقية.
من الإنجازات العظيمة للأنظمة العربية، نجاحها في تحديد آليات واضحة لدى المواطن العربي، للربط الجدلي بين العقاب الصارم الذي لا يرحم أحداً ولا مهرب منه، وبين أية مظاهر تشير إلى الانحراف عن رؤية السلطة، أو أي سلوكيات تمرد أو رد فعل أو أقوال مخالفة من قبل البشر. ونجحت الأنظمة وأدواتها الأمنية في ترسيخ هذا المفهوم في عقول المواطنين، والذي يعني أن أي موقف مخالف سوف يعني الردع وإنزال العقاب، إذن لا بد من الخنوع والانقياد للإفلات من العقاب.
جميع الشعوب العربية تدرك أن بعض الأنظمة العربية قد اتقنت بجدارة فنون الترهيب والتفزيع والوعيد، إذ أصبح الخوف والرهبة هما الصفتان المشتركتان – تقريباً- لجميع هذه الشعوب. الخوف والرعب من الاعتقال التعسفي، الخوف من التعذيب والأذية، الرعب من جدران السجن، الخشية من الفقر والحرمان، الخوف من تالي الأيام. خوف ورعب وصل إلى حدود الشلل والانكفاء، مما أحدث حالة من الاغتراب الداخلي لدى المواطن العربي، فهو لا يشعر بهويته وانتمائه، ولا يشعر بحريته على قول ما يريد، تراه يكن البغض للنظام السياسي لكنه لا يجرؤ على الإفصاح، فإن فزعه من العقاب تجعل من إنكاره لنفسه ومواقفه وأقواله تصل إلى الدرجة العليا.
تستخدم الأنظمة العربية سياسات متعددة لإخضاع وترويض شعوبها، من ضمنها ما يعرف بسياسة العصا والجزرة. والجزرة هنا هي الانقياد والتحكم الناعم من خلال استغفال الشعوب بشعارات الحرية والديمقراطية، لكن أداة النظام للحكم تظل دون تغيير، ويظل الاستبداد جوهره. لذلك تعمد النظم العربية على إقامة انتخابات برلمانية ورئاسية وتفاخر بذلك لتغطية ما لا يغطّى من السياسات الأمنية التي تحكم الناس بواسطتها. حرص هذه الأنظمة على المظاهر الخادعة للديمقراطية شبيه بحرص السجّان على طلاء جدران السجن الخارجية بألوان زاهية.
نظرية التعلم الشرطي
قام العالم الفسيولوجي الروسي “إيفان بافلوف” صاحب أهم النظريات الترابطية، وهي نظرية “التعلم الشرطي” في إجراء تجربة على أحد الكلاب، ولاحظ أن لعاب الكلب يسيل عند تقديم الطعام له، ثم ربط تقديم الطعام بقرع الجرس، ومع التكرار أصبح لعاب الكلب يسيل حين قرع الجرس حتى من غير وجود الطعام. هذه التجربة أوصلته لصياغة نظريته الشهيرة في علم النفس وفلسفة السلوك، حيث أظهرت التجربة تكون ارتباط مثير شرطي واستجابة طبيعية، من خلال تكرار الاقتران بين المثير الشرطي والمثير الطبيعي – وهو هنا الطعام- الذي يحقق الاستجابة الطبيعية أصلاً، بحيث يصبح المثير الشرطي – وهو هنا صوت الجرس- قادراً على إثارة الاستجابة وحده.
ويفسر بافلوف حدوث هذا النوع من الارتباط إلى أسس فيسيولوجية بحتة مرتبطة بوظائف الدماغ.
على الصعيد البشري يتم توليد الكثير من المخاوف بذات الأسلوب الذي اعتمده بافلوف، خاصة لدى الأطفال والشباب، من خلال ربط المخاوف المشترط بمثير معين مع التكرار. فإن تم وضع سجين في غرفة مقفلة وتم تعذيبه بصدمات كهربائية على فترات متتالية مسبوقة بصوت ما، أياً كان هذا الصوت، فلنقل إنه صوت الحاكم أو الرئيس، فما يحصل أنه بعد عدد من المرات سوف يستجيب السجين لصوت الحاكم بنفس الطريقة من الخوف والفزع التي كان يستجيب بها للصدمة الكهربائية، حتى لو لم يتعرض لها بالفعل. بعبارة ثانية، إن السجين قد أشرط للاستجابة لمثير محايد.
إن الكثير من المخاوف البشرية يتم توليدها بذات الطريقة السابقة، وهذا ما يفعله – بعض- الحكام والأنظمة العربية لتدجين الشعوب وإخضاعها، وربط سلوكها وموقفها من السلطة باشتراطات تجعل الشعوب ترتعد خوفاً كلما رأت صورة القائد أو سمعت صوته، وترسيخ ارتباط الزعيم بالوطن، ارتباط قيام الأنظمة بالتضييق على الحريات والمصلحة العليا للوطن والمجتمع، وهكذا دواليك يتم دفع المواطن العربي نحو دوّامة من الخوف والهواجس والقلق والاضطراب. كل هذا يجري التخطيط له بعناية في غرف سوداء مغلقة، من قبل الأجهزة الأمنية التابعة للحاكم، حيث يتم توظيف علم النفس السلوكي لترويض البشر من قبل متخصصين نفسانيين واجتماعيين وأمنيين.
أساليب الترويض
تقوم الأنظمة باعتماد سياسات لترويض الناس عبر طرق وأساليب منها القيام بتنظيم الكثير من المهرجانات والفعاليات والنشاطات الرياضية والفنية، وإقامة دوريات كرة القدم وتغطيتها إعلامياً، وجعلها حدثاً مهماً في حياة الناس للخروج قليلاً من واقعهم المعيشي وضنك الحياة. ثم المبالغة في الاحتفال بالأعياد الوطنية وابتداع مناسبات وطنية في محاولة تعميق الشعور الوطني لدى المواطن، وترسيخ انتمائه وهويته. وعرض صور الحاكم أو الرئيس في المؤسسات الحكومية والخاصة، في الجامعات والمؤسسات التعليمية، في الفنادق والمنتجعات السياحية، في المصانع والمزارع، في البيوت والشوارع والأزقة. وأهمية عزف النشيد الوطني حيث يرفع العلم الوطني بموازاة رفع صورة الحاكم. ولا تنسى ربط أي إنجاز يتحقق – هذا لو وجدته- باسم الحاكم والرئيس، أي إنجاز وأي نجاح وأي فوز في مباراة رياضية ما كان له أن يتحقق لولا حكمة وبصيرة الحاكم. وبعد ذلك يصبح الوطن بما يتضمنه من شجر وحجر وبشر مختزل في شخص الحاكم، بل ملك للحاكم وعائلته.
ومنذ انتشار وسائل الإعلام السمعية بداية عبر البث الإذاعي وأجهزة الراديو التي كانت منتشرة بكثرة في الأوساط العربية، ثم البصرية ودخول التلفاز إلى البيوت، أدركت الأنظمة أهمية هذا الجهاز الساحر، في التأثير على عقول المواطنين والتلاعب بها وترويضها، لأن ما يبث من خلالها من معلومات وبيانات ومواقف ورؤى وأية مضامين أخرى، يؤثر بشكل مباشر في وعي وإدراك الناس. لذلك تستخدم الأنظمة السياسية الوسائل الإعلامية لتلميع صورة الحاكم وتجميل نظامه، وتوجيه الرأي العام المحلي نحو تمجيد وتوقير هذا الرئيس ونظامه حرصاً على الوطن، ويصبح كل صوت معارض، وكل من يوجه انتقاد للزعيم أو لنظامه هو خائن للوطن. ثم يتم توظيف وسائل الإعلام لتمرير رؤية الحاكم وأفكار نظامه حول مختلف القضايا بدءً من طريقة الحاكم في طهي الكوسا حتى فطنته في اكتشاف طبقة الأوزون.
ناهيك عن الملصقات الكبيرة واللافتات الضوئية التي تنتشر في الطرقات والميادين والجسور، ملصقات لصور القائد والزعيم والرئيس والحاكم بأمر الله، صور بملابس مدنية وأوضاع مختلفة، وصور بالزي العسكري مدججة بالنياشين والأوسمة حتى لو كان الرئيس لا يميز بين الرقيب والعريف. ولافتات تمجد الحاكم الحكيم، العالم العليم، الحصيف المتبصر، الرزين النجيب، الألمعي الرشيد. يتم وضع اللافتات وصور الرئيس في أماكن مرتفعة مختارة بعناية،
لتظهر طبيعة العلاقة الفوقية- الدونية التي تربط المواطن بالحاكم، وتذكره دوماً أن هناك من يحكم ويتحكم بجميع حركاته وأفعاله وأقواله، فتترسخ لدى المواطن المسكين الصورة الفوقية للسلطة، بحيث يصبح خاضعاً بشكل لا إرادي لها.
أما حين يرصد الحاكم ونظامه أية بوادر تذمر من المواطنين، أو حين يريد تمرير قانون لا يقبله الناس، فيلجأ إلى إغراق الشعب في قضايا هامشية جانبية، يقوم النظام في افتعالها لإشغال الناس عن مطالبهم الأساسية. إذ يتعمد النظام الحاكم افتعال خلافات بين مكونات المجتمع، وينشر العداوة والفرقة فيما بينهم، عبر إثارة المشاحنات والتناحر المذهبي والفقهي والطائفي والعرقي والطبقي والمناطقي. ويتعمد الحاكم ونظامه بخلق نوع من الفوضى ليثير ردود فعل معينة عن بعض الأطراف أو المذاهب في المجتمع من جهة، وحتى يتمكن من تبرير القمع والملاحقات الأمنية لاحقاً للمعارضين من جهة أخرى.
الحاكم مبدع في إشعال الحرائق وافتعال الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والأمنية في المجتمع لإحكام سيطرته على البشر. حيث يقوم نظام الحاكم باختلاق أزمة معينة ويتولى إعلامه ضخ الشائعات المفبركة والمضللة حولها، ثم يتقدم الحاكم الحاذق الرصين حاملاً الحلول للمواطنين، يتم بموجبها تنازل الناس عن بعض حرياتهم وحقوقهم لتبديد غضب الجميع ولينتصر الوطن بانتصار الحاكم.
كيف يتم التخطيط
بداية يعمد النظام إلى استكشاف وتحديد مكامن القوة والضعف لدى الشعب، من خلال أجهزته الأمنية وعيونه المنتشرة في كل ركن. ويتم التعرف وحصر أسماء المثقفين والمفكرين والعلماء الذين يتبنون مشروعاً ديمقراطياً تنويريا، وتحديد القوى والشخصيات التي تسعى أو تفكر في التغيير، وكذلك تحديد أي شخص يحمل فكراً مخالفاً أو ناقداً. ثم يقوم النظام بالقضاء على مصادر قوة الشعب، أو إضعافها إن تعذر القضاء عليها لسبب أو لآخر. يعمل على شل فاعلية الأحزاب والحركات والأفراد، ويلاحق المعارضين، وفتح السجون بتهم أو بدون تهم، تشويه الخطاب النقدي لبعض المفكرين والعلماء، حتى تشويه سمعتهم الشخصية، يعمل على الإقصاء التام لكافة الأصوات المخالفة. يعمد على فرض رقابة صارمة على حركات الناس وأفعالها واقوالها، حتى وأنفاسها، يعمل ما يستطيع لفرض رقابته ووصايته على مصادر العلم والمعرفة والمعلومات، ويحجب مواقع في الشبكة العنكبوتية يعتبرها خطرة على نظامه.
ثم يسعى الحاكم ونظامه إلى إغراق الشعب بكل ما يلهيه عن مطالبه الرئيسية، وكل ما يشتت تركيز الناس ويمنعهم من التفكير بواقعهم، ليصبح تأمين القوت اليومي الشاغل الأساسي للناس. فيتحول الوطن إلى مناسبات لا تنتهي، ومهرجانات فنية وأدبية، وأيام وطنية، وكرنفالات رياضية، ومسابقات يشارك بها البشر تنظمها وسائل الإعلام بجوائز مالية مغرية. ويقوم الحاكم بمنح الامتيازات للجهلة والسفهاء الذين يتصدرون المشهد الإعلامي سياسياً وثقافياً واجتماعياً، وعلى الأصعدة الأخرى المتعددة، بينما صوت المثقفين والعلماء يتم طمسه أو اعتقاله.
تعمد الأنظمة إلى ضرب منظومة القيم والمثل لدى المواطن، من خلال جعل الحياة ضنكة وغير ميسرة، مما يجعل معها الإنسان لا يعود يهتم بالقيم، وتصاب روحه المعنوية بمقتل، إذ يصبح عاجزاً وانهزامياً وتبريرياً يؤمن أن مصابه هو مصاب الجميع، وهذا تماماً ما تبتغي الأنظمة تحقيقه.
لا يكتفي الحاكم مما سبق، بل يعمل على تشكيل معارضة مفبركة، حتى يظهر الجانب الديمقراطي من نظامه الاستبدادي. يعتمد سياسة شراء الذمم بالأموال أو المناصب، لتتشكل بطانة للنظام تسبح بحمده، وتملأ الفراغ الذي أحدثه الغياب القسري للمثقفين والمفكرين الحقيقيين، فيلتف حول السلطان بعض رجال الدين المدعيين، والمثقفين السطحيين، والجهلة والمنافقين.
وعند رصد اية حركة لفعل شيء ما من قبل الشعب، يعمد النظام إلى قوة الردع القاسية، ثم يعقبها بإطلاق الوعود المعسولة والتطمينات المختلقة، الهدف منها حقن الشعب بالشعارات المخدرة. هكذا يقوم – بعض- الحكام العرب وأنظمتهم باستغفال الشعوب وتليين طبائعها لتطويعها ثم إخضاعها.
مآلات مرعبة
لقد وصل إخضاع – بعض- الأنظمة العربية لشعوبها مرحلة اعتادت عليها تلك الشعوب ولم تعد ترى فيها شيئاً شاذاً، بل أن بعض العرب يعتبر ذلك أمراً طبيعياً، بحيث تحولت كثير من الشعوب العربية إلى أن تمارس رقابة ذاتية صارمة على أفكارها وأقوالها وأفعالها، وأصبحت الناس توجه اللوم لبعضها البعض، بدلاً من توجيه اللوم والنقد للجاني، وتستعين بمبدأ أن على المواطن عدم توريط نفسه بالسياسة مادام يعلم مقدار القسوة التي سيبديها النظام. والمفزع أن هذا الوضع السلوكي لبعض الشعوب العربية يتم توريثه للأجيال اللاحقة، بحيث يتحول الشعب كله نسخة واحدة من الأصل.
في مرحلة متطورة تتغول الأنظمة السياسية والحكام، ويصبح الترويض والردع يطال ليس فقط أقوال وافعال المواطنين، بل يطال النوايا. ومن ثم تتسع دائرة الحظر من الحاكم إلى البطانة إلى كافة رموز النظام والحاكم المستبد، فلم يعد العقاب مستحق على أي نقد للحاكم، بل يتم إنزال القصاص بكل من يجرؤ على المساس برموز النظام.
من الفاجعة القول إن بعض من رجال الدين يكمل دور النظام في ترويض البشر وإخضاعهم، عبر الخطب في المساجد، أو من خلال الندوات والدروس الدينية التي تبث عبر شاشة التلفاز، حيث يتم تحذير الناس من الضلالة والعقاب الشديد في الدنيا والآخرة، وحرمة عدم إطاعة الحاكم والوالي، والخروج من الجماعة التي ترعب عامة الناس.
والمؤلم حقاً في هذا السياق هو ما تقوم به السلطتين السياسية والدينية في تعميق الشعور بالذنب لدى المواطن العربي، فيصبح الإحساس بالخطيئة والإثم يرافقان الإنسان، بحيث لا يجرؤ على مجرد التفكير بما يفعله الحاكم، أو بالشك بنزاهة النظام، فيقوم المواطن على معاقبة نفسه، حتى على أشياء لم يفعلها، بل لمجرد الشك بها.
وما لم تنهض الشعوب العربية وتقوم بتحطيم نظرية الارتباط الشرطي لهدم جدار الفزع، والانطلاق تجاه بناء دولة القانون والمؤسسات، فإن الحكام سيظلون يقرعون الجرس لنا دون تقديم الطعام.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى