مثقفون لا يجيدون فك الخط !

بقلم : د. نضير الخزرجي

من المشاهد السلبية التي وقعت في العراق بعد تغيير نظام الحكم سنة 2003م هو انتشار ظاهرة الخطف والقتل السياسي والطائفي، والتي انحسرت بشكل كبير في الدورة الأولى لحكومة رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري كامل المالكي (2006- 2010م)، وتحت عنوان الخطف على الهوية ظهرت عصابات الخطف المنظم من أجل جني المال الحرام، وإن تلفع مثل هذا الخطف الجائر برداء المذهبية والطائفية، ولطالما ضاعت خلف هذا الرداء الحقوق واستبيحت الحرمات.

ومن صور الخطف المنظّم أن أحد العراقيين العائدين من بلد المنفى كان يسير مع صديقه في أحد شوارع بغداد تعرض للخطف بسيارة مسرعة، وبعد فترة من الزمن تم إطلاق سراحه مقابل فدية مالية كبيرة، وقبل أن يتم إطلاق سراحه سأل المخطوف خاطفيه لماذا تم خطفه دون صديقه ولماذا هو بالتحديد؟، فقيل له أن (العلّاس)، وهو الشخص الذي تضعه العصابة لمراقبة من يراد خطفه ومقايضة حياته بالمال السحت، أدرك من طبيعة تصرفاتك أنك من العراقيين القادمين من الخارج وأنه لابد وأن تكون من أصحاب المال ولهذا خطفناك .. ثم كرر السؤال: وكيف استطاع العلاس أن يميّز بيني وبين صديقي؟، فقالوا له: كنت وصديقك تسيران في الشارع وتوقفتما عند أحد بائعي المشروبات الغازية، فأخذ كل واحد منكما قنينة ورحتما تتمشيان على قارعة الرصيف والعلّاس يراقبكما، فعندما انتهى صاحبك من القنينة رماها في الشارع وأما أنت فاحتفظت بها فارغة حتى رميتها في أقرب حاوية أوساخ، ومن هنا عرف علاسنا أنك قادم من بلد لا يرمي مواطنوها العلب الفارغة في قارعة الطريق!

قد تبدو القصة أشبه بالخيال، ولكنها حقيقة واقعة لمست أشباهها في أكثر من موقف عند رجوعي للعراق بعد ربع قرن من الهجرة القسرية، ولكنها في الوقت نفسه تبعث على الإستغراب والدهشة، لأننا في بلد شعار دينه (النظافة من الإيمان) ويحث على حفظ البيئة ورعاية الطبيعة وحمايتها من إنسان وحيوان ونبات وجماد، على أن الحالة ليست شاذة ولا هي بالعامة السائدة، فهناك عدد غير قليل من المهاجرين يتجاوزون حريم القانون بعجلة اللاأبالية ولا يقدمون انطباعًا جيدًا عن ثقافة الشرق الأثيرة ولا تعاليم دينه الداعية الى حسن السيرة، كما وهناك مواطنون وهم غير قليل، يبدون غضبهم وامتعاظهم من عدم احترام الناس للقانون وتطبيقه، فالثقافة ثقافة وإن تبدلت البلدان وحلّ الناقوس بدل الأذان.

ترى في أية خانة وحقل يمكن وضع سلوك الذي رمى القنينة الفارغة في الشارع وذاك الذي وضعها في الحاوية، فكلاهما يدينان بدين واحد و كلاهما من جنس واحد  وبلد واحد وكلاهما صديقا عمر؟

لا شك أنها الثقافة بوصفها السلوك الحسن والتعاطي الحسن مع النفس والغير والبيئة، ولا علاقة مباشرة بالدين وإن كانت الأديان جميعها تحث على التعامل الطيب مع المحيط، فالسلوك الحسن قائم عند الديني واللاديني، نعم للدين أن يشذب ما شاب السلوك من سيئات الحياة، ولكن السلوك السليم امر فطري غريزي، وهو مظهر بارز من مظاهر الثقافة السليمة في المجتمع.

من هنا فإن المثقف الحقيقي  تظهر إشعاعات ثقافته السليمة على سلوكه وتعاطيه مع مفردات الحياة، إن كان متعلما أو غير متعلم، والحياة مدرسة تجارب ومراكز مختبرات مثلها مثل مختبرات طالب العلم، لها أن تقدم للمجتمع مثقفًا متعلما، ولها أن تقدم مثقفًا غير متعلم ومتعلمًا غير مثقف.

هذه الحقيقة يعالجها الفقيه المحقق آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي في كراس “شريعة الثقافة” الصادر مطلع العام 2019م في 48 صفحة صادر عن بيت العلم للنابهين في بيروت مع تقديم وتعليق القاضي الفقيه آية الله  الشيخ حسن رضا الغديري في 23 تعليقة على  62 مسألة فقهية.

فطرية الثقافة

قد يتبادر الى الذهن من مفردة (الثقافة) مفهوم التعليم والدراسة وزيادة العلم، وهذا بنفسه أمر حسن، بيد أن الثقافة كما يؤكد الفقيه الكرباسي في التمهيد: “هي الذكاء الفطري، فإذا كان الإنسان ملمّا لدرك الحقائق من دون تكلف كانت له بصيرة وفطنة خاصة لفهم الأسباب والمسببات وربطهما معا وقد يكون في موضوع أقوى من الآخر ولكن لا يتخصص بموضوع معين”.

وهل للعلم مدخلية مباشرة في بيان ثقافة الفرد وحجمها؟ يضيف الفقيه الكرباسي: (وقد يعزّزه العلم والمعرفة ولكنه ليس عينه فكم من متعلّم ليس بمثقف وكم من مثقف ليس بمتعلم فبينهما عموم وخصوص من وجه، وهي في جوهرها ليست كسبية وإن كانت للبيئة والتربية والممارسة وفتح الآفاق دور كبير في صقل هذه الحاسة).

ولا شك أن الثقافة في مؤداها سعادة المرء والمجتمع، وهي من الأمور التي يهواها كل صاحب بصيرة ويتوق إلى إعمالها على مستوى الفرد والجماعة، وبتعبير الفقيه الغديري في تعليقه: “والإنسان الذي يستعمل عقله في التبصّر والتعرف على ما يضمن به الفلاح ويكتسب به النجاح ويتشرف به بالتقرب إلى خالقه وبارئه فهو مثقف بالمعنى الحقيقي للكلمة، فالثقافة عبارة عن استعمال الفطرة في الوصول إلى طريق المعرفة وسبيل البصيرة”، وعليه كما يضيف: “إذا التزم شخص بما تستدعيه سعادته وتقتضيه فطرته ويدعو إليه معتقده ويأمر به ربه فهو مثقف حقيقي”.

وإذا كانت الثقافة تعود بجذرها اللغوي الى (ثَقَّفَ) وهو تقويم الشيء وتسويته عن إعوجاجه وميلانه، فإن النفس الإنسانية أولى بالتثقيف، والعلم زينة النفس، والعالم المثقف هو غير العالم المجرد لا يستويان، فمن تواضع للعلم والعلماء فهو مثقف عالم ومن تكبّر وأنف بما يحمله من علوم ابتعد عن ساحة الثقافة، فالحكمة من الثقافة هو سلامة السلوك لفظا وعملا ابتداءً وانتهاءً، من هنا يؤكد الفقيه الكرباسي: (كم من عتّال أو مزارع عنده ثقافة رغم بساطته وعدم تعلمه لا تتواجد عند حامل الشهادات والنياشين المتعلم بأكثر من علم، وهنيئا لمن جمع بين الثقافة والعلم، والأكثر فضلا من ذلك مَن جمع بين الثقافة والعلم والإيمان بالله جلّ وعلا، وهذا الثلاثي المقدس إنْ عمل بمقتضاها كان إلى الكمال أقرب وزاده الله فضلًا والفضل كله يعود إليه).

ولأن رسالة الله في أرضه وعباده لخّصها الرسول الأكرم محمد (ص) في قولته المشهورة: ]إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق[، وقوله (ص): ]إنما بُعثت معلِّمًا[، ولذا فإن الفقيه الكرباسي يلخص رأيه بمفهوم الثقافة الحقّة بقوله: (وفي الحقيقة إني أرى بأنَّ الثقافة هي مصدر الأخلاق والآداب والكمال والترفع، فالمثقف هو الذي يمكنه أن يدرك ما هو معنى الصبر والتحمل ويمكنه أن يتعامل مع العسر واليسر ويمكنه أن يمارس الأخلاق والفضيلة مع الآخرين بتفاوت مستوياتهم العلمية والعُمرية والإجتماعية، إنَّ له آفاقا لا يمكن حصرها في مسار واحد، والله العالم بالحقائق)، والشيخ الكرباسي في ما أورده جاء ليؤكد رسالة الأنبياء التي ترجمها الرسول الأكرم (ص) قولا وفعلا وسلوكا وثقافة : ]إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم[.

ومن المفروغ منه أنَّ النبي محمد (ص) يقف على سنام الثقافة العالية وهو رائدها، وهو كما قال (ص): ]أدبني ربي فأحسن تأديبي[، ومقتضى النص النبوي هو الأداء والعمل وآثاره الإيجابية على المجتمع والإنسانية وهذا يظهر معالمه من مقتضى السلوك السليم والتعاطي السليم في إطار العلاقات الست التي يؤكد عليها الفقيه الكرباسي: (علاقة الإنسان مع نفسه، ومع ربه، ومع الآخر، والمجتمع، والدولة، والبيئة)، وتطبيقه هذه العلاقات بحاجة إلى ثقافة.

سبيل الثقافة

يرى الفقيه الكرباسي في “شريعة الثقافة” أن الإنسان مهما كان دوره في الحياة بحاجة إلى بصيرة، وهي التي تحدد مستويات الثقافة من فرد إلى آخر، ولهذا: (فالإنسان إذا عرف المترتبات والمتسلسلات وعرف الأسباب والمسببات بفهمه الفطري وعقله السليم كان مثقفا، فالفطرة السليمة والعقل السليم ينتجان الثقافة ويبعدانه عن الضياع، فكم من معلّم للأخلاق فاقدها، وكم من مدرّب للآداب لا يعمل بها، وكم من متعلّم لا يطبق علمه، وإنما الثقافة هي التي تطبِّق بمقتضى المعرفة).

فالبصيرة هي بوابة إلى الثقافة السليمة، من هنا فإن الفقيه الكرباسي يرى أن آيتين في القرآن الكريم تحملان مفردة البصيرة وهي قوله تعالى: ]قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ[ سورة يوسف: 108، وقوله تعالى: (بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ. وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ) سورة القيامة: 14 و15، فالآية الأولى تتحدث عن المبدأ والثانية عن المنتهى، ولذا: (مَن عبد الله وأطاعه من خلال فلسفة الإستحقاق والأهلية فهي الثقافة، ومن قاضى نفسه بالنوايا التي يعرفها فيه الثقافة، وحقًّا أقول إنَّ هاتين الآيتين تختصران الطريق الى فهم الثقافة وتعريفها، وهي معرفة الله عبر معرفة النفس).

إذن فالثقافة بتعريف الفقيه الكرباسي: (هي البصيرة والحذاقة والفطنة ودرك الأمور بسرعة بل الوصول إلى فلسفة الأمور ببساطة، وبالتالي هي معرفة الأسباب والمسببات بمنأى عن التعقيد)، وأما الثقافة الإسلامية: (هي معرفة الفلسفة الفطرية التي أودعها الله في مخلوقاته من حيث علاقة الأسباب بالمُسبّبات)، وبهذا اللحاظ فإن: (الثقافة لا تعني كثرة العلم والتعلّم وكسب علوم مختلفة)، وما البصيرة إلا سر الأسرار، ومن البصيرة: (العمل على إيجاد الوعي في النفس والآخر ليتحصن بالثقافة أمر بحد ذاته مرغوب شرعًا، وربما يجب فيما إذا تعيّن عليه تحصين نفسه في محيطه غير المحصّن)، ومن الحصانة: (تحصين النفس بالثقافة الإسلامية وأسسها واجب لمن يتعرض لمثل ذلك، فعلى سبيل المثال يجب على الساكنين في دول غربية ولهم تماس مع ثقافات مختلفة أن يتحصّنوا بالثقافة الإسلامية إن أرادوا نقاش الآخرين، وإلا حرم عليهم)، ومن التحصين الثقافي في نقاش الآخر المخالف: (إيجاد الوعي والنقاش بشكل مستمر ضروري للمؤمن وبالأخص مَن له تماس بالآخرين حيث البيئة قد تؤثر على ثقافة الإنسان حتى الفطرية منها وقد تنطلي عليه بعض الظواهر الفتانة كما في الحرية والديمقراطية والعلمانية وما إلى ذلك من الأمور البراقة التي يختلف ظاهرها عن واقعها).

يجوز وما لا يجوز

لا يختلف إثنان بأن العلم زينة المرء، ومن الثقافة السليمة نشر العلم بين أهله فهو زكاته ونماؤه، والمقام العلمي مقام محترم ومقدس، ولكن هذه القدسية لا ينبغي أن تكون سبيلا للتباهي والتعالي، لأن التواضع زينة العلماء، ولهذا يرى الفقيه الكرباسي أن: (التباهي بالثقافة أمر غير مرغوب فيه في الشريعة، وإذا أُريد به الطعن بالآخر حَرُم)، نعم يصح ذلك من غير غرور لأمر أهم كما يعلق الفقيه الغديري على المسألة إذ: “يجوز التباهي بالثقافة لأجل دعوة الآخرين للخضوع إليها وهي بمثابة الأمر بالمعروف عند تحقق الشروط”.

وفي هذا الإطار فإنه: (لا يجوز إهانة مَن ليس بمثقف والحطّ من قيمته كإنسان)، كما: (لا يجوز إطلاق كلمة أنت غير مثقف بقصد الإهانة وإن لم يكن مثقفًا)، نعم: (يجوز في الحوار القول بأنَّ هذا بعيدٌ عن الثقافة وأمثال ذلك مما لا يوجب الإهانة).

ومن الثقافة السليمة أن يُنظر إلى المثقف العالم نظرة تقدير واحترام، لما يؤديه من رسالة في المجتمع هي جزء من رسالة الأنبياء والمرسلين، لأن المثقف الواعي في أي حقل كان من حقول العلم والعمل، يزيد إبداعه في الأجواء السليمة، وكلما أبدع وأنتج وأثمر أتى بالخير على مجتمعه، ولهذا يؤكد الفقيه الكرباسي أنه: (يجوز تكريم واحترام المثقف لكونه كذلك من دون طعن بالآخر)، ويزيد الفقيه الغديري في تعليقه: “بل وقد يجب ذلك لأجل نشر الثقافة وتشجيع الآخرين للخضوع إليها إذا كان المجتمع محتاجًا إليها بالضرورة”.

ومن موارد احترام المثقف تقدير الإعتبار العرفي عند التعامل معه، يقول الفقيه الكرباسي: (قد تعدُّ بعض الأمور إهانة بالنسبة للمثقف وقد لا تكون لغيره إهانة، فالمفروض أن يُتعامل معه على هذا الإعتبار العُرفي، حاله حال الذي له مكانة إجتماعية حيث تكون موارد تُعد من الإهانة في حقه ولكنها لا تُعد لمن ليس بمكانته).

وقد يُضيِّق بعض فقهاء الدين في صرف الحقوق الشرعية ويحصرها في موارد معينة، لكن الفقيه الكرباسي يرى أنه: (يجوز صرف الحقوق الشرعية للعمل بالإتجاه الثقافي وبالأخص الإسلامي منه)، بل ويرى: (على المسؤولين في الإتجاه الإعلامي العمل على فتح مجالات لهذا التوجه)، ويزيد الفقيه الغديري معلقا: “وكذلك على المرجعيات الدينية الإهتمام الواسع”.

ولما كانت الثقافة داخلة في كل مسلك من مسالك الحياة، فإن كراس “شريعة الثقافة” فيه مسائل مستحدثة تناقش ثقافة التعامل بين الأب والأبن، والزوج والزوجة، ورب العمل والعامل، والعالم والمتعلم، بين السلطة والمواطن، وأمثال ذلك، فالثقافة تجري من الإنسان مجرى الدم في العروق، وهي هوية كل فرد، إن أحسن فله وإن أساء فعليه.

الرأي الآخر للدراسات- لندن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى