تنقية التراث ثورة حقيقية

بقلم : الناصر خشيني/ تونس

لا بد ان نفرق بين الدين والتراث اذ الدين هو النص المقدس الذي اوحاه الله الى رسوله عليه الصلاة والسلام ضمن القران الكريم بينما التراث هو كل جهد بشري للتعامل مع هذا الدين فالفقه والتفسير وعلوم الحديث واصول الفقه والسيرة وعلم الكلام والتصوف وعلوم اللغة وغيرها مما انتجه الناس وفق ظروفهم التاريخية فكلها تراث غير مقدس لايرقى الى درجة الدينم وقد دأب الكثير من الناس الى صبغه صبغة دينية توظيفا للدين لخدمة أجندات سياسية وزعماتية و مصالح مادية ومعنوية يستفيد منها اناس في الداخل والخارج المهم انها عمل دنيوي لا يرقى ان يكون دينا مهما كانت محاولات تديينه وتقديسه وتاليهه فلا يعدو كونه عملا بشريا يخضع لظروةف الزمان والمكان والبيئة والظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية وغيرها من العوامل الموضوعية المحيطة به .

وان كثيرا مما كنا نظنه دينا لا يعدو كونه اجتهادا بشريا في محاولة للتعامل مع النص المقدس ومن ذلك مثلا نجد :

في السيرة النبوية الكثير من الروايات الباطلة والتي نعتقد وفقا لآليات التحليل المعاصرة انها لم تحصل ابدا وان هناك الكثير من الاضافات والكذب في السيرة النبوية الى درجة الاطناب في الحديث عن المعجزات الحسية والملموسة مثل المبالغة في الاحداث التي صاحبت ولادته او رضاعه في بني سعد وشق صدره او رحلته مع عمه الى الشام ولقائه بالراهب بحيرا وكذلك الغمامة التي كانت تحميه من لفح الشمس في رحلة متاجرته باموال السيدة خديجة او ان الحجر والشجر كان يكلمه قبل البعثة وكيف انفجر الماء من اصابعه او كيف اكل جيش كامل من طعام قليل وكيف كان يتفل في عين احدهم فيبرأ في الحال وتعداد غزواته عليه السلام وما فيها من مغانم مادية وسبي واموال وكانه كان مقاتلا شرسا او قاطع طريق فكلها روايات ما انزل الله بها من سلطان ولا اساس لها من الصحة باعتبار الأديان السماوية متطورة تبعا للتطور الاجتماعي الذي ينطلق من الأسرة فالعشيرة فالقبيلة فالأمة ثم المجتمع الإنساني ككل كآخر مرحلة في التطور الاجتماعي للبشرية و تبعا لذلك كانت الديانات الأولى السابقة على الإسلام محدودة بحدودها الاجتماعية الضيقة فكانت ديانات قبلية وعشائرية حسب المنظومات الاجتماعية وقتذاك ويؤكد على هذه الحقيقة العلمية والتاريخية ما ذهب إليه القرآن الكريم عندما يشير في أكثر من موطن إلى ذلك بقوله تعالى (و لقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله ) 45 النمل و قوله تعالى ( والى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ) 81 هود وقوله جل وعلا (وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ) 165 الأعراف وكانت دعواتهم مرتبطة من حيث الإعجاز بالمستوى الفكري الذي عليه القوم وهو مستوى فكري لا يزال بسيطا فمعظم المعجزات السابقة على الإسلام كانت مادية ملموسة لتناسب العقل الطفولي الذي كانت عليه البشرية حينها ومن حيث المعالجات للمشكلات القائمة كانت أيضا بسيطة الى حد ما تبعا لعدم تعقد و تطور الحياة فهي لا تعدو أن تكون دعوة الى عبادة الله و الانتهاء عن منكر يفعلونه كأهل مدين الذين يطففون الكيل و الميزان او قوم لوط الذين يرتكبون الفواحش وبذلك لم تكن دعوات الرسل قبل الاسلام عامة ولا شاملة ولا معجزاتهم عقلية مستمرة بل هي محدودة زمانا و مكانا و اهدافا ذلك أن هناك استراتيجية إلهية في تدرج الأديان ونطورها تبعا لنسق تطور المجتمعات البشرية .

ومن ذلك أن سيدنا موسى عليه السلام قد كان في وضع وسط بين القبلية القديمة والتكليف الإلهي بالتوجه برسالته الى غير قومه اذ يدعو ربه أن يشدد أزره بأخيه هارون- تناسقا مع المنحى القبلي الذي كان ولا يزال يعيشه بنو إسرائيل حتى الآن اذ تصرفاتهم في فلسطين المحتلة تؤكد طبيعتهم القبلية المتخلفة – ليتمكن من ابلاغ رسالته المنحى الجديد الذي يكلفه الله به وهو التوجه الى غير بني اسرائيل حيث كلف بتبليغ دعوته إلى شعب مصر في شخص ملكها فرعون الذي كان يدعي الربوبية قال تعالى استجابة لرغبة موسى عليه السلام (سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا ) 35 القصص وتبعا لذلك كلفهما بقوله تعالى (اذهبا إلى فرعون إنه طغى) 43 طه وبذلك يكون موسى قد دشن عهدا جديدا في النبوات وهو الخروج عن النطاق القبلي الضيق الى نطاق أوسع وهو مخاطبة شعب مصر ولكن هل حافظ اليهود المعاصرون على روح رسالة موسى الداعية الى التوحيد ونبذ الطغيان اللهم لا و ممارسات الدولة الصهيونية في المنطقة العربية و العالم خير شاهد على هذه القطيعة من حيث حجم الجرائم التي ترتكبها وارتكبتها ضاربة عرض الحائط بكل الشرائع و الأديان .

ثم تأخذ الديانات طورا آخر أكثر عموما بدعوة عيسى عليه السلام رمز الرحمة و التسامح اذ يقول عليه السلام (إذا ضربك أحدهم على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر) و بذلك يكون قد فتح بعدا جديدا للإنسانية أكثر شمولا و عموما من رسالة موسى في نطاق التطور الجدلي للأديان من حيث التوسع في المضمون و التوجه تهيئة للدور العظيم المناط بخاتم الرسالات رسالة سيدنا محمد عليه السلام حيث هي رسالة عامة للناس قاطبة وهكذا كان دين الله دينا عالميا عاما للبشرية قاطبة فلا يخص جنسا معينا أو هو لأمة من الأمم دون بقية الناس أو لقبيلة من دون الناس جميعا فهو لكافة الناس كما قال تعالى في محكم تنزيله : ( وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ) 28 سبأ وهو بهذا المعنى ملكية مشتركة للبشرية جمعاء لأنه يناهض العنصرية والقبلية و التعصب و العرقية حيث أشار الرسول عليه السلام إلى أنها منتنة فلا بد من تركها استجابة لتوجيهاته عليه السلام في حين كانت بقية الديانات السماوية السابقة لا تشاركه هذه الميزة الأساسية فيه لأنها بكل بساطة موجهة لأقوام الرسل وقبائلهم وعشائرهم من دون الناس وذلك أن المجتمعات البشرية في تلك الأوقات كانت من الناحية الإجتماعية ضمن المراحل الأولى للتطور الإجتماعي انطلاقا من الأسرة فالعشيرة فالقبيلة إلى الأمة حاليا والمجتمع الإنساني مستقبلا فكانت تلك الديانات خاصة تبعا للأطوار الإجتماعية وقتها في حين كان الاسلام عاما شاملا ومستجيبا للتطور العقلي الذي اصبحت عليه البشرية .

وبالتالي فان السيرة النبوية الصحيحة بناء على هذه المعطيات وردت في القران الكريم الذي اورد صراحة ايات تتناقض تماما مع ما روي في سيرته سواء في كتب السيرة او كتب الحديث او كتب التاريخ فكلها اعتمدت على التلقي الشفوي مع اعتماد الجرح والتعديل الا انهما غير مامونين علميا لتمرير روايات اشخاص المفروض انهم مؤتمنون لكنهم لظروف معينة لم يكونوا كذلك فاذا كان الصحابة ومنهم المبشرون بالجنة قد اقتتلوا فيما بينهم وقطع بعضهم رقاب بعض في الفتنة الكبرى فكيف نأمن لهم في الرواية عن بعضهم البعض وكيف نتفاعل مع عداء بعضهم للبعض الاخر اضافة الى اختلافاتهم في الكثير من الروايات ونجد لكل حدث عشرات بل مئات او الاف من الروايات المختلفة والمتناقضة .

وقد بدأ التدوين في السيرة النبوية في كتب خاصة مستقلة في النصف الثاني من القرن الأول الهجري .. وقد اعتمد العلماء في تدوينها على قواعد علمية لضبط الروايات والأخبار ، وهي نفس القواعد التي نهجوها في سبيل حفظ باقي المصادر الإسلامية ـ خاصة أحاديث السنة النبوية ـ كقواعد مصطلح الحديث ، وعلم الجرح والتعديل .. فهذه القواعد التي وُضِعت أساسا لحفظ السنة النبوية من الضياع والتحريف ، هي نفسها التي استثمرت لتدوين السيرة النبوية المطهرة .. ومن ثم فإن كتابة وتدوين السيرة تأتي من حيث الترتيب الزمني في الدرجة الثانية بعد كتابة السُنَّة ـ الحديث النبوي ـ ، إذ السنة بدأت كتابتها في حياة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ..

وكان أول من اهتم بكتابة السيرة النبوية عروة بن الزبير ـ رضي الله عنه ـ المُتَوَّفَّى ( 92 هـ) ، ثم وهب بن منبه المتوفى ( 110 هـ ) ، ثم شرحبيل بن سعد المتوفى ( 123 هـ ) ، ثمابن شهاب الزهري المتوفى ( 124 هـ ) .. فهؤلاء يأتون في مقدمة من اهتموا بتدوين السيرة النبوية ..

ويأتي في مقدمة الطبقة التي تلي هؤلاء محمد بن إسحاق المتوفَّى ( 152 هـ ) ، وقد اتفق الباحثون على أن ما كتبه محمد بن إسحاق يُعَدُّ من أوثق ما كُتِبَ في السيرة النبوية في ذلك العهد ومع ذلك نجده في الكثير من الروايات للاحداث ياتي باكثر من رواية مختلفة عن الاخرى فكيف نقبل بمثل هذا الخلط من اول من كتب في السيرة النبوية بشكل منهجي وكانت معظم الروايات الأخرى تبعا له وياتي من بعده محمد عبد الملك المعروف بابن هشام المُتوفَّى ( 213 هـ ) فروى لنا كتابه منقحا ، والذي قال عنه ابن خلكان : ” .. وابن هشام هذا ، هو الذي جمع سيرة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من المغازي والسير لابن إسحاق ، وهذبها ولخصها ، وهي السيرة الموجودة بأيدي الناس والمعروفة بسيرة ابن هشام ” ..

ثم تلت هؤلاء طبقة كتبت في السيرة كتبا كاملة في السيرة النبوية مثل المغازي للواقدي ، والطبقات لابن سعد ، والطبري في تاريخه ، وما تابعه عليه ابن كثير في البداية والنهاية ،وابن الأثير في الكامل في التاريخ..

بحيث ان هذه الكثرة من المصنفات في هذا الباب تعني حتما الاختلاف وعدم التطابق في المعلومات المقدمة للناس غير ان هناك فكرة اساسية في كتابة السيرة قدمت هي اخضاع الناس عنوة لاتجاه فكري يجعلهم لا يفكرون بعقلانية بل يكتفون بسرد الاحداث وحفظها وكانها شيء مقدس لا يجوز المساس به وهو ما ادى الى تخلف ركب العرب والمسلمين عن اللحاق بركب الحضارة الانسانية المتقدمة عنا كثيرا.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى