من أجل نسق نهضوي عربي
بقلم : د. حسن حنفي
يحتاج المشروع النهضوي العربي الجديد إلى نسق قيم نهضوي يلبي حاجات العالم العربي وتطلعاته نحو الوحدة والتنمية والحرية والتحديث والمشاركة الشعبية. هذا بالإضافة إلى قيم التنوير التي اكتسبتها الأمة من قبل منذ فجر النهضة العربية الأولى، مثل العقلانية والترشيد والمواطنة. ويمكن أن تعتمد هذه القيم على الأصول الخمسة الاعتزالية القديمة، مثل التوحيد وانعكاساته على وحدة الأمة، والعدل وأثره على تحقيق العدالة الاجتماعية، والحسن والقبح العقليين من أجل تأسيس العقلانية النقدية الجديدة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتأسيس المجتمع المدني القادر على النقد والمحاسبة.
ولا يعني نسق القيم النهضوي فرض ما ينبغي أن يكون، بل تحقيق مطالب ما هو كائن. وهذه أهم تلك القيم أو الأهداف الحضارية:
1- الحرية والاستقلال على مستوى الأفراد والأوطان: فتحرير الأرض تسبقه حرية الإنسان، وتحرير الفرد من الجهل والفقر يأتي ثانياً بعد تحرير الأوطان المحتلة. ومواجهة العدو الخارجي لها الأولوية على مواجهة العدو الداخلي.
2- تحقيق العدالة الاجتماعية بين الأغنياء والفقراء، فمصادر الثروة الرئيسية ملك للدول، وتطويرها يمثل حاجة ضرورية للتجدد الحضاري بدلاً من استجداء المعونات الإقليمية والدولية.
3- توحيد الأمة ضد مخاطر التفتيت والتجزئة، وتحويل العالم العربي إلى فسيفساء عرقية طائفية. ويمكن لعقيدة التوحيد أن تساهم بدور كبير في تحقيق الوحدة.
4- التنمية المستقلة لتحرير الإرادات الوطنية من الاعتماد على الاستيراد دون الإنتاج، كما فعلت الهند والصين. فالاستقلال مفهوم سياسي واقتصادي أيضاً.
5- تأكيد الهوية ضد مظاهر التغريب، دفاعاً عن القدرات الذاتية ضد التقليد والتبعية. فالتجدد الحضاري مرهون بالتواصل مع كل الإيجابيات في القديم وفي الجديد، وقانون الهوية يسبق قانون الاختلاف.
6- إشراك المجتمعات في تحقيق المشروع النهضوي الجديد، بدلاً من أن تقوم به النخبة كما حدث في المشروع النهضوي الأول في القرن التاسع عشر أو النصف الأول من القرن العشرين، أو الطبقة المتوسطة في النصف الثاني منه، ضماناً لاستمراره وتطوره.
هذه القيم والأهداف ليست خاصة بالتجدد الحضاري في المشروع النهضوي العربي الجديد حصراً، بل هي قيم عامة لدى كل حضارة وفي كل عصر. فطالما دافعت الشعوب عن الاستقلال، وناضل الأفراد من أجل الحريات العامة.. وهو ما جسدته المواثيق الدولية.
إن تاريخ البشرية هو تاريخ العمل من أجل هذه القيم الحضارية المشتركة. فالطبيعة البشرية واحدة، والعقل البشري مشترك بين كل الشعوب، والمصالح العامة تعكس روح الجماعة. وينشأ الصراع بين الشعوب عندما يحاول شعب الهيمنة على شعب آخر، كما فعل الاستعمار الأوروبي في إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية.
القيم الحضارية ليست حكراً على الغرب، بل شاركت في صنعها كل الشعوب. إنما الغرب هو الذي احتكرها وبلورها، وصاغها في آخر مرحلة للتاريخ بعد مراحل عديدة، ساهمت فيها حضارات الشرق القديم والحضارة العربية الإسلامية.
الانعزال عن العصر بدعوى الحفاظ على الهوية والدفاع عنها هو عجز عن المشاركة، وعدم قدرة على فهم الآخر، وإنكار لدور الآخرين. فقد كانت الثقافة العربية قبل الإسلام وبعده منفتحة على ثقافات عصرها غرباً عند اليونان والرومان، وشرقاً في فارس والهند. نقلتها وشرحتها ولخصتها وعرضتها وأبدعت فيها ونقلتها من عصر إلى آخر. الحوار مع الحضارات الأخرى إثراء للحضارة العربية وللحضارات المعاصرة في الشرق والغرب على حد سواء. فأرسطو لم يعد يونانياً فقط، وابن رشد لم يعد إسلامياً فحسب، وموسى بن ميمون ليس يهودياً فقط.. بل أصبح الجميع جزءاً من التراث الإنساني العام الذي ساهمت جميع الحضارات في صنعه.