لا إبداع في ظل الدكتاتوريّة والمبدعون هم أبناء الحرّية وعشّاقها
بقلم : د. كاظم ناصر
المبدعون هم أبناء البشريّة جمعاء؛ وطنهم هو العالم بأسره، ورسالتهم إنسانيّة شموليّة لا تستثني أحدا، وأهدافهم هي البحث عن الحقيقة والنطق بها والدفاع عنها، ومحاربة الجهل والظلم والتسلّط، والمساهمة في بناء عالم أكثر إنسانيّة وأخلاقا وأمنا وازدهارا وجمالا. ولهذا فإنّهم يتجاوزون بتفكيرهم العصبيّات السياسيّة والدينيّة، ويدافعون عن حرية الرأي والفكر، ويطالبون باحترام وقبول العقائد والممارسات الدينية والعلمانيّة والثقافية المختلفة.
المبدعون يقدّمون لمجتمعاتهم أفكارا جديدة خلاّقة قد تتناقض مع مكوّناتها العلميّة والعقائديّة والسياسيّة والثقافيّة، ولهذا فإنها، أي أفكارهم، غالبا ما تضعهم في مواجهة مباشرة مع القوى السياسية والدينية التسلطيّة الفاسدة المتخلّفة التي تسيّس الدين وتدينن السياسة، وترفض التغيير حفاظا على مصالحها وامتيازاتها، وتحارب المبدعين وأفكارهم، وتعتبرهم خطرا يهدّد وجودها، وتعاقبهم بالإقصاء، أو السجن، أو النفي، وأحيانا القتل.
التاريخ يثبت أن الإبداع يزدهر في ظل الحرية والديموقراطية ويتراجع أو حتى يتلاشى في غيابها. لو أخذنا الدول الأكثر تقدّما في عالمنا المعاصر كمثال على هذه الفرضيّة، لتبيّن لنا أنها حقّقت تقدّما هائلا في علومها وآدابها وفنونها وثقافاتها، وبنت مجتمعات حديثة عظيمة بعد أن تخلّصت من الأنظمة الديكتاتورية الظلاميّة ومن هيمنة الطبقة الدينية المتحالفة معها، ونجحت في إقامة دول قانون ديموقراطية علمانيّة حكمت بالعدل وساوت بين المواطنين، وضمنت حرّياتهم السياسية والدينية والتعبيرية، ومكّنتهم من اختيار قادتهم وممثليهم من خلال انتخابات رئاسية وبرلمانية وجهوية.
وإذا أخذنا جائزة نوبل العالمية التي تمنح لعظماء المبدعين في مجالات الفيزياء، الكيمياء، الطب، الأدب، الاقتصاد، والسلام كدليل على العلاقة بين الحرّية والديموقراطية والابداع، يتبيّن لنا أن الأغلبية الساحقة من الذين حصلوا عليها كانوا من الدول الديموقراطية التي تحترم العقل والاختلاف في الراي، وتحمي الحريّة الفكريّة والمفكّرين، وتشجّع وتدعم الأفكار الإبداعية والمبدعين.
لقد حصل على تلك الجائزة منذ تأسيسها عام 1902 ما مجموعه 956 عالم ومفكّر، وإن الدول العشرة الأولى في العالم بعدد الحاصلين عليها هي الولايات المتحدة 375 جائزة، بريطانيا 129، ألمانيا 108، فرنسا 69، السويد 32، اليابان 27، سويسرا 26، كندا 23، النمسا 21، إيطاليا 20. بإلقاء نظرة على هذه الأرقام، يتضح لنا أن جميع هذه الدول ديموقراطية، وأن السويد التي لا يزيد عدد سكّانها عن عشرة ملايين نسمة قد حصلت على 32 جائزة، وسويسرا، ثمانية ملايين نسمة، حصلت على 26 جائزة، بينما العالم العربي الذي يبلغ عدد سكانه ما يقارب 400 مليون حصل على 7 جوائز، خمسة منها للسلام منحت لأنور السادات، وياسر عرفات، وأنور برادعي، وتوكل كرمان، وواحدة في الآداب حصل عليها نجيب محفوظ، وواحدة في الكيمياء حصل عليها محمد زويل.
أما العالم الإسلامي الذي يبلغ عدد سكانه 1.7 مليار(1700000000) مليون نسمة، ما يزيد قليلا عن خمس سكان العالم، فحصل على 12 جائزة، منها 7 للسلام، أي أن ما حصل عليه العالم الاسلامي بأكمله أقل من نصيب الدنمرك التي يبلغ عدد سكانها أقل من ستة ملايين مواطن والتي حصلت على 14 جائزة.
ما حدث ويحدث اليوم في وطننا العربي من ظلم، وتخلّف، ودمار نتج عن استمرار الانظمة التسلطيّة التي عملت دوما على إهمال وتجهيل وأذلال الإنسان، ولم تسمح له بإقامة دولة حرّة ديموقراطية تمكّنه من إظهار قدراته الإبداعية والمساهمة في بناء وطنه. لو كان العربي حرّا في تفكيره، وسيدّا في وطنه، لما سمح لوضع غير إنساني كهذا أن يستمر، ولكان وضعه يختلف تماما عمّا هو عليه الآن.
وكما قال أحد الحكماء” من الصعب جدا أن تحكم شعبا واعيا جيد الثقافة ومن السهل جدّا أن تحكم شعبا متخلفا.” الشعب الواعي يفهم ما يفعله الحاكم ويحاسبه على أخطائه، أما الشعب المتخلّف الضحل الثقافة فإنه لا يستطيع أن يكتشف أخطاء وتجاوزات الحاكم ليحاسبه عليها، ومن السهل جدا خداعه وتضليله بالأكاذيب والكلام الأجوف كما يحدث في عالمنا العربي. العربي يعيش في عالم إستبدادي لا علاقة له بالحرّية كما يفهمها العالم المعاصر. إنه مقيّد العقل ومسلوب الإرادة، ويعيش في سجون إسمها أوطان محاطة بأسوار من الجهل، والقهر، والفقر، والتخلف!
لا يمكن للإنسان أن يكون جاهلا وحرّا، أو مثقّفا وعبدا في نفس الوقت، ولا يمكنه أن يبدع في ظل الظلم والقهر والاستبداد؛ الابداع هو ابن الحرية، والجهل والتخلف هو ابن الديكتاتورية والاستبداد.