المفهوم السّياسيّ في الاستراتيجّيات.. إشكاليّة الممكن والضّروريّ

1▪ كنّا قد حلّلنا سابقاً علاقة الدّولة بالحكومة من حيث هي علاقة غير مستقّرة ، خاصّة عندما نكون في الوضع الحرج الذي يحتّم علينا التّمييز بين حكومة السّياسة ، في الدّولة ، و سياسة الحكومة .

و كانت المناسبة التي لا تنتهي ، للحديث ، و التي هي جوهرٌ تاريخيّ في تحليل وظائف السّيطرة ، قد تبلورت للقارئ كشأن شخصيّ على اعتبارها تتعلّق ، أصلاً ، بالإشكالّية الدّلالّية للّغة الاجتماعّية في الممارسة ، كمشاركة في الاختيار السّياسيّ في مقابل ”الدّسيسة السّياسيّة” التي كنّا قد عرّفناها بأنها ”المكيدة ، و إضمار العداوة” ، حيث هي جوهر الممارسة السّياسيّة للصّراع في التّاريخ .

2▪ ليست ”الدّولة” مفهوماً مجرّداً إلّا في الأذهان ؛ بينما هي ، في الواقع ، ذلك الوضع الملموس من خلال آثاره – ناهيكَ عن الأدوات و المؤسّسات – الذي يتحدّى اختلاله و تآكله ، و أحياناً انهياره ، جرّاء صراع أو اصطراع .. ”المفاهيم” المتجسّمة في القوى المتناقضة و المشاريع التي يحملها الأفراد إليه ( إلى الصّراع ) ، و ذلك بما يُمَثّلُه كل منهم من عضويّة إلى سيمانتيّةٍ ( منظومة رموز و علامات و خطاب ) في مواجهة شهود ليسوا ، و لا يمكنهم أن يكونوا ، على ”الحِيَاد” .

و يمثّل هذا الصّراع على ”المفاهيم” ، بواسطة ”المفاهيم” ، صراعاً بالأفكار على الاستحواذ على الاستراتيجّية النّسقيّة لخطاب السّيطرة ، بواسطة ”السّياسيّ” الذي تجسّد في دالّات مبدئيّة و تابعيّة ، تنتمي إلى ”الاجتماعيّ” الذي ينظر إلى ”العلامة” السّيمانتيّة ، نظرة توثّبٍ لتلبية ”نداء الخطاب” ، و كيفما تعيّن هذا ”النّداء” .

و هذا ما نسمّيه في ”فلسفة السّياسة” بالتّخوم المؤلّلة و الجاهزة للزّحف على القيود المصانة ، حتّى هذه اللحظة ، بقوّة الدّولة ، لتحويلها ، في مجرى طاقات الذّرّات الدّافعيّة ، إلى انكماشٍ تاريخيّ للأغلال و الثّوابت السّياسيّة النّسبيّة .

و لا تستطيع ”الدّولة” ، من جهةِ أنّها عامل الضّبط و مُعامل توزيع القوى تحت المستويات الفوضويّة في إخفاتٍ منظّم و موزّع بعدالة نظريّة و احتماليّة ، و حسب ؛ أن تقف في وجه ”الجدادة” الظّرفيّة ، هذه ، لكي تبقيها تحت السّيطرة ، و ذلك ما إنْ تجاوزت الممكنات المسوّغة بأشكال لا حصر لها ، حدود خطوط ”الأمان” الظّرفيّ – و الذي يبقى في مطلق أحواله و حالاته ، ظرفيّاً – ما لم تكن ”الدّولة” قد وصلت مسبقاً إلى مستوى من السّيطرة قد تجاوز مرحلة التّجربة العامّة و الموسّعة على وسائلها في النّظريّة المفهوميّة السّياسيّة المطبّقة على ”النّظام” بتفاوتات تناقضيّة تستغرق ”الثّوابت” المعهودة ، التي يجب أن تكون ضمانات عدم تحوّل أو تحويل ”المفاهيم” و البنى و الأفراد ، إلى حقول تجارب تعوزها البرهانات العملّية و غير الافتراضّية ، قبل الخوض فيها بالتّجارب النّظريّة التي تجافي موضوعاتها في المحمولات ، و ذلك بأن تختزل تجارب المفاهيم إلى أقصى حدّ ممكنٍ لها ..

الأمر الذي يعني ببساطة عدم إدخال الواقع الحيّ من عناصر النّظريّة المفهوميّة المجرّدة ، التي لا ضمانات لها عندما تصبح الحلّ الوحيد المتاح أمام فكرة الدّولة في السّيادة ، في التّجربة المخبريّة الحيويّة المرهقة عمليّاً ، في السّياسة .

3▪ الآن ، و قد أصبح من المستوعب واجبُ أن نكون قد أصبحنا في مرحلة ”سيادة الدّولة ، فإنّه ، و فقط الآن ، يغدو من الضّروريّ التّمييز ما بين الأهّميّات و الأفضلّيات العمليّة التي يمكننا معها توخّي الوضوح شبه الكامل ، لاحتمال احتدام توّتر زخم ”الفواصل” الاجتماعّية و السّياسيّة المتّصلة ، بطبيعتها الواقعيّة ( كالإدارة العملّية لإنتاج النّموّ أو التّنميّة ، على سبيل المثال ) التي جعلت منها ظروف المرحلة شيئاً يجب أن يخضع ، بعدالة و حزم ، لإعادة صياغة تصوّرات ”الدّولة” على الأفضلّيات السّاحقة لكلّ اضطراب منتظر أو حالّ أو وشيك ، و ذلك بفحص مدخلاتها و مخرجاتها الّدائمتين ( التي هي الأفضلّيات ) ، و الرّقابة النّوعيّة الخاصّة بها وفق معايير الأداء ”النّوعيّة ” ( التّكنوقراطيّة ، مثلًا ) ، في حدود هامشيّات ”الأمن” الشّامل الذي تتطلّبه ممارسة ”الدّولة” للمفاهيم السّياسيّة ، التي يكثر الطّلب عليها في أوقات الشّدّة و الزّخم القاصِفَين .

4▪ في هذا السّياق النّظريّ ، أوّلاً ، نحن وصلنا – في سورية – إلى المرحلة التي لا حول لنا بتجاهلها ، بصدد تحديد ”المفاهيم” السّياسيّة من جديد ، لكيّ نعمل على التّأكّد من أنّنا نعيش في إطار الحظيرة العالميّة التي لها محدّداتها الواضحة من ”النّظريّة” السّياسيّة على ”الدّولة” ، آملين أن نتمكّن من تحديد موقعنا الاتّصاليّ في الأمداء المجدية من مجاورة التّاريخ المعاصر ، الذي يشهد عليه وجود ”الآخر” ، بحيث أنّنا ربّما لم ندخل بعد في عداد الثّقافات العالميّة ، العامّة منها و الخاصّة و التّخصّصيّة ، التي تمنح العصر سياقاته المفهوميّة ..

بينما نحن نتوكّأ على عكازات ”الكلمات” الفارغة المنتشرة في فضاءات الاتّصالات العالمّية و التّواصل الافتراضيّ .

و حيث يُخشى علينا في هذا المُحَدِّدِ بالذّات ، أن نكون متوفّرين على فضلات الأفكار البشرّية التي نتناقلها في هوامش الاستهلاك ، فإنّنا ، و الحالة هذه ، مهدَّدون بالانفصال المفاجئ عن العالم كمجتمع و ثقافة و سياسة و مفاهيم .

5▪ لم يتطوّر شعب في التّاريخ إلّا بعد أن امتلك لغته النّقديّة التي تجلّتْ في الكثير من مظاهر التّحوّلات العملّية ، سواءٌ في العلوم و المعارف و الانقلابات التّشكيليّة الخطابيّة و الثّورات و المناهج المعرفيّة و التّربويّة ..

و نستنتج من هذا الأمر ، مباشرة ، أنّنا فقدنا في تاريخنا ”الخاصّ” ، حتّى الآن ، كلّ ما من شأنه أن يشكّل بدايات احتمالات التّحوّلات المصيرّية الاجتماعّية و الثّقافيّة و السّياسيّة ، نحو أهداف محدّدة و موصوفة و مبرمجة ، على الحصر.

و لا يقتصر الّنقد التّاريخيّ للظّاهرة أو الظّواهر العدميّة التي دخلنا فيها تاريخيّاً و قد تعزّزتْ أثناء هذه الحرب ، على جانب واحد محدّد بعينه ، بقدر ما أنّنا نشير هنا إلى ”ثورة” نقديّة في نظريّة نقديّة سياسيّة ، تتناول جميع البنى المادّيّة و النّظريّة و الأخلاقّية ، التي أظهرت الحرب مدى افتقارنا إليها ، في السّياسة و في المذهب النّقديّ السّياسيّ التّاريخيّ الشّامل و غير النّوعيّ و غير المحدّد ، بحيث يكون النّاتج الفكريّ لهذا المبدأ على توزّع عادل ، على جميع مناحي و جهات و تحديدات ”المفهوم” السّياسيّ ، هذا المفهوم الذي يختزل كلّ ما أوردناه أعلاه و يُضيف إليه ما يمكن أن يكون قد تجاوزه ، عمليّاً ، فقط ، هذا الحديث.

6▪ تبدو الصّورة على أنّها مسألة ثورة نقديّة مفهوميّة تذكّرنا بكبريات النّظريّات السّياسيّة النّقديّة في التّاريخ و العالم ، منذ ثورة المفاهيم ”السّقراطيّة” ، بوصف (سقراط) كان أوّل من أنزل ”المفاهيم” من علّاقاتها الفراغيّة في الفضاء و الخيال ، إلى الأرض ، و لهذا نسّميه ”فيلسوف” المفاهيم ، و لا ندري أنّ أحداً قد اتّجه هذا الاّتجاه في تقويمه (سقراط) تقويماً منصفاً و عادلاً على هذا الأساس .

في ما بعد ، كان لأفكار ”التّنوير” في ( بريطانيا ) و ( فرنسا ) دور تاريخيّ تأسيسيّ للمفاهيم المعاصرة في السّياسة و الأخلاق ، كبناء – في رأينا – على (سقراط) و (أفلاطون) ؛ لتنضمّ فيما بعد أفكار الفلسفة الألمانّية مع (كانط) و (شيلينغ) و (هيغل) و (فيورباخ) و (ماركس) ، في أوسع تشكيلة فكريّة تاريخيّة لتحديد واختراع ”المفاهيم” في سياق ”نظريّة” سياسيّة نقديّة تمتدّ من (لوك) إلى (هوبز) إلى (جان جاك روسو) و (مونتسكيو) ، و مروراً بمن أسلفنا من الفلاسفة ”الألمان” .

7▪ بعد ما تقدّم ، يجب أن يكونَ واضحاً في الأذهان أنّ سلوك ”الدّولة” في ممارستها عمليّة التّاريخ ، ليس حالة جزافيّة تقودها ”السّلطات” ( المؤسّسات ) بتلقائيّة أو في أوقات الفراغ .. أو وفق منظورِ الهواية و التّرف و الرّخاء ، بما في ذلك ”الحنكة” السّياسيّة التي يُحبّ البعض أن يراها صفة عضويّة للدّولة ؛ بل إنّ كلّ ذلك ليس أكثر من تطبيقات بدرجات متفاوتة لمجموعة أساسيّة من ”المفاهيم” الثّابتة و المُوَلَّدة توليداً جدليّاً في غمار الفعل و ردّ الفعل ، مع عدم لجوء الدّولة إلى ”نقاش” صلب الحوارات التي يتولّى جدليّتها التّاريخ نفسه ، بحيث يجب على الدّولة ، باستمرار ، الانطلاق المبدئيّ من ”المفهوم” إلى العمل في ظلّ الممارسة و الإنجاز ، و هو ما يُميّز الفرد العاديّ في السّلوك ، ناهيك عن ”الدّولة” ..

بحيث يخضرنا هنا قول (ماركس) حول أنّ ما يُميّز ”المهندس المعماريّ” عن ”النَّحلة” في بناء ”خليّة الشّمع” ، هو وجود فكرة ”الخليّة” في ذهن ”المهندس” ، التي تتحوّل في الإنجاز الواعي إلى ”واقع” ، على عكس ”النّحلة” التي لا تنطلق من مفهوم فكرة ”الخليّة” إلى بنائها ، بل هي تبنيها وفق قانون الغريزة الفطريّة التي تجاوزها الإنسان ( و هو هنا ، مهندسنا المعمارّي ) بواسطة الثّقافة و الفكر المنظّم إلى تطبيقها العمليّ في واقع الحال .

و من الواضح أنّ حجم الدّور الذي يسلكه ”السّياسيّ” ، و نجاعة هذا الدّور ، إنّما يتوقّف على قدرة ”السّياسة” على اختزان و اختزال ”المفاهيم” و تصنيفها في منظومات و مصفوفات نالت كفايتها من الوضوح في أذهان السّاسة ، كمفاهيم حاكمة إلى الدّرجة التي لا يمكن لها ، تجاهلها أو تجاوزها و الاستهتار فيها ، و إلّا لحلّت الكارثة غير المرغوبة و التي لا يمكن ، بعدها ، للدّولة الرّجوع عنها أو محوها بأيّة طريقة ، و لو كانت هذه الطّريقة متوسّلة للعنف ، بحيث نكون أمام حالة عصيّة على العلاج و على التّجاهل ، في وقت واحد ، و هو ما كان لا يمكن أن يحدث في حال العكس .

إنّ إيمان ”الدّولة” بدور ”المفهوم” السّياسيّ الذي يؤطّر مبدئيّات العمل و التّأثير ، هو مسألة تاريخ و ليس مسألة وقت و حسب ؛ على اعتبار أنّ النّتائج التي تترتّب على ذلك ، سلباً أم إيجاباً ، هي نتائج نهائيّة و حاسمة .

8▪ من أهمّ صفات ”المفهوم” السّياسيّ ، إن لم يكن أهمّ هذه الصّفات ، هو أن يتجنّب حامل المفهوم في الوعي و تطبيقه التّالي عليه ، الأبعاد و النّقائص ” الطّوباويّة ” ( “ اليوتوبيّة” ) للمفهوم ، لسبب أنّ مهمّة ”المفهوم” هي التّعامل مع ”واقع” حيّ و عمليّ ، تنبيهاً منّا أنّه غالباً ما يتداخل الوهم السّياسيّ للمفهوم مع التّوهّم ”اليوتوبيّ” للواقع ، فإذا بنا أمام رقصة ماجنة تجريبيّة في الأداء لا يضبطها إيقاع و لا يؤطّرها نظام و لا تمليها القواعد .

9▪ لا تُعتنق المفاهيم السّياسيّة خلسة من قبل ”الدّولة” ، و حال ذلك بحال أنّها لا تُمارس بالخفاء و في الظّلال الكتيمة للأداءات الصّريحة ، مع أنّ للسّياسة بواطنَها و لكنّها تلك التي لا تتعلّق بالمفهوم و لا تنصرف إليه ، و إنّما تتحدّد ، هنا ، في فنون السّياسة و ليس في قواعدها التّاريخيّة التي غذّتها الخبرة و صقلتها التّجربة ، إلى أن دخلت مجال ”القوانين” الحاكمة للمبادئ و الممارسات و النّتائج و الإنجاز .

عندما يكون الخيار التّاريخيّ المطروح منقسماً بين فن السّياسة و علم المفهوم السّياسيّ ، فإنّ من البديهيّات أن يكون الاستقطاب و الاصطفاف أوضح و أتمّ مَيلاً إلى جهة ”العلم” و القواعد المفهوميّة ، مع استبعاد الظّرفيّ أو المرحليّ لغريزة ”السّياسيّ” في جنوحه المغري إلى احتناك الأداء بدلاً من رسوخ هذا الأداء ، أوّلاً ، في عقيدة حكم مستقرّة .

و هكذا ، فإنّ التّمييز الاستراتيجيّ ما بين الفنّ و العلم في تحديد و ممارسة و تطوير ”المفهوم” ، ليس شأناً اعتباطيّاً أو تجريبيّاً للهوايات التي يُنظر إليها على أنّها في ”دائرة الأمان” و حدود ”الّتحكّم” ، بل هو تمييز محكوم بقواعد نظريّة عقلانّية ليست خاضعة للمساومات و النّقاش و الحوار .

هنا يبرز شيء ثابت ثبات الدّولة في العقيدة ، و هو الالتزام بما يُمليه ”المفهوم” على مؤسّسة الدّولة من ”استراتيجيّات” غير قابلة للارتداد ، و لكنّها كذلك غير قابلة للعبث .

فعلى سبيل التّشخيص و التّحديد ، هنا ، فإنّه ليس لدولة أن تستمرّ في عقيدتها السّياسيّة الاستراتيجّية في عمليّة ممارسة الحكم ، إذا اعتقدت بأنّ مفاتيح أبواب الجنّة التي تحيط بها في ”المجتمع” ، يمكن أن يؤتمن عليها في حيازة قومٍ ، أفراده مصابون بمرض التّقزّم التّكوينيّ و سُعار المُسوخ الذي تظهر أعراضه في الأنانّية و الإغماء العقليّ ، النّاجم عن ورم النّفس الخبيث النّاتج عن آليّات و حاجات و فروض الاجتماع ، و لو أنّ الأمر هنا لا يعني ، و لا بأي حال ، ارتهان السّياسة للاجتماع .

10▪ من قواعد تبنّي ”المفهوم” السّياسيّ العلميّ في استراتيجيّات الاختبار متراكم الّنتائج ، أن ينبني ذلك المفهوم ، علاوة على أساسّياته التّاريخيّة الثّابتة ، على مفهوم ”الإصرار” و الاستمرار في تحّمل النّتائج الجزئيّة الخاطئة أو المنحرفة ، والتي لا تحرف”الاستراتيجّيات” ، و الصّبر المقرون بتصحيحات مرحليّة لمسار نتائج تطبيق ”المفهوم” في الممارسة الجادّة ، انتظاراً لتباشير ظهور علامات أو إشارات علامات إنضاج العلاقة الجدلّية الجديدة أو المستجدّة ، بين ”المفهوم” و تطبيقاته المسؤولة و المناطة بأدوات مجرّبة من الوسائل و الرّجال ..

بحيث أنّ تراكم الخبرة في هذه الحقول العمليّة للمفهوم ، ينبغي أن تكون كفيلة باستحداث الخصوبة و استمطار الفنون التي عليها – و هي تستطيع – أن تنتخب من نتائج استعمال أفضل مفاعيل ”المفاهيم” ، أوفر اقتصادات الممارسة الاستراتيجّية للمفهوم ، الذي يخضع باستمرار إلى التّحسين الجينيّ السّياسيّ للثّقةِ العمليّة ، بضرورة ملازمة ”المفهوم” الّنظريّ بمحمولاته العملّية التي أصبحت مضمونة في الأداء ، لعقيدة الرّياسة في مناسبات السّياسة .

و لقد أثبت التّاريخ العمليّ للفكر السّياسيّ ، في التّطبيق الزّمنيّ العالميّ لهذه القاعدة ، أنّ تخلّي الحكم السّياسيّ العادل و الحامل لاستمرارّياته في استراتيجيّاته ، عن سلاح ”المفاهيم” السّياسيّة الواضحة و ذات الغايات المحدّدة ، العاقلة و العقلانّية ، و المستقلّ – استقلالاً نسبيّاً – عن أصحابه و حامليه من القادة حرّاس الاستراتيجّيات ، إنّما هو تخلّ شامل عن مشروع ”الدّولة” ..

هذا و المثال الدّاهم أبداً للفكر في التّاريخ السّياسيّ ، واضح في أسباب أشهر السّقوطات المدويّة للدّول العظيمة و الامبراطوريّات التّاريخيّة ، و لو أنّ أمثلة من مثل نموذج سقوط ( روما ) أو سقوط ( الاتّحاد السّوفييتيّ ) ، و حتّى سقوط ( الأندلس ) كخاتمة لسقوط الإمبراطورّية الإسلامّية ، هي ليست أمثلة حصريّة على الانشقاق التّفريقيّ البائن ما بين الممارسات و المفاهيم في إطار الاستراتيجّيات الشّاملة .

11▪ من جوهريّات دراسة و تحليل تاريخ ”المفهوم” السّياسيّ ، أن يقف الفكر السّياسيّ على تعليلات مترابطة ِلتدَاولِ الدُّوَلِ و زوالها أو في استمراريّتها إلى حين يقصُر أو يطول وفق مقاييس التّاريخ النّوعيّة و الخاصّة .

و في هذا المحلّ ، فإنّ ”المفهوم” السّياسيّ يختزن فيه طاقة قياسيّة و معياريّة تُنسَبُ إلى دالّاته غير الخطّيّة ، التي تُظهر تعقّد و تناقضَ مكوّناته التّراكميّة ، التي لا يُمكن شرحها بالّلغة الأيديولوجّية ، و لو أنّ مقاربتها ممكنة بواسطة فلسفة الممارسة التّاريخيّة ، التي تحمل في طرفها المستقبليّ علامات الإضافة و الإثبات و التّثبيت و ظروف و أسباب التّجاوز المعلّل بالظّرف المحدّد ، الذي بات في درجة كافية من الفهم و الوضوح ..

و هذا ما نسمّيه بالّلغات الحيّة ” البراكسيس” ( Praxis ) على التّحديد . [ Praxis: هي العملية التي يتم بواسطتها إصدار نظرية أو درس أو مهارة أو ممارستها أو تجسيدها أو تحقيقها ] ، إذ أنّه ليس كلّ ممارسة سياسيّة هي من هذا القبيل .

و يعتبر ( البراكسيس ) في ”علم السّياسة” التّاريخيّ ، مؤشّراً على قدرة ”الممارسة” اليوميّة العمليّة و البسيطة في التّكوين و الصّفات ، على أن تكون موثوقة المضامين السّياسيّة الأخلاقّية و العمليّة ، مثلما تكون موثوقة القابليّة لتكون متمكّنة من نيل ثقة المجتمع و الرّقابة و القرار ، الذي لا يمكنه أن يكون معلّلاً بغير ذاته ، تعليلاً موضوعيّاً ، ما لم يعتمد في ذلك على فائض التّعبير و الدّلالة و الكفاية الكامنة كلّها ، أصلاً ، في ”المفهوم” السّياسيّ ، المعلن أو غير المعلن ، في التّطبيق و التّنفيذ و الكفّ و الحدّ و الإتاحة و الإباحة ، المعلّلة ، كلّها ، في ”التّدبير” و ”الإدارة” و ”الّتحدّي” و ”الطّموح” .

12▪ لا تكتمل فلسفة ”المفهوم الّسياسيّ” أو تتكامل من دون النّظرة إلى ”المفهوم” من جانبيّ ضفتيّ ”الممكن” و ”الضّروريّ” .

فمن جانب ”الممكن” ، فإنّ الممكن ليس هو المتاح أو ”المسموح به” أو ”المقبول” أو الذي حاز على ثقة العادة و العرف .

كلّا ! إنّ هذا ليس ”الممكن” ؛ و هذا – على الحصر – ذلك الإيحاء الخرافيّ السّياسيّ بتكريس العالم الزّائف من أشباه المفاهيم ، التي انحرفت في جيوب المصالح و المكتسبات السّياسيّة ..

و ليكون ”الممكن” هو خلق الظّروف المختلفة من الأشياء و الإنسان ، لتطبيق و ممارسة المفاهيم التي ثبتتْ صلاحّيتها في ”تجارب” الآخرين ، و التي نعتقد ، لسبب أو لآخر .. بحاجتنا إلى جعلها من مكتسبات التّجربة السّياسيّة الصّالحة لتأسيس مبادئ الاعتقاد و إطار الّنظريّة أو عناصر هذه النّظريّة ، الكفيلة بخلق الثّوابت السّياسيّة و استعمال هذه ”الثّوابت” كدالّات خطابيّة من أجل لحظ الطّوارئ و المتغيّرات .

و ”الممكن” ، على هذا ، هو كلّ ما نجعله متلازماً في التّحقيق ، مع جماهيريّة ”المفهوم” الذي تحدّده نظريّة الحكم و استراتيجيّة الموقف العمليّ .

و لهذا يمكن أن يدخل الممكن في تعاضد – و يجب أن يدخل – فضاء ”الضّروريّ” الذي يحدّه بالمتطلّبات التي يستحدثها ”الضّروريّ” في تقريب بُعدَيّ نظريّة الحكم السّياسيّة في ”الحاكم” و ”المحكوم” .

13▪ إنّ ”الضّروريّ” ، إذاً ، هو نتاج استخراجنا ”المفاهيم” من العدَم ، تأسيساً على منظومة أخرى من ”المفاهيم” الثّابتة في تكديس خبرتنا و خبرة الآخرين ، اّللَتَينِ لا َجرَمَ في أنّهما من الأبعاد العملّية في احتكار ”المغزى” السّياسيّ للمضمون المفهوميّ ، كذخيرة لاستراتيجّية الموقف السّياسيّ المعاصر الذي على الدّولة أن تذهبَ به بعيداً ، إلى أفق الحدث الاجتماعيّ و التّاريخيّ ، كشرطين أوّليين من التّفرّد السّياسيّ في قرارات الدّولة ، بعيداً عن العواطف و الشّخصنة السّياسيّة لموارد السّيطرة و السّيادة باعتبار نَدرتها ( الموارد ) في المجتمعات المحدودة و الدّول غير البالغة .

14▪ ثمّة علاقة بين الممكن و المستحيل لضمان تحقيق الضّروريّ ؛ و هنا يبزغ علينا واقع معقّد من ”المفاهيم” ، علينا أن نتولّى صياغتها بواسطة لغتنا الواقعيّة التي اكتسبت درجات متقدّمة من العقلانّية السّياسيّة في التّاريخ .

إنّ وظيفة ”الضّروريّ” و ”الممكن” ، على ما حدّدناهما في ”المفهوم” السّياسيّ ، هما ما يجعل الإشكالّية التّقليديّة للسّلطة ( السّلطة بالمفهوم السّياسيّ التّواضعيّ ، و إن لم يكن بهذا التأطير من شروحات و تفاسير السّلطة في بعدها الفلسفيّ – السّياسيّ ! و قد تناولناه ، هنا ، كثيراً ، و في مناسبات لا تُعدّ ..) ، و استثمار هذه ”الإشكالّية” ، موضع الوضوح العمليّ القادر على تكريس الدّولة ، بعيداً عن المجازفات الخاصّة للسّاسة و عن الشّخصنة السّياسيّة عند الأفراد ، و كذلك بعيداً عن الاستئثار أو الّتسيّب في المصالح و الغايات .

و يبرز هنا ، بالضّبط ، مشروع ”المفهوم” كمشروع نظريّ نقديّ لا يتأّخر عن كونه سياقاً عمليّاً في مواجهة قوى الظّلم و الجهل في وقت واحد ؛ إذ مع ”المفهوم” نحن ، فقط ، نتعرّف على ”القانون” .

15▪ تواجه سياسات العالم ، اليومَ ، في مختلف الدّول و النّظريّات و القواعد العلميّة المقنّنة في قواعد و أصول و قوانين ، أكبر مهزلة سياسيّة تاريخيّة في مشروع العالَم ، مضمونها الاستهتار بالّنظريّة السّياسيّة في حدود تلك القواعد و القوانين ، و الجنوح البربريّ عن ”المفاهيم” المؤسِّسَةِ ، في سُعار الافتراضّية العنفيّة لممارسة السّياسة ، و ذلك باحتقار الأصول المعتبرة كضماناتٍ تفوق في الواقع حقائق ”الممكنات” و ”الضّرورات” الأساسّية ، و بانفصال ”السّياسة” عن ثوابت علوم و فنون السّياسة ، معاً ..

فإذا بنا أمام تمثيليّات ظالمة و مُمِلَّةٍ و محتَقِرَة و مُحتَقَرَة ، و شكليّات غير لائقة بمنطق مختلف أنواع ”العدالات” ، لينصرف كلّ ذلك في تدهور منحدر بشدّة نحو الانهيار العالميّ للتّماسك الهندسيّ ، الذي يتطلّبه العمل على تطوير و إنضاج كفايات ”المفاهيم” ؛ حتّى أنّ العالمَ ، و في كلّ مكان ، و منه عندنا ، أيضاً ، قد دخل عصراً حراريّاً لاهباً من عصور الارتداد نحو الّشخصنة التي أوضحت ، حتّى الآن ، خطورة استبداديّة إدارات الأفراد للشؤون العاّمة و احتقار القيم و محاولات فرض نسيانها على الفكر السّياسيّ ، كما على المجتمعات ، لخلق مجتمعات و عوالم و دول و مجتمعات ممحيّة و مُزَاحَةٍ خارج خطوط العقلانّية السّياسيّة ، التي يجب أن يُحتّمها التّطوّر المرافق للإنجازات الحضارّية التَّقنيّة و العقليّة و الفكريّة ..

و بهذا يُفرضُ على المواطن العالميّ أسوأ أنواع التّكيّف و أكثره قهراً و إهداراً للموارد و الطّاقات و البشر و القيم ، وذلك في تفريغ ”المفاهيم” نفسها من مضامينها و حرمان الواقع التّاريخيّ منها ، و من اتّجاهات و احتمالات مواصلة إبداعها للحضارة و العدالة و الحرّيّات و الدّيموقراطيّات ، و ذلك من دون أن نُضَمِّنَ هذه المصطلحات الشّهيرة أيّة مضامين راديكاليّة أو ثقافيّة مشوّهة ، و لكن ، أيضاً ، من دون إغفال أبعادها الحضاريّة التي وفّرتها لها التّضحيات التّاريخيّة بالأثمان الباهظة ، التي قدّمت فيها عصارات الإنسانّية الكثير من الغالي و النّفيس .

16▪ هنا يجب أن نصل إلى نهايات حديثنا على استراتيجيّات المفاهيم السّياسيّة و ظروفها المحلّيّة و العالميّة ، و ما قد لاحظناه من ممكناتها و ضروراتها في القانون السّياسيّ الذي يبقى يشدّ السّياسة ، بواسطة استقلالّية المفاهيم ، إلى العلم النّظريّ التّاريخيّ النّقديّ ، و الذي يختزن ، بصفته هذه ، بعده كَفَنٍّ من الفنون الرّؤيويّة التي تحمل في باطنها شروطها الواقعيّة ، و التي تتفاعل في التّبادل مع ”الثّوابت” بغناها المزدوَج ، كما من حيث هي في ”المفهوم” السّياسيّ المحدَّد اجتماعٌ موضوعيّ ، بالطّبيعة التّاريخيّة السّياسيّة ، من العلم و الفنّ ..

و لكن قبل كلّ ذلك ، أيضاً ، في الغاية السّياسيّة التي تسمح بازدهار الإنسان في غاياته الآيلة بالتّدريج إلى وضوحها في الالتزام الّتلقائيّ الإنسانيّ للإنسان بالإنسان .

و هنا ، نبتعد ، كما هي عادتنا في الفكر الفلسفيّ السّياسيّ ، عن المنطلقات الأخلاقّية ، و لكن دون أن نغفل البعد الأخلاقيّ للسّياسة ، و دون أن نعيد شرح مفهوم السّياسة الأخلاقّية التي أضحت قدراً للسّياسة و السّاسة ، لا انفكاك منه في الذّاتيّة و الموضوعيّة على السّواء .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى