مسيرات العودة في غزة تكتشف أغنية منسية لأم كلثوم وعبد الوهاب
لو تجولت في مدن فلسطين المحتلة، فستعترضك الكثير من الجدران المخطوطة بالعبارات والرسوم الوطنية في الشوارع، أما إذا اقتربت أكثر من ميادين الاشتباك مع القوات الإسرائيلية، فإن الكثير من الأهازيج الثورية المتقاطعة في معانيها ستشدك أيضًا، وخلال هذه الحالة – وبالأخص في الفترة الأخيرة – من المرجح أنك ستستمع لـصوت أم كلثوم والموسيقار محمد عبد الوهاب المشترك وهما يصدحان بـ«إلى فلسطينَ طريقٌ واحدٌ، يمرُّ من فوهةِ بندقيّه» في كل منعرج يشتبك فيه الفلسطينيون مع قوات الاحتلال.
هذه القصيدة الثورية التي عنونها كاتبها الشاعر نزار قباني بـ«طريق واحد» ولحنها وغناها عملاقا الفن العربي، كوكب الشرق أم كلثوم، والموسيقار محمد عبد الوهاب، خلدت في أذهان الفلسطينيين في وقت نسيت فيه في موطن نشأتها نفسه (مصر)، وعادت لتتربع من جديد على رأس الأغاني الثورية، التي حملت همّ القضية الفلسطينية بجميع أبعادها، ويشهد بذلك إعادة نشرها بشكل مكثف على وسائل التواصل الاجتماعي في فلسطين.
عربيًا، لم تلق الأغنية رواجًا في أوساط الجمهور العربي، كبقية أغاني أم كلثوم التي لحنها الموسيقار عبد الوهاب، أما فلسطينيًا فقد تحولت إلى لازمة ثورية يغنيها الفلسطينيون ويستمعون إليها في أحداثهم المستمرة.
كانت حرب1967 صاعقة للعرب جميعًا؛ فالجيوش العربية التي هبّت لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي على فلسطين هزمت؛ ونتيجة لذلك احتلت إسرائيل ما تبقى من أرض فلسطين، وهنا اشتد عود الثورة الفلسطينية، وكثف الفلسطينيون تشكيلاتهم المقاومة.
وقع الهزيمة العربية انعكس بهيئة أعمق على الشعراء العرب وقصائدهم، إذ بعد عام من الهزيمة العربية، وتصاعد وهج الثورة في فلسطين، راح الشعراء بكلماتهم يشقون طريق المؤازرة للثورة التي نهضت من وحي الهزيمة.
قصيدة «طريق واحد» التي كتبها الشاعر نزار قباني بعد عام من النكسة العربية، كانت واحدة على طريق الشعر الثوري، الذي رسم خلال تلك الفترة مساراً شعرياً مغايراً، وغدت وظيفة استنهاض الروح الكفاحية العربية والفلسطينية، ملقاة على عاتقه.
«خاتم أمي بِعتهُ» سردية نشوء الثورة
«خاتم أُمي بعتُهُ.. من أجل بندقيةْ.. محفظتي رهنتها.. دفاتري رهنتها.. من أجل بندقية» بهذه الافتتاحية، قدم الشاعر اختزالًا وافيًا لظروف تكون الثورة الفلسطينية، وسرد كيفية الحال التي خاضها الثوار الفلسطينيون في بداياتهم في سبيل الحصول على بندقية يدافعون بها عن أرضهم أمام سعي جيش الاحتلال الإسرائيلي الحثيث لالتهامها.
تعيد تلك الكلمات ذكريات ما بعد النكسة، وبروز ملامح تراجع الدور العربي عن فلسطين، كانت أيادي الفدائيين قد تجردت بشكل كبير من السلاح، وصار الحصول على قطعة واحدة يكلف أصنافًا من العذاب في ظل انعدام مصادر الدعم العسكري.
أصبح عندي الآن بندقية
إلى فلسطين خذوني معكم
إلى ربى حزينة كوجه المجدلية
إلى القباب الخضر والحجارة النبيه
بمزج الفرح والفداء قدم الشاعر شطر قصيدته الثاني كوصف لمشهدية الفداء العربي والفلسطيني، بعد أن امتلك سلاحًا للدفاع عن القضية الفلسطينية، وهي مرحلة حملت موقف الشعوب العربية من القضية حتى بعد نكسة الـ67، ففي سجلات الثورة الفلسطينية لم تقتصر بنية الثورة على العنصر الفلسطيني بشكل خالص؛ إذ توافد فدائيون عرب من كل الأقطار وشاركوا في معارك الدفاع عن فلسطين، وامتزجت دماؤهم بدماء الفلسطينيين.
في استذكار الهم الفلسطيني
بخيال المحب الذي بدا سمتها الفنية يلهج صوت السيدة أم كلثوم أمام حاجز عسكري إسرائيلي بالضفة المحتلة، في الغناء:
20 عامًا وأنا أبحث
عن أرضِ وعن هوية
ابحث عن بيتي الذي هناك
عن وطني المحاط بالأسلاك
ابحث عن طفولتي
وعن رفاق حارتي
عن كتبي.. عن صوري
عن كل ركن دافئ وكل مزهرية
يبدو المشهد صادمًا في ظاهره أن تقف السيدة أمام حاجز عسكري إسرائيلي، لكن هذا الذي يحدث حقيقة في أغلب المسيرات الفلسطينية التي تخرج لمواجهة قوات الاحتلال، يحمل أحد المشاركين سماعة كبيرة على كتفه أو يجرها على عربة، وعندما تغني السيدة بيت: «20 عامًا وأنا أبحث عن أرضِ وعن هوية يقاطعها بعض المشاركين صارخًا: « صاروا 70 سنة يا ست».
يتكرر هذا المشهد في الأحداث الفلسطينية، في مسيرات العودة المستمرة على الحدود في غزة وغيرها، وعادة ما تكون هذه الأغنية لسان هذه المسيرات، فحال الاشتياق واللوعة التي نقلها الشاعر قباني في قصيدته نفسها ولحنها عبد الوهاب وغنتها السيدة لم يتبدل أو يتغير منها سوى الرقم، كانت 20 عامًا يوم خرجت القصيدة، لكنها الآن تسير في طريق قرن كامل.
«بارودتي.. صارت هي القضية»
إلى فلسطين خذوني معكم
يا أيها الرجال
أريد أن أعيش أو أموت كالرجال
أصبح عندي الآن بندقية
أصبحت في قائمة الثوار
أفترش الأشواك، والغبار
وألبسُ المنية
مشيئة الأقدار لا تردني
أنا الذي يغير الاقدار
قولوا.. لمن يسأل عن قضيتي
بارودتي.. صارت هي القضية
خلال الفترة الأخيرة تجددت روح الأغنية في ظل حالة الغليان الشعبي الذي تشهده ميادين فلسطين، والاشتباك المتواصل مع قوات الاحتلال، وفي مقابل ذلك تعيش بعض الأنظمة العربية حالة نشوة عالية في العلاقة مع إسرائيل.
بيد أن العلاقة الإسرائيلية العربية تحتاج وصفًا أدق من ذلك، فقد بدا أن بعض الأنظمة العربية تحولت إلى لسان لدولة الاحتلال، بدءًا من الذين يروونه كيانًا ديمقراطيًا حافظًا لاستقرار الشرق الأوسط، وصولًا إلى الذين يسوقون إلى قرار الرئيس الأمريكي الأخير باعتبار القدس عاصمة لإسرائيل، كالتصريحات المتواصلة لوزير خارجية البحرين خالد بن أحمد آل خليفة الذي وصفه الفلسطينيون بـ«عراب بيع القدس»، وليس إنتهاءً بمن أدان المقاومة الفلسطينية أمام دول العالم.
الأغنية، تحمل أيضًا رسالة دفاع الفلسطيني عن صوابية قراره في حمل البندقية ضد الاحتلال في وقت يدينه معظم دول العالم، من بينها دول عربية، ربما كان آخرها موقف السعودية على لسان مندوبها في الأمم المتحدة، عبد الله بن يحيى المعلمي، خلال مشروع إدانة حركة «حماس» الذي تقدمت به الولايات المتحدة الأمريكية، إذ قال: «إن السعودية تشجب إطلاق الصواريخ من غزة باتجاه إسرائيل».
يجد الفلسطينيون في الأغاني الثورية ناقوسًا يطرقون به باب الأنظمة العربية، الذين يديرون ظهورهم إلى القضية الفلسطينية، وانزلقوا إلى مستوى تطبيعي مع الاحتلال الإسرائيلي غير مسبوق، وتقف أغنية «أصبح عندي الآن بندقية.. إلى فلسطين خذوني معكم» إلى جانب الأغنية الثورية المعروفة «وين الملايين.. الشعب العربي وين»، وغيرها من الأغاني الثورية التي تخطت زمنيتها إلى أبدية في ذاكرة شعب لم يتبدل حاله منذ 100 عام مضت.