السلفية الوهابية أصل الإسلام السياسي في الوطن العربي

بقلم : توفيق المديني

الكتاب: الظاهرة السلفية بالوطن العربي في القرن العشرين :المفاهيم-التيارات-الأطروحات

الكاتب: الدكتور كمال الساكري

الغوص في دراسة ظاهرة السلفية يقودنا إلى عرض أهم التعريفات الخاصة بها قصد ضبط مفهوم جامع مانع لها بعد أن تعددت تعاريفها ومفاهيمها، فأحدثت لبسًا بل غموضًا لدى القارىء العربي والإسلامي .ويقدم لنا الباحث التونسي الدكتور كمال الساكري،في كتابه (الذي هو بالمناسبة ملخص مكثف لأطروحة نيل شهادة الدكتورة من كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس في 22يوليو2017): الظاهرةالسلفية بالوطن العربي في القرن العشرين:المفاهيم-التيارات-الأطروحات،الذي يتكون من مقدمة، وثلاثة أبواب،حيث يحتوي كل باب على ثلاثة فصول وخاتمة، إضافة للخاتمة العامة،ويحتوي على 378صفحة من القطع الكبير، وصدر عن دار شامة للنشر-تونس في مارس 2018،تعريفًا شاملاً عن تيارات السلفية من حيث أصنافها وبناها التنظيمية وخصائصها الفكرية والدينية والسياسية وامتداداتها الجغراسياسية في الوطن العربي وأخيرا بسط أطروحات السلفية في المجال الديني والسياسي في بعده الشامل أي السياسي و الاقتصادي والاجتماعي والثقافي المعبر عنه في التراث بالعقيدة والشريعة.

إشكالية البحث

السؤال الذي يطرح نفسه، هل السلفية حركة دينية دعوية صرف أمحركةسياسية تنشد الحكم؟

إنّ اعتبار السلفية حركة دينية دعوية لا شأن  لها بالسياسة أمرتؤكده بعض التجارب، حينما نرى تيارات سلفية لا تهتم بالشأن العام من حكم وسلطة وانتخابات وبرلمانات ،ويقتصر عملها على نشر الدعوة الإسلامية.فهذه التيارات السلفية ترفض الخوض في السياسة والحكم.”فمن السياسة ترك السياسة”على حدّتعبير محمد ناصر الدين الألباني. ولكن هل حقا هذه السلفية الألبانية بعيدة عن السياسة؟

وهناك تيارات سلفية أخرى ترفع راية السلفية ولكنها تتصدر للحديث عن الشؤون العامة من الحكم بين الشرعية واللاشرعية والدين والكفروالإسلام وأعدائه والجهاد وضرورته وضرورة محاربة الربا والبنوك والعرى والسفور ومقاطعة التلفازوالفنون لأنها ضرب من المجون والفتنة والمروق على صحيح الدين – مما يشرع التساؤل حول حقيقة السلفية:هل هي حركة دعوية أودعوية سياسية؟

لقد مثل غموض الظاهرة السلفية وعلاقتها بالإسلام السياسي منطلق تساؤل الباحث كمال  الساكري  وحيرته ،فكان أهم دواعي كتابه هذا. فأصبح السؤال المركزي للبحث: كيف يمكن اعتبار السلفية حركة سياسية لها فهمها السياسي ومشروعها السياسي بالرغم من الاعتقاد السائد حول رفضها للسياسة وعدم انتمائها بالتالي إلى الإسلام السياسي.

ويرى الباحث،أنّ الإجابة عن هذا السؤال آثارلديه  ثلاث إشكاليات. الأولى : هل السلفية حركة دينية دعوية صرف أو حركة سياسية وإن بطريقة مغايرة؟ و الثانية هي: هل السلفية حركة واحدة موحدة وإن بدت متعددة الفروع أو هي حركات متعددة ومتباينة حد التناقض فيما بينها؟ و الثالثة هي : هل السلفية حركة تجديد ديني ونهوض سياسي وحضاري أو هي مجرد توجه تقليدي نكوصي يريد إعادة إنتاج الماضي المتخلف تحت شعار خلب هو استعادة الدولة الإسلامية النموذجية؟

ويعتقد الباحث أنّ الإجابة عن هذه الإشكاليات الثلاث تنبع من فرضيتين كبريين تؤطران البحث وتوجهاته إلى تحقيق أهدافه المرجوة ،وهما الفرضية الأولى: السلفية صاحبة مشروع سياسي على عكس الاعتقاد السائد. والفرضية الثانية: السلفية أصل الإسلام السياسي وليست خارجه عنه أو مجرد فرع منه.

فقد أثارت تلك الإشكاليات وهاتان الفرضيتان أسئلة جوهرية قادرة في تكاملها على تناول الظاهرة السلفية تناولاً شاملاً ويعطي إجابة وافية عن “الكل السلفي”. وهو تميز ينفرد به هذا الكتاب طالما أن جميع الأعمال السابقة التي أمكن للباحث الاطلاع عليها لم تنل هذا التميز لأنها اتصفت – على تفاوت إحاطتها بالظاهرة السلفية – بالتناول الجزئي. ولقد وفق الكتاب في تقديم مفهوم واف عن الظاهرة السلفية حينما لم يكتف بملاحظة تضارب مفاهيم السلفية ولبسها وتقلقلها فحسب وكان ذلك مجهود الأعمال السابقة وإنما تجاوزها إلى تفسير سبب ذلك التقلقل عندما رده إلى تعدد تيارات السلفية إذ بلغت سبعة وانقسامها إجمالاً إلى أيديولوجيين كبريين متناقضتين: أيديولوجيا كلاسيكية ماضوية وأيديولوجيا حديثة تجديدية تتفقان في أهمية السلف والإسلام كهوية ومرتكز لكن تختلفان في نظرية التغيير. فبينما تسعى الأيدولوجية السلفية الكلاسيكية إلى إحياء الماضي وإعادة إنتاجه لكونه فترة مقدسة ونموذجية وغاية المنتهى ولا تميز بين قداسة الإسلام المعياري ودنيوية الإسلام التاريخي فإن الإيديولوجيا السلفية الحديثة تقدر الماضي الديني في بعده العقدي ومبادئ الإسلام المعياري الإنسانية السمحة وتنطلق منه لبناء نهضة حديثة قوامها العلم والمدنية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية والسلام العالمي.

بل لقد سعت مقاربتي للسلفية إلى تحديد دقيق للسلفية فإذا هي ليست مجرد دعوة دينية لاتباع السلف. وإنما هي ظاهرة اجتماعية تنتمي إلى الظواهر عامة والظواهر الاجتماعية خاصة.

نشأة السلفية في سيرورتها التاريخية

عرّف الباحث كمال الساكري السلفية بوصفها ظاهرة اجتماعية نشأت في فترة من فترات حضارتنا العربية الإسلامية لتعبر عن تمسك توجه عام لدى نخبة الأمة من علماء وفقهاء وغالبية سواد الأمة بالدين الإسلامي على طريقة السلف الصالح ،ويعود نشوء الظاهرة السلفية إلى حاجة المسلمين بعد وفاة الرسول إمام الأمة ووفاة صحبه من تابعين وتابعي تابعين إلى منهج وزعامة تقودانه أمام ظهور دعوات من أبناء الأمة تبدو مخالفة لمنهج السلف ودعوات من الملل الدخيلة من عقيدتها المجوسية والمانوية والهرمسية تهاجم الدين الإسلامي ورسالة النبي محمد (ص) وتبشر بدياناتها الثنوية الشركية غير التوحيدية.

لقد نشأت الظاهرة السلفية لحاجة المسلمين إلى الدين باعتباره ثقافة عامة قهرية لا إمكانية لتجاهله في معاشهم ومعادهم ولا قدرة لأعدائه على محوه لقانون الدين القهري. فالإسلام ثقافة المسلمين العامة والمهيمنة والسلفية تزعم لنفسها تمثيل الدين ونبيه وصحابته من خلال التزام منهجهم. في هذا السياق نشأت السلفية في القرن الثالث للهجرة عند حدوث فراغ في قيادة المسلمين بسبب غياب الرسول وصحابته وتابعيهم وتابعي تابعيهم واحتياج المسلمين لقيادة تعادل الرسول وصحابته والخلافة الراشدة وقدسيتها وتعدد الفرق الإسلامية واختلاف مللها ونحلها وأطاريحها الدينية والسياسية فحمل إمام الحديث أحمد بن حنبل لواء السلفية منادياً باتباع السلف الصالح طريقة للمحافظة على الدين الإسلامي ومنهج الرسول محمد (ص) والصحابة في الدين والدنيا وصونا له من البدع والتحريف حسب زعمه الذي تقوده الفرق الغالية باسم العقل كالمعتزلة المعطلة لأحكام القرآن والسنة أو بأسم الإمامة كالشيعة المقدسة للإمام والمنادية بالنص والتعيين والرافضة للشورى والاختيار أو باسم الحكم بما أنزل الله مثلما يؤمن الخوارج ولاسيما الغلاة منهم في تكفير كل من لا يتقيد بالنص القرآني في الدين عامة وفي الحكم خاصة أو باسم حكمة المعلم مثلما تعتقد المانوية والفرق الهرمسية الدخيلة على الإسلام والجاحدة للنبوة والملحدة…

ولقد تميزت السلفية التأسيسية بتقديس الأثر قرآنا وحديثا فاعتنت بالتدوين ووضع المسانيد وكتب الحديث التي وسمتها بالصحاح وتحريم الخروج عن ولي الأمر تقيداً بحديث منسوب إلى النبي لا يبيح الخروج عن أولياء المر إلا إذا كفروا كفرا بواحا تحقيقاً لوحدة الأمة حسب رأيها”.

ويبدو أن معظم التعريفات التي وضعت للسلفية قد اكتفت بمفهوم السلفية المرتبط بنشأتها وذهلت عن التغييرات الجذرية التي طرأت على الظاهرة السلفية خلال مسار تطورها في القرون اللاحقة.

وهو الأمر الذي نبه إليه الباحث كمال الساكري  من خلال تتبع مسار السلفية في الحقب التاريخية فقد استمر مفهوم السلفية على حاله منذ النشأة في القرن التاسع الميلادي إلى نهاية القرن التاسع عشر. حافظ المفهوم على جوهره مدة عشرة قرون. وساعد على الاستقرار والمحافظة عموم الفكر السلفي كلا من الغالبية العظمى من سواد الأمة ومعظم الفقهاء وسلطات الحكومات المتعاقبة على الدولة العباسية أو الموالية لها. فرأينا عهد المتوكل بالله (847-861 م) يذعن لأمر السلفية بزعامة أحمد بن حنبل (780-855 م) ويبطل الدعوة المعتزلية وخلق القرآن ويعلن اعتماد المنهج السلفي في الحكم والدين.

وسمعنا عن سطوة البيان القادري فترة القادر بالله (991-1031م) حين ساد البيان القادري السلفي الدولة والدين وكفر من خالفه من دعوات إسلامية منافسة من معتزلة وشيعة فاطميين باتوا يهددون الخلافة العباسية في الحكم والمذهب.

وقرأنا عن نجاح المرابطين (1056-1147م) في بناء ملكهم بالمغرب الأقصى وبلوغهم الأندلس في فترة ارتخى فيها الحكم العباسي المركزي وتضعضع حكم ملوك الطوائف بالأندلس نتيجة انشغالهم بالمتع واللهو والصراع فيما بينهم متناسين تربص الأسبان الدوائر بهم.

واستطاع المنهج السلفي أن يكتمل ويحدد عن طريق ثاني أكبر مؤسس للسلفية التقليدية الشيخ ابن تيمية وعرفت الدعوة السلفية أوجها بقيادتها للحروب المتصدية للصليبية والتتار في القرنين الثاني عشر والثالث عشر ميلادية، فسطع نجم العز بن عبد السلام (1181-1262م) وابن تيمة (1263-1328كم) من العلماء وصلاح الدين الأيوبي (1138-1193م) والاهر بيبرس (1223-1277) وخليل قلاوون (1268-1294) وغيرهم من القادة العسكريين. ولئن تراجع حضور السلفية بعد سقوط الدولة العباسية وبسط الخلافة العثمانية نفوذها وعموم الوطن العربي بداية من مطلع القرن السادس عشر ميلادية باحتلال القدس (1516م) ثم بغداد (1530م) فبقية الأقطار ما عدا المغرب الأقصى فإن بروز الوهابية للوجود في منتصف القرن الثامن عشر (1744م) كان إيذانا بعودة السلفية لواجهة الأحداث والإعلان عن استئناف السلفية التاريخية نشاطها ومحافظتها على المفهوم التقليدي للسلفية.

التيارات السبعة للسلفية

يرى الباحث أنّ للإيديولوجيا السلفية أيديولوجيتان: أيديولوجيا كلاسيكية ماضوية عقدية جامدة وأيديولوجيا عقلانية تجديدية شاملة وحداثية. إلا أن انقسام السلفية إلى قسمين كبيرين من حيث الايديولوجيا وقاعدتها الابستمولوجية لا منع تفرعها إلى سبع تيارات متمايزة.فمنها السلفية الأم والمعروفة بالسلفية التاريخية أو الكلاسيكية التي ورثت مذهب أحمد بن حنبل وتنظيرات السلفيين وإضافات ابن تيمية وتطبيقات الدولة المرابطية والدولة الوهابية. ومنها السلفية الإصلاحية بقيادة زعماء الجامعة الإسلامية النابذة للجمود الديني والمنادية بالتجديد والاجتهاد العقلي والمحاربة للتخلف والانغلاق والعاملة على النهوض الحضاري والتمدن والتقدم العصري. ومنها السلفية الوطنية الرافعة للواء الاستقلال الوطني من براثن الاستعمار الغربي والحاملة لمشروع تحرري ضد الجمود والانغلاق. ومنها السلفية الجهادية التي رفضت الدعوة السلمية لبعض شيوخ السلفية وزعمائها في إصلاح الحكام ونشر الإسلام ورفعت لواء الجهاد وسلاح العنف فسموا بالسلفية الجهادية. ومنها السلفية العلمية التي رفضت العنف والجهاد ونادت بتصفية التراث وبتربية النشء على قيم الإسلام السمحة طريقاً للتمكين. ومنها السلفية الحركية المشهورة بالسرورية التي دمجت بين العقيدة السلفية والحراك السياسي الإخواني ومنها السلفية الولائية المنسوبة إلى الجامي وربيع المدخلي والمجرمة لمناوأة أولي الأمر أو معارضتهم أو الخروج عليهم بأي شكل من الأشكال.

ولقد دلّل الباحث على تمايز هذه السلفيات السبع من حيث استقلال كل حركة بذاتها قيادة ومقولات وهيكلة تنظيمية ولاءها عقدي تنظيمي لا وطني سيادي، ولا يتميز تيار عن آخر من حيث الكلاسيكية والحداثة بتاريخ النشأة وإنما بطبيعة الأطاريح العقدية والدينية التي يؤمن بها. وعلى هذا الأساس وبعد أن عرف الباحث  تلك التيارات السبعة حسب تاريخ ظهورها احتراماً للتحقيب التاريخي واتباع مسار تطورها ، فإنه صنفها حسب معيار الحداثة والكلاسيكية إلى أيديولوجيتين: واحدة كلاسيكية وتضم السلفية الأم والجهادية والعلمية والحركية والولائية وأخرى حداثية وتتكون من السلفية الإصلاحية والوطنية.

وسعياً إلى تدقيق مفهوم السلفية راعى الباحث الساكري  البعدين الأساسيين في الإحاطة بالظاهرة السلفية ،وهما :البعد المعرفي والبعد الاجتماعي. وهو ما قصرت فيه التعريفات الأخرى حينما لم تدرك خضوع المفهوم للتصورات العرفانية والاجتماعية وهي متعددة في الواقع ومتضاربة بل ومتناقضة من ناحية أولى وتفاوت أطروحاتها الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية من جهة ثانية وتناقض ابستمولوجياتها قاعدة أيديولوجياتها من ناحية ثالثة. فجاءت المفاهيم جزئية قاصرة عن الإحاطة بالكل السلفي او تعميماً مخلا رأي توجهاً سلفياً وغاب عنه الثاني. أو قراءة أيديولوجية متعصبة أقصت القراءات المخالفة أو قراءة جامدة للسلفية جاهلة أو متجاهلة لأهمية الجانب المعرفي الابستيمي في تشكيل الأيديولوجيات.

الوهابية بوصفها السلفية المرجعية الأم

كشف الباحث الساكري في الباب الثاني مفهوم تلك التيارات السلفية السبعة للسياسة وفهمها لها في بعدها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي وطريقة ممارسة العمل السياسي مما شجعه على التعمق في تحليل البعد السياسي لدى السلفية للإجابة عن الفرضية لأولى: السلفية صاحبة مشروع سياسي على عكس الاعتقاد السائد.

لقد ساد الاعتقاد في الأوساط الشعبية والعلمية أن السلفية حركة دينية دعوية تهدف إلى إحياء الإسلام وتطهير العقيدة مما شابها من شرك وتحريف. ولقد عملت المقاربة الجزئية التي اعتمدها أغلب الدارسين للسلفية على تكريس هذا الفهم حتى أصبح فكرة بديهية مسلما بها. ولقد شكلت هذه المقاربة أحد العوائق الابستمولوجية في الإحاطة الشاملة بالسلفية ولاسيما بعدها السياسي  لكن تدرج الباحث الساكري في الإجابة عن الفرضية من خلال تحديد مفهوم السلفية وطبيعة التيارات الممثلة لها في البابين الأول والثاني ثم تعريفه لأهم أطروحاتها المختلفة في العقيدة والشريعة أي طرحها الديني والسياسي في الباب الثالث مكنّه  من أن يأكد الفرضية مائة بالمائة حينما استنتج أن السلفية بتعدد تياراتها وتنوع مقارباتها وباختلاف تصوراتها للسياسة بمفهومها الواسع وإن بدا بعضها في الظاهر بعيداً عن هذه السياسة أو رافضاً لها ،فإن كافة السلفيات تحمل مشروعاً سياسياً قد يكون مباشراً عند البعض وفق المعتاد والسائد وقد يكون مبطناً وغير مباشر وفق طريقة مغايرة للمعتاد عند البعض الآخر. وبالفعل فبتفحص مفهوم السلفيات السبع للسياسة استنتج الباحث  توزعها إلى طريقتين :طريقة مباشرة مألوفة وتسدها السلفية الأم والحركية والإصلاحية والوطنية. وطريقة مخالفة للمعتاد حد الشذوذ عند بعضها وتكرسها السلفية العلمية والولائية والجهادية.

يكاد يجمع الباحثونو السلفيون أنفسهم على أن الوهابية هي الوريث الشرعي للسلفية التاريخية والامتداد الطبيعي لها ، والمطور لها في آن معًا.ولما كانت الوهابية هي الحلقة الأخيرةبعد الحنبلية نسبة إلى أحمد بن حنبل ، و التيمية نسبة إلى أبن تيمية ، فإنّها مثلت الوريث الشرعي للسلفية في تطورها التاريخي عقيدة دينية ومنهجًا تأصيليًا وفكرًا ، فكانت الوهابية بمنزلة البحيرة التي صبت فيها روافد التأصيل العقدي الحنبلي وقرائح تنظيرات الطحاوي في مدونته الشهيرة العقيدة الطحاوية ، وشروح ابن بطة في مؤلفه المعروف بالشرح و الإبانةعلى أصول الديانة وتفاصيل مذهب السلف و العقيدة الإسلامية ، والسنة الصحيحة حسب زعم الاعتقاد القادري ، ثمإضافات ابن تيمية الفقهية والمناهجية في بناء المنهج السلفي و تدقيقه.

فالوهابية حينئذ بحيرة السلفية وينبوعها منذ القرن الثامن عشر ، فقدأغنت السلفية بتجربتها في نشر الدعوة وبناء الدولة السلفية الحديثة .وبقدر ما حققت مكاسب جيوسياسية تجسمت في توحيد الجزيرة العربية بعد طول تشتت وفرقة وبذل الوسع في تصحيح العقيدة الإسلامية وتطهيرها من البدع الشركية، فإنها طبعت العقيدة السلفية بطابعها  الخاص المتسم بالشدة والانغلاق ورفض التحاور مع المغاير،أوالتفتح على الثقافات المخالفة ،والإفتاء بتكفيرها.ولئن كان من التعسف اختزال السلفية التاريخية في الوهابية، فإنه منالإنصاف أيضًا أننقر بهيمنة الوهابية وسيطرتها على المجال السلفي وسعيها على احتكاره ، لا سيما في النصف الأول من القرن العشرين.

لقد قامت السلفية الأم ممثلة في الوهابية على ميثاق نجد الذي يسمح بتقاسم الداعية محمد بن عبد الوهاب والأمير محمد بن سعود الأدوار كل حسب اختصاصه لتسيير الدولة وتوسيع الملك أي تتماهى فيها السلطة الدينية والسلطة السياسية رسمياً وتتقاسمان الأدوار بالتساوي في فترة التأسيس والاستقرار قبل بناء دولتها على عهد عبد العزيز آل سعود سنة 1932 ولكن في فترات الحرب ومواجهة الأعداء كانت الكلمة تؤول إلى رجل السياسة والدليل على ذلك هيمنة الملك عبد العزيز على الحكم وتهميشه دور علماء الدين منذ تفجر الصراع بينه وبين معارضيه بسبب إيقاف عبد العزيز آل سعود توسع الدعوة الوهابية في الخليج والجوار منذ 1929 التزاماً منه بخريطة بريطانيا والقوى الدولية الكبرى.

ولعل أوضح موقف فيه موالاة لحكام السعودية في اعتمادها على الولايات المتحدة الأمريكية والغرب الكافر حسب حكمها الفقهي لمحاربة العراق بسبب غزوه للكويت فيما عرف بالاستعانة بالأجنبي.أما السياسة بأبعادها المختلفة فهي تبرير لسياسة ولي الأمر والحكم الملكي الثيوقراطي والطبقي التراتبي القروسطي المفروض تاريخياً على المجتمع والذي يحرم العلماء الوهابيون فيه الخروج عنه موظفين القاعدة الفقهية الموروثة وغير الحائزة على الإجماع حول صحتها في عدم الخروج على ولي الأمر مهما ظلم مكرسين لأيديولوجيا السمع والطاعة مدافعين عمن يعتقدون أنه الولي الشرعي، أما المعادي لهم والمتنازع معهم فيسارعون إلى تكفيره وإباحة دمه. فدلّ تاريخهم منذ نشأتهم على اتباع الدين والعقيدة لديهم للمصلحة والسياسة لا العكس.

السلفية الجهادية واللجوء إلى العنف

ولا يكاد يخرج فهم السلفية الحركية عن فهم السلفية الأم في السياسة فهم يؤمنون بأيديولوجيا السمع والطاعة ولكن بشرط التزام ولي الأمر بالصلاح والعدل. ولذلك فهم ينتقدون الحكام الظالمين والفاسقين والمشكوك في ولائهم للإسلام. وينادون بعزلهم إذا لم يصلحوا أمرهم لكنهم يرفضون الجهاد ومحاربة الأنظمة .

ويبلغ التغيير بطريقة مغايرة للسائد مداها مع السلفية الجهادية حين يرفضون التغيير السلمي والسياسي ،وينادون بالتغيير العنيف تحت شعار الجهاد .فقد قال الزرقاوي: لا نؤمن بالسياسة على الطريقة المعهودة عند بعض الجماعات ذات التوجه الحزبي والتي ترفع الإسلام شعاراً لها ثم تراها داخلة في البرلمانات وتشارك الطغاة في إشغال المناصب التي تحتكم لغير شرع الله .. مشروعنا السياسي ،قول رسول الله بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده. ولما كان الصراع الكوني حسب الجهاديين عقائدياً ،وكان المسلمون قد ارتدّ حكامهم وأغلب شعبهم وكافة نخبه، فالمنهج الصحيح في التغيير هو قتال المرتدين بلا رحمة ،واقتلاع النخب العلمانية المستغربة والحكام الكفرة، لتنصيب دولة الإسلام الصافية الطاهرة النقية من كل شرك وردة وكفر، ثم الانتقال إلى مقاتلة الكافرين كفرا أصلياً حتى تطهر الكرة الأرضية من رجس الكفر والردة إلى الأبد.

إنّ المتأمل في طريقة الجهاديين للتغيير تقودنا إلى استنتاج تبنيهم السياسة العنيفة أو أنهم يتبنون التغيير العنيف في الظرف الحالي إسلامياً وعالمياً مادام الوضع الديني العقائدي قد انحط حسب فهمهم، وأصبحنا نعيش فترة ردّة معاصرة ،ولحظة عصر جاهلي أشد كفراً من الجاهلية الأولى. من هنا فإن السلفية الجهادية ليست ضد السياسة في المطلق مادامت السياسة الإسلامية أي السياسية الشرعية هي الهدف والمبتغى بعد تغيير واقع الردّة والكفر الطاغيين في العالم.

إن رفض السلفية الجهادية الواقع والسياسة بكافة أشكالها المطبقة اليوم وتركيزها على الجهاد باعتباره الطريقة الوحيدة الشرعية الكفيلة بتغيير الواقع تغييراً جذرياً ونهائياً لصالح الدولة الإسلامية هو الذي أشاع فكرة رفضها للسياسة وتمحض دعوتها للعقيدة والشريعة.

فالسلفية الجهادية حركة سياسية رغم أنفها لكونها ترفض الأطروحات السياسية والممارسات التطبيقية السائدة ،وتجاهد بالعنف والفرض لقلب الواقع من أجل إرساء الدولة الإسلامية عنوان مشروع السياسة الشرعية المقدسة وصاحبة الدولة الثيوقراطية الدموية الاستبدادية القروسطية.نعم إن مفهوم السياسة لدى السلفية الجهادية مغاير للسائد ومتخلف عنه لأنه يكرس ثقافة قروسطية.

السلفية هي اصل الإسلام السياسي

وما يمكن أن تختتم به هذا الموضوع أن جميع الحركات الدينية وحركات الإسلام السياسي بما فيها السلفية تخضع لحكم اللاشعور السياسي “المؤسس للعقل السياسي العربي يجب أن لا ينظر إليه فقط على أنه “الديني” ” والعشائري” اللذان يوجهان من خلف الفعل السياسي بل لابد من النظر إليه أيضاً على أنه السياسي الذي يوجه من خلف التمذهب الديني والتعصب القبلي”.

وهكذا يؤكّد الباحث الساكري الفرضية الأولى بأن السلفية على تعدد تياراتها واختلاف فهمها للسياسة ،فهي ظاهراً وباطناً وبصفة مباشرة وبصفة غير مباشرة وبصفة واعية وبصفة لا واعية صاحبة مشروع سياسي. وبذلك أمكن الإجابة عن الإشكالية الأولى هل السلفية حركة دينية دعوية صرف أو حركة سياسية وإن بطريقة مغايرة؟

إن التحقق من ملكية السلفية لمشاريع سياسية وأنها صاحبة مشروع سياسي يستتبع دخولها دائرة الإسلام السياسي لا خروجها عنه مثلما يسود الاعتقاد عند جمهور الباحثين .إن مثل هذا الاستنتاج قاد الباحث إلى الإجابة عن الفرضية الثانية: السلفية أصل الإسلام السياسي وليست خارجة عنه أو فرعاً منه.

تعتبر هذه الفرضية مغامرة بحثية لأنها تجرأالباحث  الساكري  على معاكسة الاعتقاد السائد لدى الغالبية المطلقة من الباحثين عرب وغربيين والسباحة عكس التيار. إذ يذهب بعضهم إلى نفي انتماء السلفية إلى الإسلام السياسي لأنها حركة دينية دعوية. أما البعض الآخر إذا سلم بأنها فرع من الإسلام السياسي لم يذهب بعيداً ليعتبر أنها أصل له لسيادة الاعتقاد عند الباحثين أن الإخوان المسلمين هم أصل الإسلام السياسي.

في حين خالف الباحث كمال الساكري هذا الاعتقاد وانفرد بزعم السلفية هي الأصل للإسلام السياسي. ولقد كان منطلق البحث والتقصي لتأكيد فرضيتيه أسبقية السلفية الوهابية أو الأم (1744م) وريثة السلفية التاريخية على ظهور حركة الإخوان المسلمين في مصر سنة 1928 م وتساءل الباحث الساكري  أين ذهبت السلفية الأم وتفرعاتها بعد 1928 سنة تأسيس حركة الإخوان المسلمين وبعد 1932 سنة تأسيس الدولة العربية السعودية؟ لماذا لا نجد الوهابية أو السلفية الجهادية أو حتى الوطنية في كامل الوطن العربي بداية من الثلاثينات؟ هل قبلت في السعودية طوعاً أن تتخلى عن مشروعها الدعوي السياسي أو فرض عليها فرضاً أن تغير أسلوب عملها أمام المتغيرات المحلية والدولية.

لماذا انتشرت جماعات الإخوان المسلمين في الوطن العربي وسادت في حين اختفت أغلب السلفيات من مسرح الأحداث إن لم يكن مضموناً قاسماً وعنواناً؟

هذه الأسئلة قادت الباحث الساكري  إلى تفحص مكونات الحركات السياسية عامة وحركات الإسلام السياسي خاصة ،فاكتشف حقائق مفيدة جداً أهمها : أولاً : قيام حركة الإخوان المسلمين على العقيدة السلفية. يقول حسن البنا في رسالة المؤتمر الخامس: ” إن الإخوان المسلمين دعوة سلفية لأنهم يدعون إلى العودة بالإسلام إلى معينه الصافي من كتاب الله وسنة رسوله .. وطريقة سنية.. وحقيقة صوفية.. وهيئة سياسية وجماعة رياضية ..”

ثانياً : تشكيل الأفراد أو الجماعات السلفية الوهابية المسالمة أو العنيفة مكوناً من مكونات جماعات الإخوان المسلمين في أكثر من قطر عربي مثل سوريا التي انتمى فيها مروان حديد وأبو مصعب السوري إلى الإخوان المسلمين ثم انشقا عليها وانتميا إلى تنظيم الطليعة المقاتلة لحزب الله” بعد نكسة حزيران 1967 .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى