الأكراد والمسألة الوطنية السورية

 

 

في عَصْر العولمة الليبرالية المتوحشة، تستخدم الولايات المتحدة الأمريكية استراتيجية التفكيك للدول الوطنية العربية، ولاسيما منها في الشرق الأوسط، من خلال إثارة وتغذية الصراعات العرقية أو الإثنية أو القومية بين العرب والأكراد وبين العرب والأتراك وبين العرب والفُرْس.

وكانت السياسة الأمريكية – الصهيونية اعتادت اللعب على النَّعَرَات الطائفية والمذهبية والعشائرية والقبلية والعرقية، ولاتزال، بهدف ابتزاز جميع من تتعامل معهم، حكومات أو أحزاب أو مُنَظَّمات، لِتَخْتَصِمَ كل الأطراف مع بعضها وتُحَقِّقَ الاستراتيجية الأمريكية هدفها المعلن ألا وهو تعميم “الفوضى الخلاقة” وخلق دويلات صغيرة على أساس طائفي ومذهبي وعرقي، لا تَمْلِكُ مُقَوِّمات الحياة، ويُمْكِنُ للولايات المتحدة التَّحَكُّمُ فيها بِسُهُولةٍ، بِذَرِيعة “حمايتِها” من جيرانها الذين يُصْبِحُون الأعْدَاء الرَّئِيسِيِّين، فيما تُصْبِحُ الإمبريالية “حامية الأقَلِّيات وحقوق الإنسان والنساء والأطفال. . . ” لكن خارج حدودها.

هل الفيدرالية هي الحل؟

لم يعرف السوريون من قبل أي شيء عن الفيدرالية، التي أصبحت القوى الكردية تطرحها اليوم، بوصفها العنوان السياسي والتاريخي للمرحلة الجديدة التي دخلت فيها سورية، والمتمثلة في عملية تقسيمها، وفق استراتيجية التفكيك الأمريكية التي بدأتها منذ حرب الخليج الثانية عام 1991، بهدف تمزيق الكيانات العربية القائمة على أرضية التقسيم الكولونيالي الموروث من اتفاقيات سايكس بيكو الأولى في سنة 1916، وإعادة إنتاج اتفاقيات سايكس بيكو جديدة لاستيلاد كيانات تقوم على عصبيات جديدة ما دون الوطنية والقومية، أي عصبيات القبيلة والعشيرة والطائفة والمذهب الديني، والعرق، والتي تخدم في المحصلة النهائية المشروع الصهيوني المرتبط بالمخططات الإمبريالية الأمريكية، والذي يعمل دائما على إثارة التناقضات المذهبية والدينية والعرقية في المجتمعات العربية كلها، حتى لا تتحد، ولا تصبح سوقاً موحدة، وحتى لا تبني زراعتها وصناعاتها، وتعود إلى الوراء.

الفيدرالية المطروحة في سورية، مشروع انفصالي تقسيمي لأنه يطرح في سورية، البلد الذي يعيش أزمة كبيرة تتداخل فيها العوامل الداخلية والإقليمية والدولية، وهو بذلك وصفة انفصال أكثر منها شيء آخر.  فالأكراد السوريون اعتقدوا أنّ “موسم الاستقلال” قد حان، وأن ّ الوقت أصبح يسير في صالح تحقيق الحلم، من خلال التحالف مع الولايات المتحدة الأمريكية، والاعتقاد أن ترتيبات ما بعد الحرب ستسهم في تحقيق الهدف المعلن وهو الفيدرالية، بينما يكون الهدف الحقيقي هو السير في اتجاه إقامة الدولة.  ويطالب الحزب الديمقراطي الكردي الذي أصبح بفضل تحالفه مع الولايات المتحدة الأمريكية يسيطر على ربع مساحة الجمهورية العربية السورية، من المعارضة السورية، الاعتراف منذ الآن بحق الأكراد في سورية بإقامة كيان مستقل ضمن سورية موحدة، ورفض لإعلان سورية كدولة عربية الهوية.

ويبقى الجانب الأهم والأكثر تداولا على الصعيد السياسي وهو “الفيدرالية “، التي تتبناها وتدفع باتجاهها الأطراف الكردية بشكل أخص، وبوسائل حثيثة وخطوات متسارعة الإيقاع في محاولة لتثبيتها كأمر واقع، لكن أين مكمن الخطورة في “الفيدرالية”؟ وما مدى تأثيرها على سورية والمنطقة؟

إن صدمة من هذا النوع تضع الدول المجاورة على المحك. وتدرك القيادات الكردية جيدًّا أن اتفاقية سايكس بيكو والمصالح الدولية والإقليمية التي تتحكم في ميزان الصراع، سوف لن تسمح بتشكيل دولة كردية تهدد النظام الاجتماعي للدول الإقليمية بخطر. فتشكيل كيان كردي في شمال سورية سيقوي عمليات المطالبة في إيران وتركيا. وإقامة منطقة حكم ذاتي في إطار دولة فيدرالية سورية ستصبح مرجعًا يستند إليه. وهذا ما تخشاه في الحقيقة تركيا التي تدعي لنفسها الحق في النظر في تصور الدولة السورية الجديدة.

ما يهم أمريكا هو حماية الكيان الصهيوني

ليس خافيًا على أحد أنّ ما يهم الولايات المتحدة الأمريكية في نطاق بقاء قواتها في الشرق الأوسط، هو السيطرة على منابع النفط بوصفها مصلحة استراتيجية، وحماية أمن الكيان الصهيوني. ففي مقابلة نشرتها صحيفة “الواشنطن بوست” مؤخراً، قال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إن الهدف من عدم سحب القوات الأمريكية من المنطقة هو دعم الكيان الصهيوني، على الرغم من حقيقة أن الشواغل الأمريكية الأخرى، مثل النفط لم تعد سبباً كافياً للبقاء. فقد بلغ حجم المساعدات الأمريكية للكيان الصهيوني ما قيمته 38 مليار دولار خلال العشر سنوات الأخيرة.

وفي هذا السياق، أعلنت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية “هيذر نويرت”: أنه “بموجب شروط مذكرة التفاهم، ستقوم الولايات المتحدة بتمويل “إسرائيل” بقيمة 3. 3 مليارات دولار في التمويل العسكري الأجنبي و500 مليون دولار للبرنامج التعاوني لتطوير الدفاع الصاروخي على مدى السنوات العشر القادمة”. وأضافت نويرت كان الهدف من تنفيذ مذكرة التفاهم هو التعبير عن “الالتزام الدائم والثابت للرئيس (ترامب)، هذه الإدارة والشعب الأمريكي بأمن إسرائيل”.

أما سعي أمريكا نحو تحقيق الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط، فهو الوهم الذي تريد زرعه في عقول الأقليات العرقية الكردية، في ألا يتم التخلي عنها هذه المرة وسط المعمعة. وبعد أن عرفنا معنى الفيدرالية والذي يراد منها، فإنّ قضية الفيدرالية التي يطرحها أكراد سورية ستؤدي في حال قيامها إلى تقسيم سورية وتجزئتها إلى دويلات متعددة: دويلات عرقية وطائفية. فاعتقد الأكراد في سورية، أن “موسم الاستقلال” قد حان، وأن الوقت أصبح يسير في صالح تحقيق الحلم، من خلال الحرب الأمريكية العدوانية على العراق في عام 2003، ومن خلال أيضاً الحرب الإرهابية الكونية التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية ومعها تركيا والدول الخليجية العربية والكيان الصهيوني من أجل إسقاط الدولة الوطنية السورية، وهي الحرب التي دفعت الحزبين الكرديين، الديمقراطي والاتحاد الوطني، في العراق، وحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سورية، إلى الاعتقاد أن ترتيبات ما بعد الحرب ستسهم في تقريبهم من الحلم بعض الخطوات، بحيث سيكون الهدف المعلن الفيدرالية، بينما يكون الهدف الحقيقي هو السير في اتجاه إقامة الدولة. على الرغم من أن الرئيس الراحل جلال الطالباني، كان له استنتاج آخر: “بالتأكيد أن الأكراد يحلمون دائما بكردستان موحدة، لكن هذا يعني عدم أخذ الواقع في الاعتبار، فمن أجل ذلك يجب تغيير العراق وتركيا وإيران في آن واحد. نحن الآن نحلم بعراق ديمقراطي، فلندع هذا الحلم يتحقق أولاً”.

لسنوات قليلة خلت، كان الطموح الكردي – وبما لا يزال – على كل المستويات، وفي الدول كافة التي يتوزعون عليها، (تركيا، وإيران، والعراق، وسورية)، هو تجميع المجزأ، وإقامة دولة كردستان الكبرى. ويتمثل الوهم الكردي في الرهان على الولايات المتحدة الأمريكية التي قسّمت العراق واقعياً، والدعم الصهيوني للأكراد، باعتبارهما سيقدمان لأكراد العراق وسورية ما يطمحون إليه في إقامة دولة كردية مستقلة. وهذا النهج الكردي الانفصالي تعارضه دول الجوار الجغرافي للعراق: إيران، وتركيا، وسورية، إذ أعلنت الدول الثلاث رفضها لإقامة دولة كردية سواء في شمال العراق، أو في شمال سورية، وتغيير الخارطة السكانية والجغرافية لمدينة كركوك، التي يطالب الأكراد بضمها لكردستان العراق، باعتبارها مدينة كردية حسب وجهة نظرهم، في حين أثبتت كل الدراسات التاريخية أن المدينة يقطنها العرب والتركمان وأقلية كردية، ولم تكن في يوم من الأيام مدينة كردية.

أي حلً للأكراد؟

إن الحركة السياسية الكردية على اختلاف مكوناتها، في كل من العراق وسورية التي يشوبها التعصب القومي الشوفيني، اختارت طريق البحث عن المغانم في ظل الاحتلال الأمريكي – البريطاني للعراق سنة 2003، وفي ظل الحرب الأمريكية – الصهيونية و الرجعية العربية، التي تستهدف تفكيك وتقسيم سورية، بدلا ًمن تقديم الأهداف الديمقراطية العامة على ما عداها، وربط همومها الخاصة وشعاراتها لرفع الظلم والاضطهاد اللذين عانا منهما الأكراد من جانب القوميات الأخرى (العربية و الفارسية و التركية) –إذ ليس القمع الديكتاتوري في عهد نظام صدام حسين الذي كان عادلاً في ظلمه بحيث لم تسلم من بطشه أي طائفة من طوائف العراق، استثناء في ذلك – بحل المسألة الديمقراطية في كل من العراق وسورية، أي بتبني صريح لا لبس فيه لبناء الدولة الوطنية الديمقراطية التعددية في القطرين كليهما، أي دولة المواطنة، والمؤسسات والقانون، التي يتساوى فيها كل أبناء الشعب العراقي والشعب السوري على اختلاف انتماءاتهم الطائفية والعرقية والقومية، أمام القانون.

لقد اختارت الحركة السياسية الكردية في كل من العراق وسورية أيضاً طريق التحالف مع الإمبريالية الأمريكية، والكيان الصهيوني كجزء من الوجود الإمبريالي، وقدمت نفسها على أنها الحليف الأكثر إخلاصاً للولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة.. وهاهم الأكراد يتحولون نحو التحالف مع الكيان الصهيوني الذي لا أصدقاء له في المنطقة، وهو سعيد جدًا في الاستجابة لهم. وقد تنكرت الحركة السياسية الكردية تنكراً حادًّا لمصالح الأمة العربية ومصيرها ومستقبلها. وقضية الأمة العربية، هي قضية أمة خاضعة للاستعمار الأمريكي الجديد، والاستعمار الاستيطاني الصهيوني. وهي قضية الوجود العربي ونمائه، وهي قضية الصراع مع الإمبريالية الأمريكية، في عصر يناهض الإمبريالية والصهيونية العالمية، وهي قضية الشعب العربي بجميع طبقاته وفئاته، الذي يناضل من أجل بناء الديمقراطية في عموم الوطن العربي، باعتبار الديمقراطية المدخل الوحيد لحل المسألة القومية العربية عبر إعادة بناء الدولة الوطنية الديمقراطية التعددية في كل بلد عربي وفق مقتضيات العصر الحديث (دولة المؤسسات، واحترام حقوق الإنسان) والمسألة القومية الكردية على حد سواء.

وهي لهذه الأسباب كلها، فإنّ مصير الأمة الكردية، المُشّتتة، والمضطهدة، مرتبط بمصير الأمة العربية. من هنا تكمن أهمية إنشاء هذا التلاحم النضالي المصيري بين الحركة السياسية الكردية على اختلاف مشاربها الفكرية والسياسية، والحركة السياسية العربية على اختلاف أطيافها أيضاً، لخوض معركة بناء الديمقراطية بوصف الديمقراطية هي المدخل الوحيد لحل المسألة القومية لدى الأكراد والعرب. ولأن النضال الديمقراطي يعني في أحد وجوهه، نضالاً من أجل مساواة جميع القوميات والإثنيات في نظر المجتمع والقانون، وتالياً، نضالاً من أجل الحقوق المشروعة للشعب الكردي، حقه في المواطنة، حقوقه السياسية والثقافية، وحقه المتساوي في المشاركة في إدارة السلطة والدولة.

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى