تضارب آراء المؤرخين حول اثر الوجود الإسلامي في تقدم او تأخر إسبانيا

 

«سعيدة هي البلد التي لا تاريخ لها» -هكذا يقولون- لكن إسبانيا بهذا المعيار ليست بلدًا سعيدًا أبدًا، كما يشير الكاتب المصري علي أدهم، لقد عرف اليونان بلاد شبه الجزيرة باسم إيبيريا وعرفها الرومان باسم إسبانيا وعرفها العرب باسم الأندلس، وتعاقبت عليها الشعوب والأمم، فشارك في تكوين تاريخ إسبانيا الإيبيريون والسلتيون والفينيقيون واليونان والقرطاجيون والرومان والوندال والقوط والعرب والبربر.

وهذا التنوع الشديد جعل إسبانيا الحديثة دائمة التنقيب في ماضيها بحثًا عن هويتها، وحتى اليوم تتميز إسبانيا بخصوصيتها عن الدول الأوروبية الأخرى، ما دعا البعض للقول بأن الوجود الإسلامي فيها هو ما تسبب في تأخرها عن قطار التقدم في أوروبا، فهل كانت هذه هي الحقيقة؟

يقول المؤرخ الإسباني كلاوديو سانشث ألبورنوث وأحد كبار أساتذة الحضارة الإسبانية الذي عني بدراسة تاريخ الإسلام في الأندلس: «لولا الإسلام لكانت إسبانيا تسلك نفس الطريق التي سلكتها فرنسا وألمانيا وإنجلترا، بل إن إسبانيا قياسًا على ما فعلته خلال حقب التاريخ -التي نستبعد منها العهد الإسلامي– ربما كانت سبقت هذه الدول في المسيرة وتقدمتها. ولكن ما حدث لم يكن كذلك، فالإسلام قد غزا كل شبه الجزيرة، ولوى مصائر الأرض الإيبيرية ورسم لها دورًا مختلفًا ضمن المأساة الهزلية للتاريخ، دورًا كلّف إسبانيا غاليًا».

مُضيفًا:«الإسلام ومحمد والحاجة إلى القتال اليومي ضد المسلمين كل ذلك، حال بطريقة مأساوية دون مواصلة إسبانيا الأوروبية لنهج التطور الذاتي الذي سلكه أشقاؤنا من الشعوب الغربية». كما يقول فيرنان بيريث دي قزمان عن الوجود الإسلامي في إسبانيا: «تاريخ مبكٍ وحزين لا يستحق أن ننظم له القوافي أو أن تصاغ له الكلمات».

لم يكن الإسلام

في كتابه «بين الرهبان والمسلمين: الصراع الذي تمخّضت عنه إسبانيا»، للمؤرخ الإسباني بيثينتي كانتارينو والباحث المعروف في مجال الدراسات العربية والإسبانية بجامعة تكساس، يقدم كانتارينو جانبًا مهما من تاريخ إسبانيا، وطبقًا لما عرضه الدكتور محمد عبد الحميد عيسى عن هذا الكتاب فهو يرد بعنف على المهاجمين على دور الإسلام في شبه الجزيرة الإيبيرية.

يستعرض كانتارينو الآراء السابقة ويقول -ضمن ما يقول مفندًا إياها- إن المشكلة اعتمادًا على الوثائق المؤكدة تكمن في أن الخصائص الإسبانية يمكن تفسيرها بـ«عملية الاسترداد المسيحي التي واكبت حركة الاسترداد السياسي وفرضت معنى دينيًا للحياة يختلف اختلافًا جذريًا عما هو أوروبي»، لقد تبنّت إسبانيا موقفًا دينيًا خاصًا فبينما كان الدين في باقي أنحاء أوروبا مظهرًا انتقاليًّا وجزئيًّا في العصور الوسطى، تحولت المؤسسة العسكرية لاسترداد شبه الجزيرة الإيبيرية إلى حركة صليبية، وصارت المسيحية قاعدة للمفهوم القومي، وكانت توجهًا رسميًا لروحانية مناهضة للحضارة الإسلامية.

وللأسباب نفسها جعلت إسبانيا المسيحية نفسها معبرًا انتقاليًا للمعارف والعلوم العربية واليهودية نحو أوروبا دون أن تستفيد هي منها. وأخيرًا يقول الكاتب: «لم يكن الإسلام، وإنما المسيحية الأرثوذكسية في العصور الوسطى ذات الطابع الديني الخشن هي ما ولّد الخصائص التي يتصف بها الإسبان، وتفصل إسبانيا عن أوروبا».

لماذا تخلت إسبانيا عن أوروبا؟

يقول الكاتب الفرنسي الشهير تيوفيل جوتييه أن  «حدود أوروبا تنتهي عند جبال البرانس»، وكان لتاريخ إسبانيا طابعه الخاص بسبب ارتباطها بإفريقيا، كان الأوروبيون يعتبرون إسبانيا منطقة نائية ومنعزلة عن جيرانها حتى إن بعضهم كان يقول «إن إفريقيا تبدأ من جبال البرانس»، وفي عام 1868 كان الروائي والدبلوماسي خوان فاليرا يحكي كيف أن هذا الاعتقاد انتشر سريعًا في أوروبا ويقول: «يبدو الجهل بنا لا يُصدق. كل من خرج من إسبانيا يمكن أن يحكي عن الأسئلة التي وُجهت إليه عنها. لقد سألني الأجانب عما إذا كنا نصطاد الأسود في إسبانيا. وشرحوا لي ما هو الشاي على افتراض إنني لم أره أبدًا».

في القرن الثامن عشر عانت إسبانيا من تأثير الأسطورة السوداء؛ إذ هوجمت إسبانيا في أنحاء أوروبا بسبب توسعاتها في الأراضي المكتشفة، والدور الذي أرادت أن تلعبه فيها،  بـ«تدمير» الحضارات الأمريكية والقضاء على الشعوب التي سكنتها، وأقامت محاكم التفتيش وكانت متعصبة ولم تستطع أن تكون في مصاف الدول المثقفة إذ كانت «على استعداد دائم للقيام بالأعمال القمعية العنيفة»، بحسب كتاب «إسبانيا بشكل جلي»، تعددت الأسباب إذن لكن بدا أن أوروبا تهاجم إسبانيا وحدها رغم أن تاريخ أوروبا نفسها مليء بأحداث العنف والقمع واستغلال السلطة.

كانت الأسطورة السوداء منذ ظهورها في القرن السادس عشر تخفت ثم تعود للانتعاش -في القرن السابع عشر ثم في القرن الثامن عشر- لكنها لم تُنس أبدًا، ومثل هذه الحملة الطويلة والقوية لم يكن من الممكن ألا تؤثر على العلاقات الدولية والأنشطة في إسبانيا، وانقسم الإسبان بين من رفضوا تمامًا أي تشويه، ومن صدّق الأسطورة وتأثر سلبيًا بها وأُصيب بـ«الاكتئاب التاريخي».

واصلت إسبانيا تفردها واختلافها عن أوروبا وصار التقدم ببطء أمرًا لصيقًا بالشأن الإسباني، لحقه في النصف الثاني من القرن التاسع عشر مشكلات سياسية خطيرة تتعلق بالوحدة الداخلية والاستقرار، وبينما كانت التنمية الاقتصادية في الدول الأوروبية الأخرى في تسارع، ظلت إسبانيا حتى أوائل القرن العشرين دون نمو ملحوظ. وسرعان ما أوقفت الحرب الأهلية ونظام الملك فرانسيسكو فرانكو كل فرص التنمية.

وهكذا تفاقم سوء الوضع في القرن العشرين، بسبب العزلة التي تسبب فيها نظام فرانكو في الأربعينيات والخمسينيات، بينما كانت أوروبا تتغير بشكل لم يدرِ به الإسبان، كانت السياحة فقط هي من تذكّرهم بأن أوروبا تشهد تطورات متلاحقة.

رؤية حديثة للماضي

في أواخر الستينيات وأوائل سبعينيات القرن الماضي، ومع انتهاء نظام فرانكو، كانت إسبانيا تتحسس طريقًا جديدًا، وانشغل مفكروها بالبحث عن المستقبل، وفي الرسائل المتبادلة بينهما اتفق المؤرخ أميركو كاسترو (1885-1972) والكاتب خوان جويتيسولو (1931-2017) على أن وضع إسبانيا على الطريق الصحيح يقتضي فهم ماضيها التاريخي، فكتب أميركو كاسترو: «كيف لبلد أن يصلح شؤونه، وهو غير مدرك لهويته في الماضي؟» وكتب له خوان جويتيسولو يقول: «من الآن فصاعدًا أرى الشكل الذي سينسجم فيه تأويلي مع تأويلك: إن إسبانيا متعددة وليست واحدة».

وفي كتابه «إسبانيا في سياق تاريخها»، أكد أميركو كاسترو أهمية دراسة دور المسلمين من أجل فهم تاريخ إسبانيا، وكان يرى أن الوجود العربي في إسبانيا لم يكن حادثا عابرًا في تاريخها، فخلال تلك القرون الثمانية انتقلت إلى إسبانيا أساليب المسلمين الفنية والعمرانية، وتشبّعت لغتهم بالمفردات العربية وأساليبها التركيبية والمجازية.

في كتبه ومقالاته كان خوان جويتيسولو يقدّر مساهمة المسلمين في تكوين الثقافة والمزاج الإسبانيين، ويؤكد أن طرد المسلمين من إسبانيا هو مصدر العديد من الإشكالات التي يعاني منها الحاضر، ويؤكد: «الجرح الذي أحدثه قرار الطرد في سنة 1492 لن يلتئم أبدًا»، في إشارة إلى عام سقوط غرناطة آخر مدن المسلمين في الأندلس على يد القشتاليين.

كانت أقدم العناصر المعروفة في تاريخ الشعب الإسباني هم الباسك أو البشكنس، الذي سكنوا جبال البرانس، والإيبيريون الذين يُرجح أنهم نزحوا إلى شبه الجزيرة من أفريقيا وانتشروا في شرق شبه الجزيرة وجنوبها الشرقي (البرتغال)، ووفدت شعوب أخرى على بعضها لأسباب التجارة وأخرى جاءت للفتح والاستعمار.

من بين هؤلاء كان الفينيقيون الذين قدموا إليها للتجارة، والرومان الذي قدموا غزاة، والقوط الذين قدموا إليها ليتخذوها وطنًا، والمسلمون الذين تنوعت عناصرهم بين العرب والبربر ثم الموحدين والمرابطين لاحقًا . وقد تناول إميليو جونثاليث فيرين في كتابه «حين كنا عربًا» هذا الجانب مؤكدًا التنوع الذي شكّل إسبانيا، وكيف أن «الآخرين» الذين يحكي عنهم التاريخ الإسباني الغني هم «نحن» الإسبان.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى