كيف ومتى ولماذا تصدرت إسرائيل تجارة وصناعة الماس عالمياً ؟
يصدّر الكيان الصهيوني حاليا أكثر من خمسين مليار دولار سنويا من الماس، ولكن هذا الأمر يستند إلى تاريخ طويل وليس طفرة، حيث يعود التفوق الصهيوني في هذه الصناعة إلى ثلاثة عناصر، أولها العلاقات المميزة مع نظام بريتوريا العنصري في حينه والسابق أصلا على قيام الكيان الصهيوني، وأيضا تجاهل الكيان للقوانين الدولية الناظمة التي تمنع التجارة القذرة، المرتبطة بصناعة وتصدير السلاح، والسبب الثالث والأهم أنه من المعروف أنه في الحظر المهني على اليهود منذ العصور الوسطى في أوربا تم إعفاء الماس والذهب من هذا الحظر، ما أدى إلى ظهور طبقة يهودية كبيرة متمرسة في هذا المجال، تم استثمارها بشكل مناسب من الحركة الصهيونية بعد المؤتمر الصهيوني الأول في بازل في سويسرا الذي انعقد عام 1897، حيث كانت معضلة التمويل إحدى أهم المعضلات الني نوقشت في المؤتمر والتي طرحها هرتزل بنفسه.
وبينما تسرد القصة العامة، تضامن اليهود وقصة التبرعات اليهودية التي دعمت وأنشأت الكيان الصهيوني والحركة الصهيونية إلا أن هناك وجه آخر للقصة غير متداول، فبتوجيه من الحركة الصهيونية وتحت إشرافها أنشأ إدموند روتشيلد المليارير اليهودي المشهور، [وهو قريب ليونيل والتر روتشيلد الذي حاز على وعد بلفور ]، أول مصنع للماس في مستوطنة بتاح تكفا في فلسطين المحتلة، عام 1937، وتم استقدام خبراء الماس اليهود من أوربا من بلجيكا وهولندا للعمل في هذا المصنع. فيما بعد نشأت مصانع أخرى للماس في فلسطين، أهمها في رامات غان (حيث مقر بورصة الماس حاليا)، تم جمعها في ما يسمى “اتحاد صناعات الماس الإسرائيلية” الذي ازدهرت أعماله بشكل كبير بعد احتلال ألمانيا للعديد من المدن الأوربية التي كانت تعتبر مراكز لتصنيع الماس، وهجرة العاملين في هذا المجال إلى فلسطين المحتلة.
وقد ألقى نيكي اوبنهايمر رئيس مجموعة (دي بيرز واوبنهايمر) لاستخراج وصناعة الماس مزيدا من الضوء في خطاب له عام 2003 في تل أبيب، ضمن فاعليات مؤتمر الماس العالمي ال32 وشرح فيه كيف وافق جده الأكبر إرنست اوبنهايمر على نقل شحنة أول صفقة ضخمة من الألماس الخاص بمساعدة إدموند روتشيلد من لندن إلى مستعمرة ناتانيا سنة 1940.
بعد تأسيس “إسرائيل” اهتمت الدولة بشكل خاص بهذه الصناعة والتجارة، حيث ازدهرت ونمت بشكل كبير، وتطورت تقنياتها ومعداتها، استنادا إلى الخبرة التاريخية، لدى هذه الطبقة من الصنّاع، ما حول “إسرائيل” إلى مركز عالمي، حتى أن موقع رئيس الاتحاد العالمي لبورصات الماس قد تم شغله عدة مرات من قبل “إسرئيلي”.
الاسهام في ميزانية وزارة الحرب
وتشير التقارير الى أن صناعة الماس وتصديره في الكيان الصهيوني تساهم بشكل جوهري في ميزانية وزارة الحرب، إذ بلغت هذه المساهمة أكثر من مليار دولار اعتبارا من 2012، كما بلغت إيرادات هذه التجارة 30% من إجمالي الدخل القومي عام 2011، وكانت تجارة الماس الخام والمصقول في الكيان تجاوزت 9.2% عام 2014 من الصادرات. واعتبارا من 2012 يسعى الكيان الصهيوني إلى استخراج الماس محليا، عبر اختبارات جيولوجية قرب مدينة حيفا من خلال شركة شيفا يميم.
السمة الخاصة في تجارة الماس الصهيونية أن الغالبية العظمى من التجار هم جنرالات سابقون في جيش الاحتلال، وعملاء سابقون للموساد، يعملون في هذا المجال جنبا إلى جنب مع تجارة السلاح كموضوعين مرتبطين ومتكاملين، وتستخدم هذه الأموال لتمويل المستوطنات بشكل كبير، وأبرز مثال على ذلك الملياردير الإسرائيلي ليف ليفيف، وهو يهودي من أصل روسي كان ضابطا في الجيش الصهيوني يعمل في أفريقيا، وهو حاليا أحد أهم القادة في صناعة الألماس والتجارة في العالم وممول كبير للمستوطنات ورئيس صندوق “الأرض الإسرائيلية”، وهي منظمة يهودية يديرها متطرفون يهود يهدفون إلى سرقة الأرض الفلسطينية عن طريق العنف.
كيف تزور “إسرائيل” شهادات المنشأ ؟
تظهر التقارير أن “إسرائيل” تتبع العديد من الأساليب للاحتيال على القانون الدولي، في محاولة يائسة لتبييض سمعة انتاجها من المس المصقول، وهي في هذا تستهدف أمرين متكاملين، الأول إخفاء آثار بلد المنشأ الأصلي التي يمكن الوصول إليها من الماس الخام، عبر صقله، والثاني إعادة إدراج ماسها المصقول بعد إخفاء العلامات الأصلية بصقله، في السوق العالمية ما يجعل من المستحيل تتبعه.
من أبرز الوسائل استخدام “إسرائيل” لنظام دولي، وضع أًصلا لتتبع الماس المشبوه وتأكيد بلد المنشأ، وهو خطة كمبرلي التي أنشئت عام 2000 كخطة عالمية تهدف للتدقيق في شهادات المنشأ الخاصة بالماس في محاولة لتتبع “الماس الممول للصراعات” ومنعه من دخول سوق الماس الخام التزاما بقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 55/56، ولكن تبين لاحقا أن هذه الاتفاقية انحرفت عن أهدافها وأصبحت تستخدم لتبييض الماس القذر وإصدار شهادات له بأنه خال من الصراعات، وقد تبين أن الكيان الصهيوني استخدم هذا الانحراف حتى أقصى حدوده.
وبدون الخوض في صراعات كمبرلي والنقاشات حولها وما يفعله نشطاء حقوق الإنسان لإعادة العملية إلى مسارها، فمن يمكن القول أن عملية كمبرلي لن تكون مجدية إذا لم يتم على الأقل توسيع تعريفها للخام المشبوه بإدراج الخام الممول للعنف وانتهاكات حقوق الإنسان حتى لو كان مصقولا في اللائحة السوداء، وهو ما يجب أن يطال الماس المنتج في “إسرائيل”.
في الحقيقة إن الكيان الصهيوني طالما استخدم خطة عملية كيمبرلي لتغطية ماسه الدموي، فهذه الخطة قد انحرفت عن أهدافها فعليا وأصبحت هي الأداة الرئيسية التي تسهل تجارة الماس الدموي الجارية. فعلى الرغم من أن الخطة تقتصر صلاحياتها عمداً على حظر الماس الخام حيث يقتصر تعريف كمبرلي حاليا بالنسبة للمال القذر على الماس الخام “المكتسب من خلال العنف المنهجي واسع النطاق، والعمل القسري، وأسوأ أشكال عمل الأطفال، أو من خلال انتهاك للقانون الدولي فإنه بموجب هذه الفجوة سيظل الماس الخام الذي يمول الأنظمة المذنبة بارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان قانونيًا تمامًا.
و صائغو المجوهرات يستخدمون هذه الفجوة في التعريف للمطالبة باعتبار ماسهم خال من النزاعات بعد صقله وإعادة تدويره ودمجه في سوق الماس الشرعي بشكل لايمكن بعده تتبعه، وهذا ما يفعله الكيان الصهيوني، الذي عارض دائما توسيع الاتفاقية لتشمل الماس الذي يمول انتهاكات حقوق الإنسان.
للأسف فإن الإصلاحات التي عرضت في اجتماع كمبرلي في بروكسل الأسبوع الفائت لم ترتق إلى مستوى طموحات منظمات حقوق الإنسان والمجتمع المدني، وبقيت هناك فجوة كبيرة تغطي على الماس الاذي يمول جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية من قبل الأنظمة المارقة . كما هو معروف فإن قصور كمبرلي يضع علامات استفهام كبيرة على الهدف الفعلي منها، ولكن هذا القصور لايعفي المستهلكين النهائيين من المسؤولية، فهؤلاء في النهاية هم من تعتمد عليهم هذه الصناعة بأكملها، ومن حقهم معرفة مدى قانونية ما يشترونه من مجوهرات، ومن حسن الحظ أن الوعي العالمي يزداد في هذا المضمار. وإلا فإن صناعة الماس ستواجه أخطارا كبيرة إذا استمرت عملية كيمبرلي بتسهيل التجارة في الماس القذر.
واستتباعا لهذا فقد طالب نشطاء أوربيون بطرد “إسرائيل” من الاتفاقية، وحظر صادراتها من الماس ومن المحتمل أن يتم النظر في هذا الأمر في اجتماع هيئة تنظيم الماس في أنتويرب في الأسبوع القادم.
وبناء عليه قالت التقارير أنه وبسبب تورط صناعة الماس الصهيونية في جرائم حرب وأعمال عنف ضد الفلسطينيين وتمويل الاستيطان في أراض محتلة، فإن رئيس الاتحاد الأوروبي لعملية كيمبرلي، هيلد هاردمان، يسعى إلى تعليق فوري لعضوية “إسرائيل” من عملية كيمبرلي إلى حين إجراء تحقيق كامل ومستقل وشفاف عن تصرفات القوات الصهيونية في غزة بين 30 مارس 2018 و 8 يونيو 2018 والجرائم المرتكبة ضد الفلسطينيين في مظاهرات العودة الكبرى في قطاع غزة.
الطريقة الأخرى التي تستخدم هي تغيير الملكيات ونقل العلامات التجارية، حيث في محاولة لتغطية الآثار تم الكشف عن أن بيني شتاينمتز باع حصته في SDG إلى شقيقه دانيال وتم تغيير اسم الشركة إلى Diacore. ويعتقد بعض المراقبين أن هذا كان بهدف فصل العلامات التجارية الرائدة بما في ذلك الماس تيفاني، دي بيرز، دار سوثبي للمزادات وفورافر ميركر عن ن العلامة التجارية شتاينميتز التي ساءت سمعتها وستظل مرتبطة دائما بالجريمة ومجزرة آل السموني.
ولكن رغم أن علامة تيفاتي فصلت عن شتاينمتز فإنها لا تزال تخفي هوية الشركات التي تشتري منها 25 إلى 35 في المائة من ماسها المصقول. ولذلك، لا يمكن لعملاء تيفاني أن يعرفوا من أين تأتي مجوهراتهم كما ألمح رئيسها التنفيذي الجديد أليساندرو بجليونو في تقرير الاستدامة لعام 2017.
الطريقة الجديدة في مصفوفة الخداع استخدام تقنية تسمى blockchain لتسجيل جميع المعاملات التي تتعلق بالماس رقميا من السوق إلى السوق. ففي حين أن التكنولوجيا لديها القدرة على تزويد المستهلكين بالمعلومات اللازمة لاتخاذ قرار مستنير حول المصدر الأخلاقي للماس، فإن المعلومات التفصيلية ستكون متاحة فقط “للمستخدمين المصرح لهم”، حيث أن “ضوابط الخصوصية” ستمنع المستهلكين من الوصول إلى “البيانات الحساسة”.
في هذه الظروف فمن العادل مطالبة منظمات حقوق الإنسان وحركة المقاطة التركيز أكثر بشكل شخصي على زبائن الماس الصهيوني، إذ أنه وعلى عكس الإلكترونيات والمستحضرات الصيدلانية والمواد الكيماوية والسلع الأخرى التي تصدرها “إسرائيل”، يعتبر الماس عملية شراء شخصية وشاملة للغاية للمستهلكين الأفراد. ومعظم الناس الذين يشترون الماس لا يعرفون سوى القليل عن محنة الشعب الفلسطيني، لكن عندما يوضعون على محك آلاف الدولارات مقابل قطع من الكربون المصقول فإن من المناسب اعتبار أنهم سيأبهون للأمر إذا تبينت لهم الحقائق.
ثمة تجارب مفيدة في هذا السياق في أفريقيا حيث أن عقودا من الدعاية حول الفظائع المرتبطة بتجارة الماس في أجزاء من أفريقيا قد دفعت الجمهور إلى رفض الماس الملطخ بالدماء لأسباب أخلاقية وأسباب أخرى تتعلق بالضغوط والأزمات و الجواهريين يعرفون ذلك جيداً ولا يستطيعون تحمل تلطيخ صورة علامتهم التجارية وسمعتهم التي شوهت من خلال ارتباطهم بدماء وفظائع جرائم الحرب الصهيونية في فلسطين أو غيرها من الأنظمة المارقة في أفريقيا .
الاختراق الصهيوني للرقابة العربية القاصرة
وعلى الرغم من أن الكيان الصهيوني لايملك حتى الآن مناجم ماس خاصة به إلا أنه يعتبر مركزا تجاريا مهماً تبلغ قيمته الإجمالية 19.4 مليار دولار، وتمثل الماسات الدموية القادمة من إسرائيل حوالي 30 في المائة من حصة السوق العالمية من حيث القيمة.
وما زال الكيان الصهيوني قادرا حتى الآن على التهرب من المعايير الدولية بسبب قدرته على الاحتيال من جهة وقصور هذه المعايير وانحرافها من جهة أخرى، يبقى القول أن بلدانا عربية تعتبر من مستهلكي الماس الصهيوني مثل لبنان، وكذلك مستهلكين للعلامات المتورطة في جرائم حرب كما تونس ولبنان و مصر والإمارات وغيرها، وما زالت الرقابة العربية قاصرة أو ممتنعة عن ملاحقة وتطهير الأسواق العربية من هذا المنتج الدموي، ما يعتبر مساهمة مباشرة في جرائم الحرب الصهيونية ضد الشعب العربي الفلسطيني، وفي سفك دماء عشرات آلاف الأفارقة سنويا.