القصيدة الخالية قوس قزح يطوق سماء النص الشعري

بقلم : د. نضير الخزرجي

من الدروس الأولى التي تعلمتها في مقتبل العمر وأنا أضع قدمي على أول السلَّم في عالم الكتابة، هو كيفية تدوير الكلمة الواحدة إلى كلمات متعددة الألفاظ متحدة المعنى أو قريبة منها، لأن القدرة على التدوير تعطي للكاتب مهارة تدوير الجملة الواحدة وتقليب كلماتها بسلاسة، أو ما يعبر عنها بالإجترار الأدبي تمثلا بالجمل الذي يأكل الطعام ويخزنه ثم يجتره لوقت حاجته، فعندما نقول: جاء الرجل، فنجتر الكلمة أو العبارة فنقول: قدم المعلم أو أتى الطالب أو حلّ الضيف أو أناخ البعير، وأمثال ذلك، فالكلمة الواحدة اختلفت في اللفظ ولكنها اجتمعت في المعنى وهو الحلول في المكان والقدوم والإتيان والإناخة وهكذا، وكنا نكثر من اكتشاف الكلمات المترادفة واجترار الجمل المتشابهة.

ولأن النفس ولعت بعملية المترادفات والإجترارات كنا نضع الأوراق في جيوبنا ونقوي الذاكرة عليها وبها نحسِّن من أسلوب الكتاب وتزويقها بالعبارات الأدبية المجترة، وكان معجم اللغة قائدنا في هذه المنافسة الأدبية يهدينا الى الجملة الأدبية تلو الأخرى، والسعادة تغمرنا عندما نجتر للجملة الواحدة عشر جمل أو أكثر، وكنا ندرك أن الإستغراق في هذا النوع من الممارسة الكتابية اليومية تصقل القلم والذهن فضلا عن الذاكرة، وكنا نكثر من حل الكلمات المتقاطعة في الصحف والمجلات لأنها تخدم الذهن وتشعل في الإنسان روح المنافسة مع الذات لاستحضار الكلمات ومترادفاتها وصنوها، وهذه الملكة لازمتني حتى يومك هذا، ويستحضرها الذهن عند الشروع بكتابة مقالة وما شابه.

ولا يخفى على ذي بصيرة أنَّ اللغة العربية وغناها تساعد الكاتب بشكل كبير وفاعل على خلق المترادفات في الكلمات واجترار العبارات والجمل المتشابهة أو القريبة في المعنى والمختلفة في التشاكل والألفاظ، أو ما يعرف بالمشتركات اللفظية، وهذا يظهر جليا في قصائد الشعراء التي تنتهي قوافيها بكلمات مشتركة الألفاظ مختلفة المعاني، أو ما يعرف في أحد أوجهه بالجناس، على ان المشترك اللفظي في بعض الأحيان أو أكثره أقوى من أدب الجناس نفسه، فمن الجناس الجَنّة بفتح أوله والجُنّة بضم أوله والجِنّة بكسر أوله، فالمعاني الثلاثة مختلفة بفعل الحركة وإن اتحد اللفظ، ولكن في المشترك اللفظي الأغلب أن يتحد اللفظ مع الحركة والتشكيل وتبقى للكلمة أكثر من معنى بل عشرات المعاني وقد تفوق الى أكثر من مائة معنى بل المئات كما في كلمة (الجمل)، وهذا ما يعطي الأديب بعامة والشاعر بخاصة مرونة ما بعدها مرونة في تطويع القافية ونظم القصيدة على منوال واحد مختلف المعنى بين بيت وآخر، وقد يحتاج القارئ وحتى اللبيب منهم إلى استخدام معاجم اللغة للوقوف على معنى البيت بخاصة إذا خلا من دالة أو علامة يهديه الى المعنى.

وحتى لا نستغرق في شرح المعميات والمبهمات، فإن الشاعر الجزائري الدكتور عبد العزيز مختار شبِّين المقيم في العاصمة البريطانية لندن، سهّل علينا الدرب بكتابه الصادر حديثا (2018م) عن بيت العلم للنابهين في بيروت تحت عنوان: (الخال وأضرابه في قوافي الشعراء على ضوء دائرة المعارف الحسينية للكرباسي) في 359 صفحة من القطع الوزيري.

قواسم لفظية ومجازات

إنّ القول بالمترادف اللفظي أو المشترك اللفظي، هو مذهب كثير من أصحاب اللغة والأدب، لكن المحقق آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي كما يؤكد الدكتور عبد العزيز شبين في مؤلفه الجديد، لا يرى ما يرون، فما يراه البعض مترادفا إنما هو من المجاز اللفظي المتحد مبنى والمنفصل معنى، وقد: (توصَّلَ من خلال دراسته لجذور اللغة العربيّة أن المُفردَةَ فيها لَمْ توضع إلاَّ لمعنًى واحد، ولا سبيل إلى القول بأنَّها وُضعتْ لأكثر من مغزًى سواءً بدأ هذا الوضع من عمل الإنسان، أو أنه بدأ منْ أعلام الأشياء، فعلى الأول –كما يرى– يكون الفعلُ مصدرًا للاشتقاق من حيثُ الوضْعُ، لا من حيثُ الصَّرْفُ، وشاهدُه في ذلك قوله: يقومُ المرءُ بفتح الباب فيُشتقُّ منهُ المفتاح، الذي هو آلةُ الفتح، وقدْ يكونُ الإسمُ الدَّالُ على الشَّيء مصدر الإشتقاق اللُّغوي في الوضع دون الصَّرفِ، كالأسد يُشتقُّ منه الفعلُ تأسَّدَ، ويراه راجعاً إلى طبيعة الوضع وظروفه، وهو في نظره يخضَعُ لحاجة الإنسان إلى تحديد ما يتعامل معه من الرُّموزِ، التي اصطُلح عليها بالأسماء والأفعال والحروف).

وللوقوف أكثر على التمايز القائم بين المشترك اللفظي والمجاز اللفظي، وعلى رأي المحقق الكرباسي من خلال استعراض عدد من مؤلفاته في اللغة والأدب والعروض، وبيان نماذج من القصائد في هذا الحقل، فإن الدكتور شبين استهل كتابه بمقدمة أدبية جميلة ليسري بنا في وهدأة الأدب إلى “تمهيد” أبان فيه “معنى الخال” موضوع الكتاب، واستوضح من بصيص ضوئها “تعريف القافية” ومن صخرتها عرج على “تعريف الشعر” ليدخل منه إلى فضاء الإشتراك اللفظي في القصيدة العربية ومثالها “كلمة الخال في الشعر الجاهلي”، وبعدها يسبح في فضاءات الأدب ليكشف لنا في سماء الفصل الأول عن “نظرة العلامة الكرباسي إلى الخاليات”، و”كلمة الخال في قوافي الشعراء”، وينتقل في براق أدبه الى الفصل الثاني مظهرا لنا “أضراب الخال في قوافي الشعراء”، والأضراب هو جمع الضرب وهو المشابه من النوع أو الصنف أو الهيئة، ومن حيث بدأ المؤلف عروجه يهبط إلى “الخاتمة”.

كانت بداية إنطلاق فكرة هذا الكتاب هو صدور الجزء الأول من ديوان القرن الثاني عشر سنة 2009م لمؤلفه الموسوعي المحقق الشيخ محمد صادق الكرباسي، وهو أحد أجزاء دائرة المعارف الحسينية التي تربو على التسعمائة مجلد صدر منها حتى يومنا هذا 125 مجلدا، وفيه مهّد لهذا الديوان بالحديث عن الإبداع الأدبي شعراء هذا القرن الذين نظموا في النهضة الحسينية وفي غيرها، ومن ذلك القصيدة الخالية وأمثالها وأضرابها وأشباهها، فعرّج على الأديب والمحق الشيخ سليمان بن عبد الله الماحوزي البحراني المتوفى سنة 1121هـ الذي أبدع في قصيدته الخالية وعليه سار الشعراء الناطقون باللغة العربية من كل حدب وصوب، حيث يقول من بحر الطويل:

علامَ سقى خدَّيكَ من جفنك الخالُ           أمِنْ ربواتِ الدَّوِّ لاحَ لك الخالُ

وأسهرَ منك الطرفَ إيماضُ مَبْسَمٍ           مِنَ الدَّوْرَةِ النُّورِيِّ أمْ أَوْمَضَ الخالُ

ونشر الخزامى نَبَّهَ الوَجْدَ منك أم           مِنَ الشُّكَّرِي فاحَ البَنَفْسَجُ والخالُ

ويستمر الشاعر في قصيدته على النسق ذاته، وحيث يتحد اللفظ شكلا وتشكيلا مع اختلاف في المعنى، وهذا ما يبحثه الشاعر الجزائري في مؤلفه، منطلقا من هذا الجزء ومن المؤلفات الأخرى للأديب  الكرباسي من قبيل قصائده الخالية التي انتظمت في ديوان “الإيناس بلآلي الجناس” الصادر عام 2014م بتقديم وتعليق الشاعر شبِّين نفسه، والذي ضمَّ خمسين قصيدة على نمط الخاليات، استهدى بها المؤلف الذي يرى في المقدمة أن: (حديث الأدب فنون وألوان، منبعه من الإلهام رافدان: العاطفة والفكرة، ولهذين الرافدين مصادرُ تجلعهما ثرَّين على الدوام لا ينضبان، الحب والأخلاق والتأمّل، وفي كل مصدر من هذه المصادر تنبض الحياة الإنسانية، فتصفو أمامها المناهل، ويسمو في رؤاها الخيال مجنَّحا نحو معارج الكمال).

وحيث يظن القارئ أن القصيدة الخالية نظمها شاعرها في وصف الخال أو الشامة أو الوشمة في خد الحبيب أو الحبيبة فحسب، ولكنها في حقيقة الأمر نمط آخر من القصائد ذات أغراض مختلفة وإن اشتركت في المطالع الغزلية والحبِّية والتشبيبية، وبتعبير المؤلف: (لسنا من المؤمنين بنظرية الأدب للأدب بمعزل عن محيط الأديب، وما تمتزج فيه من مؤثرات نفسية ومذهبية واجتماعية وسياسية وفلسفية وتاريخية وحضارية، فأي عمل في مجال الآداب والفنون هو تراكم معلومات ومعارف)، ولهذا استخدم الأديب الكرباسي اللفظة الواحدة في أوجه كثيرة صاغ منها قصائده الخالية، وبتعبير المؤلّف: (اللغة هي وعاء يتفاعل فيه عاملا الشعور والقراءة، ممتزجين لتظهر اللذة في صورة مُحدثة، من نص أدبي شعرًا كان أم نثرًا).

من روائع الخال

لا يخفى أن أقرب معنى للخال هو أخو الأم، والخال هو مضرب مثل لهذا النمط من القصائد، على أن الخال هو لفظ واحد ينحدر من عليائه أكثر من مائة معنى، ومن مصاديقه “الشامة” كما في قول أمير المقاومة الجزائرية الشريف عبد القادر بن محيي الدين الجزائري الحسني المتوفى سنة 1300هـ من بحر الطويل:

خليليّ وافت منكم ذات خلخال              تتيه على شمس الظهيرة بالخال

تميس فتزري بالغصون تمايلا              تروح وتغدو في برود من الخال

لها منطق حلو به سحر بابل              رخيم الحواشي وهو امضى من الخال

ويمضي الأمير الجزائري في قصيدته الخالية، فالخال الأولى: الشامة، والثانية: الخباء، والثالثة: السيف.

أو قصيدة الشيخ الكرباسي من بحر مسدس الرجز المقبوض، منها:

يا صاحبي صف لي معاني الخالِ              أنت يا صاحباً للخال

زدني بيانًا أستزد منه فضــ                   ــلًا روحي موئلي يا خالي

منك الوفا أحلى من القربى حتى          لو أتى من خالتي أو خالي

فالخال الأولى في صدر البيت: مفردة الخال، والثانية في العجز: الشامة، والثالثة: الصاحب، والرابعة: أخو الأم.

أو قول الشاعر اليمني الحسن بن أحمد عاكش المتوفى سنة 1289هـ، من قصيدة من بحر الطويل:

نسم الصبا هبت وقد لمع الخالُ            فهزت غصون الروض إذ جادها الخالُ

وغنى هزار الروض شجوًا وصفقت          أكف زهور الورد إذ رقص الخالُ

فهاج لمفتون الصبابة وجدهُ                     بساكن نجدٍ حيث حلَّ به الخالُ

فالخال الأولى في الصدر: البرق، والثانية: الغيث، والثالثة: الخاطر، والرابعة: الفارس

وهكذا يقدم الدكتور شبّين في الفصل الأول نماذج من الشعراء في “كلمة الخال في قوافي الشعراء”، وهي كثيرة غزيرة الألفاظ راقية المعاني تفتح للمتلقي فضلا عن الشاعر آفاقا في واسعة من التعاطي مع جناس الخال ومجازاته.

من أضراب الخال

والقصيدة الخالية في حقيقة الأمر النموذج الأبرز لهذا النمط من القصائد، وإلا فإن الشعراء تفننوا في استخدامات الكلمة ذات المعاني الكثيرة فوظفوها في قصائدهم فجاءت الأبيات متناسقة وجميلة يحتفظ كل بيت منها بساكن جديد يختلف عن الذي قبله وعن الذي بعده وإن تشاكلت وحدة الأبيات في ظاهر قوافيها، وهذا ما يقودنا إليه الدكتور شبين في الفصل الثاني (أضراب الخال في قوافي الشعراء) حيث يفيدنا قائلا: (أَضْرابُ الخالِ مِنَ المُفرداتِ الكثيرةِ في قوافي الشِّعْرِ، وهي من الجناس الوافي أو التام أو مَا يُسمّى بالمُشترك اللّفظي، وقَدْ حاولتُ انتخابَ بعضِ القصائد والمقطوعات ذات القوافي المُتّحدة لفظاً، والمختلفةِ معْنًى، وللبلاغيين فيه وقفاتٌ شرْحاً وبَحْثاً، إذ جعَلُوه نوعاً من أنواعِ الجناسِ الذي استوفى كلَّ شروطِ الشَّبَهِ والمطابقة).

ومن المفردات اللغوية التي وفرت للشاعر حرية نسج أبياته على هذا المنوال، هي العين التي لها أكثر من سبعين معنى، ومن ذلك الأبيات التالية من قصيدة الشاعر اللبناني عمر بن محمد ديب الأنسي المتوفى سنة 1876م من بحر الطويل الأول:

هواك دَعَا عَيْنِي تَفيضُ عُيُونُهَا            وَدَاعي الهَوَى يَا هِنْدُ لَيْسَ سِوَى العَيْنِ

وَيَا رَبَّةَ الخَالِ الَّتي شَابَ عَارِضِي         بِهَا وَغَرَامي السَّالِفُ العَهْدِ كَالعَيْنِ

صِلِي وَاذْكُرِي العَهْدَ الَّذِي كَانَ بَيْنَنَا        بِجِلَّقَ لاَ في بَعْلَبَكٍّ وَلاَ  العَيْنِ

فالعين الأولى: الينابيع، والثانية: الحاضر، والثالثة: قرية قرب مدينة مرعش جنوب تركيا، ولما كانت القصيدة من خمسين بيتًا، فإن الشاعر قدّم للعين خمسين معنى، يعطي للقصيدة جمالية بالغة.

ومن (رموز الحب) هي عنوان قصيدة للشاعر المؤلف من بحر الطويل الأول يخبرنا ما تخفيه العين فينشد:

خَبِرْتُ رُمُوزَ الحُبِّ مِنْ رمْشَةِ العَيْنِ       هِيَ المُقْلَةُ النَّعْسَى لِقَلْبي كَمَا العَيْنِ

قَرَأْتُ بِسِفْرِ العَاشِقينَ قَصيدَةً                 تَخَيَّرْتُهَا حَسْناءَ مِنْ دُرَّةِ العَيْنِ

نَوَاظِرُنَا تَاقَتْ إِلَى رَوْضةِ الهَوَى             وَأنْفُسُنا هَيْمَى إلى مَوْرِدِ العَيْنِ

فعين صدر البيت الأول هي العين الباصرة، وعين العجز: الجاسوس، والثالثة: الذهب، والرابعة: النبع.

هذا ولدين العجوز ميدانه في أضراب الخال كما لبرد العجوز حضوره، وهذا شاعر يخاطب نفسه، من بحر الوافر الأول:

ألا يا نفسُ وَيْحكِ لا تَجوزي            على بيتِ المُخدّرةِ العَجوزِ

وَجُوزي أنْ تَجُوزي في مَجازٍ            يَجوزُ جَوازُهُ عندَ العَجُوزِ

دَعي عَنْكِ المِراءَ ففيهِ كُفْرٌ             وَدِينِكِ فَالزَمِي دِينَ العَجُوزِ

فالشاعر هنا يدعو النفس إلى الإمتناع عن حضور مجالس الخمارين وعدم تناول العجوز (الخمر)، لأن الجواز نحو المعالي سيكون عند العجوز (القيامة)، ويطالبها بعدم المراء وتتبع دين العجوز (المرأة المسنة) لأنه دين قائم على الفطرة السليمة والإيمان المباشر من غير طلب دليل وبرهان والتسليم لله في أوامره ونواهيه.

وهذا الشيخ يوسف بن عمر الحلبي المتوفى سنة 1024هـ، يخاطب البرد القارص، من بحر الوافر:

عَذُولِي لا تَلُمْنِي في هَواهُ         فلستُ بسامِعٍ نَبْحَ العَجُوزِ

تَرُومُ سُلُوَّهُ منِّي بجهْدٍ              سُلُوِّي دُونَهُ شَيْبُ العَجُوزِ

كلامُكَ باردٌ مِنْ غَيرِ مَعْنىً             يُحَاكِي بَرْدَ أَيّام العَجُوزِ

وحيث يغتر المرء بذهاب فصل الشتاء دون أن يتعظ من برد قادم أخبرت به عجوز وحذّرت منه قومها ولم يلتفتوا لتحذيرها فأصاب غنمهم الموت، على أن الهائم في حب محبوبه في البيت الأول لم يسمع نبح العجوز (الكلب)، فهو يطلب رغد العيش وأنى له ذلك وشيب العجوز (الغراب) حاضر في سمائه يُسمعه تراتيل الأسى. فالشاعر وظَّف “العجوز” في ستين بيتًا ومعنى مختلفا مع لفظ واحد.

وهذا الفقيه السيد محسن بن عبد الكريم الأمين العاملي المتوفى سنة 1371هـ يحذرنا، من بحر الوافر الأول:

أتعملُ طولَ دهركَ للعجوزِ       ولا تخشى غداً حرَّ العجوزِ

ثم يحيلنا إلى برد العجوز ويدعونا إلى الإتعاظ، قائلا:

فَلاَ تَغْتَرَّ وَيْحَكَ بِاللَّيَالي           سترميك الليالي بالعجوزِ

وأيَّامُ الرَّبيعِ رَأَيْتَ فِيهَا           فَكَيْفَ رَأَيتَ أَيَّامَ العَجوزِ

فالعجوز في صدر المطلع هي (الدنيا) وفي عجزه (النار)، وفي الثالثة تحذير من (الداهية)، وفي الرابعة (برد الشتاء) وقسوة برد العجوز وأيامها. والقصيدة المتكونة من 101 بيت ومثلها من المعاني المختلفة تظهر عظمة الشاعر وبراعته في تقليب الكلمة الواحدة بين يدى المعاني المختلفة، وحسب وصف المؤلف: (فطريقة توظيف المفردات هي التي تحدد للنص أبعاده الفنية، ومعالمه الفكرية، ويتضح أسلوب الشاعر من ازدواجية العلاقة التكاملية بين اللغة والذات الشاعرة).

وهكذا يواصل الدكتور عبد العزيز شبّين في هذا الفصل مخبرًا قراءه عن مماثلات الخال مع ضرب الأمثال لها من نظم الأديب الكرباسي أو نظمه أو نظم شعراء آخرين، وعليه نقرأ في هذا الفصل قصائد بديعة تنتهي قوافيها بالجناسات التالية: “النشء”، “غربه”، “صليبا”، “سكبا”، “صبابه”، “الغرب”، “الحاجب”، “البيت”، “الجث”، “همج”، “لمحا”، “ملاحا”، “وضح”، “الذيخ”، “واجد”، “الندى”، “فراقد”، “أعبد”، “وقودها”، “يدُ”، “العهدُ”، “النجدُ”، “وردُ”، “وعودي”، “العمود”، “خنذيذا”، “قدرة”، “وتيرة”، “سرُّ”، “نشرُ”، “الغمر”، “مدار”، “عواري”، “العصفور”، “المرمر”، “العجوز”، “جلس”، “حلس”، “العرش”، “البوص”، “غرض”، “قضى”، “العرض”، “العروض”، “وخطا”، “السمط”، “الجواظ”، الرِّيع”، “الوَتغ”، “صفا”، “عرف”، “الحق”، “الخيفق”، “الروق”، “طبق”، “العتك”، “أهلا”، “الهوجل”، “الهلال”، “العلجم”، “السَّنَهْ”، “ركن”، “جاني”، “الدِّين”، “العين”، “الوجه”، “سهوه”، “الوحي”، و”الكي”.

وينتهي بنا المؤلف بخاتمة يأخذنا معًا في فضاء القصيدة وتطورها وتعدد أغراضها، وتحولها في فترات زمنية إلى: (صنعة لفظية بأشكالها وفنونها، لتصبح همَّ الشاعر وانشغاله الدائمين، بعد بحثه عن لقمة العيش وتأمين النفس)، على أن الخاليات وأضرابها هي من ضروب الشعر التي ساهمت في تحريك الركود الشعري كما يفيدنا الأديب الكرباسي، ومن مظاهرها الإيجابية بنظر الدكتور شبّين أن: (الخاليات أظهرت تلك النهضة الشعرية والأدبية في الشرق العربي عمومًا وفي العراق خصوصا، ومن قيمتها رغَّبت الأمراء في النظم على منوالها ورأينا هذا في شخصية الأمير عبد القادر الجزائري، الذي أعادت إليه روح الشعر ورتابته)، ولا غرو أن لطافة قصيدة الخال وشفافية أضرابه حاكية بذاتها عن هذه النهضة الشعرية.

الرأي الآخر للدراسات- لندن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى