سيادة القانون منتهى الحرية والفلتان مبلغ العبودية

بقلم : د. نضير الخزرجي*

على عكس ما هو جارٍ في معظم دول الشرق ومنها الدول العربية، فإن التوظيف في الغرب قائم على المنافسة، فالشرقي يضع رجله على أول سلم الجامعة ويذهب تفكيره الى الوظيفة، وقد عُجنت في ذهنه متلازمة الشهادة والوظيفة، فإن اجتاز الجامعة ونال شهادتها يكون قد ضمن الوظيفة، وإن عجزت الحكومة عن استيعابه ندب حظه ونال من الحكومة ما تنال منها المعارضة السياسية وأسوأ.

وبالطبع فهو معذور في ذلك لأن ثقافة الشرق نشأت على الملازمة وتربى الطالب عليها، والدفع الأسري للطالب وهو في مراحله الأولى يسوقه بشكل عام باتجاه الحصول على وظيفة وتزويقها في مخيلته حتى تترسخ في ذهنه وتكون له دافعا على المواصلة، بلحاظ أن الوظيفة لها دورها الكبير في تذليل الصعوبات وهو في أول الطريق لتأسيس حياته الأسرية الخاصة.

لكن هذا الوضع يختلف في الغرب، لأن الطالب ومن غير الحاجة الى الدعم الأسري يسعى لنيل أفضل الدرجات العلمية وأرقى الشهادات الجامعية، لإدراكه بعدم ملازمة الشهادة للوظيفة، فتخرّجه لا يعني ضمان الوظيفة، فضلا عن نظام الوظيفة في الغرب يختلف بشكل كبير عما هو حاصل في الشرق، فالخرّيج في الثاني هو جزء من النظام الوظيفي الحكومي، وفي الغرب تستقطب دوائر الدولة الجزء اليسير من المتخرجين والبقية تستوعبهم الشركات الأهلية والقطاع الخاص، كما أن صعوبة الحياة في الغرب الرأسمالي يجعل العمل محط أنظار المواطن صاحب الشهادة أو من غيرها، فالحياة في الغرب درجات تحددها في كثير من الاحيان نوع العمل لا نوع الشهادة، لأن المكسب المادي في بعض الأعمال لصاحب الشهادة الدنيا أكثر وأكبر من صاحب الشهادة الجامعية والعليا.

ولكن لماذا تنجح الشركات في الغرب في استقطاب أفضل الطاقات، ولماذا يحاول المقدم على العمل الظفر بالوظيفة ما امكنه الى ذلك سبيلا؟

من خلال التجربة ومعاينة للواقع على ما عليه الشرق والغرب، نجد ان عامل التجانس بين فريق العمل وطاعة الطاقم لمدير العمل أو الموقع في مقدمة أسباب النجاح، ولأنَّ الأمر على غاية من الأهمية، فإن واحدة من عوامل المنافسة بين المتقدمين على الوظيفة الشاغرة وقبول هذا أو رفض ذلك هو معرفة بيان حجم قبولهم العمل ضمن فريق واحد متآلف يأخذ بإرشادات مدير العمل، حيث يخضع هذا السؤال لمقصلة خبير عمل مختص، كما أن التجربة العملية هي المعيار، فإذا فشل المتقدم للعمل أو العامل بعد المقابلة من اثبات قدرته على التجانس وطاعة المدير، فسيفقد عمله، لأن الوظيفة في هذه الشركات ليس زواجا كاثوليكيا كما في الشرق، وطلبات العمل جاهزة للحصول على البديل أو البدائل.

إذن عامل الإطاعة في مقدمة سلم النجاح والتطور، وهذه المسألة الحساسة يتابعها آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي بشامته الفقهية في كراس “شريعة الإطاعة” الصادر حديثا (2018م) عن بيت العلم للنابهين في 64 صفحة متضمنا (116) مسألة شرعية و(35) تعليقة للفقيه آية الله الشيخ حسن رضا الغديري، مع مقدمة توضيحية للناشر وأخرى للمعلق وتمهيد مانع جامع للفقيه الكرباسي.

النفس محور الإطاعة

ليس من السهولة على الجنس البشري العمل ضمن فريق متجانس واتباع شخص بعينه، مع أن العقل البشري يحكم بقوة العمل المتجانس وأهمية إطاعة الإرشادات والعمل بالأوامر الدافعة أو الناهية، وهذا الواقع بمسيس الحاجة إلى ترويض النفس وتطويعها وهو أعظم الجهاد، وفي الحديث المروي عن الإمام علي(ع): “إن رسول اللّه (ص) بعث سرية، فلما رجعوا قال: مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر، وبقي عليهم الجهاد الأكبر، قيل: يا رسول اللّه، وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد النفس، ثم قال: أفضل الجهاد، من جاهد نفسه التي بين جنبيه”.

إذن جهاد النفس هو الجهاد الأكبر، ومن استحقاقاته التواضع لما أُمر به الشخص عملا أو نهيا، والتاريخ مليء بالتجارب المرة، فحينما عصى المسلمون أمر النبي(ص) في معركة أحد وأعطوا السياق لأنفسهم دون نبيهم ونزلوا من الجبل طمعًا في الغنائم نزل بهم الموت والهزيمة الموضعية، وعندما تنكب المسلمون عن طاعة إمامهم في صفين حكمهم الطلقاء، وعندما تخلى المجتمع نفسه عن بيعته لسيد شباب أهل الجنّة الإمام الحسين(ع) وقعت مأساة كربلاء وحكمهم طلاب الحكم وأذاقوهم حر النار، ولا زال موقد النار مشتعلا إلى يومنا هذا.

وعليه فالإطاعة مفتاح النجاح، وهي حسب ما أورده الكرباسي في التمهيد: (الإنقياد، وعند الفقهاء هي تطبيق أوامر الله والعمل بمقتضاها، وفي نواهيه بترك ما طلب من عباده تركه .. وإطاعة الله سبحانه وتعالى واجب عقلي وشرعي).

وطاعة الله تتحقق على وجه الأرض بطاعة من أمر الله بطاعته من الأنبياء والأوصياء بوصفهم خلفاء الله في الأرض، قال تعالى: (من يُطع الرسول فقد اطاع الله) سورة النساء: 80، وبتعبير الفقيه الكرباسي: (هناك تلازم بين الإطاعتين لأنهما إطاعة واحدة، فإن إطاعة الرسول(ص) هي إطاعة لله جلّ وعلا، وإن إطاعة الله لا تتم إلا بإطاعة الرسول(ص)، فلا مجال للتفكيك بين الإطاعتين)، وليس التلازم مقتصرا على النبوة، فكل من أمر الشرع بإطاعته تدخل إطاعته في طاعة الله، وكما يقول الكرباسي: (فعندما نقول بوجوب إطاعة القاضي او المجتهد المقلَّد أو حاكم الشرع أو الوالدين أو الدولة أو غير ذلك، فإن جميع الإطاعات تعود إلى طاعة الله، لأن هذه الإطاعات لم تكن لها شرعية إلا بعدما أمر الله سبحانه وتعالى بها عن طريق الرسل والأنبياء).

والإنسان شاء أم أبى خاض للإطاعة والإرادة التكوينية، فهو لا يستطيع على سبيل المثال ان يعيش في الماء دون جهاز تنفس لان الله خلقه وأودع فيه جهازا تنفسيا ينجسم مع غاز الاوكسجين، وفي المقابل لا يستطيع السمك أن يعيش في الهواء الطلق لان الله أودع فيه جهازا تنفسيا ينسجم مع الاوكسجين المذاب، فليس للإنسان خيار في مخالفة الإرادة التكوينية، فلا يستطيع أن يدرأ عنه المرض أو الشيخوخة او الموت، ولكن له الخيار في الإرادة التشريعية، فله أن يطيع الله في أوامره ونواهيه وله أن يخالف، لكن النفس وما تأمره، إن خضع للنفس الامارة بالسوء خالف الإطاعة وإن جاهدها أطاع وظفر بنعيم الدارين، ومن الإطاعة الشرعية خيار أكل اللحم المذكى من غير المذكى او خيار تناول لحم الغنم أو الخنزير، فللإنسان خيار الإطاعة من عدمها فيأكل لحم الخنزير مخالفا فيؤثم أو يمتنع مطيعا فيؤجر.

والإطاعة كما يعبر عنها الفقيه الكرباسي هي: (عبادة، والعبادة تعني الإطاعة .. والعبودية لله تكمن في الإطاعة)، والعبودية هنا الحرية بل مبلغ الحرية ومنتهاها، وبتعبير المتصوف ابن خضرويه البلخي المتوفى سنة 240 للهجرة: (في الحرية تمام العبودية، وفي تحقيق العبودية تمام الحرية).

ونية العمل كما يشير الفقيه الكرباسي لها مدخلية مباشرة في الإطاعة التشريعية، فكل عمل صغيرا كان أو كبيرا إذا دخلت فيه النية الصادقة تحول إلى عمل عبادي يُثاب عليه الإنسان، وإذا رافق النية الإرادة تحقق في العمل الإطاعة الربانية، وعلى سبيل المثال كما يضيف الكرباسي: (فلو أن إنسانا كان جسمه نجسا فوقع في البحر فإن جسمه لا شك يطهر، بينما الذي عليه غسل الجنابة فلو لم يقصده ولو بقي في الماء يوما كاملا فلا يكون متطهرًا).

ومن لطف الله على عباده، أن الإنسان يستطيع ان يكسب من أي عمل يقوم به زيادة في العطاء الدنيوي والثواب الأخروي وبتعبير الفقيه الكرباسي: (إذا قصد التقرب إلى الله جل وعلا في جميع أعماله، من نوم وأكل وزيارة وأي شيء آخر بصدق) فإذا أكل بنية تقوية الجسم على عبادة الله كان اكله عبادة، وإذا زار صديقا أو عاد مريضا في الله كانت خطوات الذهاب والإياب عبادة.

الإطاعة ومفاصلها

قد يبدو اقتران الإطاعة بالجانب العقائدي إنحصارها بإطاعة العبد لربه وفي الإسلام لنبيه وإمامه على اختلاف المذاهب والمدارس الفقهية، ولكن في حقيقة الأمر أن الإطاعة عنوان متعدد المصاديق والأغراض، فإذا كان الرب مقطوع الإطاعة والنبي طاعته من طاعة الرب وطاعة الإمام من طاعة الرسول ورب الرسول، فإن الطبيب يصبح في بعض مراحل حياة المريض واجب الإطاعة والعمل بما يوصي، والمحلل السياسي والخبير الإستراتيجي له أن يأخذ موضع القيمومة ويكون تحليله نافذ الإتباع لمن له السلطة، وللإنسان المكلّف أن يتبع الفقيه والمرجع المجتهد في المسائل الفقهية والحياتية، ويصبح المحامي في قضية ما إماما وعلى موكله ان يتبعه في كل إستشارة ويطيعه ولا يخالفه، وهكذا شرطي المرور وشرطي النجدة، فضلا عن الأب والأم والزوج، بل تصبح الجمادات غير العاقلة محلا لطاعة العاقل فعندما تتحول إشارة المرور وهي جماد من خضراء إلى حمراء ليس للإنسان وهو يقود عجلته إلا أن يقف إطاعة للمصباح ونزولا لإرادة قانون المرور، وله أن يخالف إن شاء ولكن الغرامة والعقوبة ستلاحقه.

الإطاعة وانواعها واغراضها يتابعها الفقيه الكرباسي في مجموعة المسائل الفقهية، فالحكومة الشرعية والمنتخبة هي سلطة عليا على المواطن إطاعة مقرراتها النافذة، لأنَّ إطاعتها هو مرآة للعمل بالقانون واحترامه، وكما يقول الكرباسي: (يجب احترام النظام القائم واتباع الأوامر التي تأخذ صبغة القانون فإن مخالفة القانون بشكل عام محرّمة إلا إذا خالفت الشرع في مبادئها)، ولهذا: (إذا كانت الدولة شرعية، فلا يجوز بأي حال من الاحوال مخالفة القوانين في السرّ والعلانية) وكذا: (القرارات التي تصدر من مجلس الوزراء محترمة إذا كانت الحكومة شرعية وكانت في إطار القانون المتفق عليه في مجلس الوزراء)، وحتى عصيان اوامر الدولة إذا خالفت الشرع في مبادئها بحاجة عندها الرجوع إلى الفقهاء وأصحاب الشأن لبيان الموقف الشرعي والعملي، لأن الإطاعة من عدمها غير خاضعة لرغبات الشخص، والعمل بالقانون في ظل حكومة شرعية ومنتخبة هو بعينه الحرية الحقيقية وإلا ساد الفلتان الأمني الذي يعطيه البعض صفة الحرية وما هي من الحرية بشيء، لأن القانون أداة الحرية والحرية تحمي القانون لفرض سلطته وإرادته.

والمهندس أو المعماري يحتفظ بحق الطاعة والإتباع في الهندسة والبناء لمن ليس من شأنه الهندسة والبناء، فلا يصح البناء دون إستشارة هندسية، لأن المهندس والمعماري والطبيب والكهربائي وأمثالهم هم خبراء في دائرة عملهم، والوثوق بهم يقتضي إطاعتهم فيما يقدمونه من نصائح واستشارات نظرية وعملية، ولهذا على سبيل المثال كما يذكر الفقيه الكرباسي: (إذا كان الذي أمر به الطبيب الحاذق المختص مما يوجب تركه ضررًا للمريض حسب وصفه، فإن مخالفته محرّمة وإطاعته واجبة) باعتبار أن: (كلام الطبيب الحاذق المختص الصادق حجّة شرعًا)، ولا عبرة للمعتقد في مجال الإختصاص وإطاعة المختص، وعليه: (إذا كان الطبيب غير مسلم، ولكنه حاذق موثوق به فإن كلامه حجة ويجب إتباعه)، وهكذا في مناحي الحياة الأخرى، فالإختصاص هو المحور، إذ: (كل مختص يوثق بقوله فإنه حجة، فلو قال المعماري المختص أنّ هذا البيت ينهار خلال الأيام القادمة، فالبقاء في البيت يكون حراما).

وفي بيت الزوجية، فإن عنوان الإطاعة قائم بين الزوجين، فللزوجة أن تطيع بعلها فيما تبانت عليه الحياة الزوجية وتسالمت مثل حقوق الفراش، وله أن يطيعها إن هي رغبت، ولكن له ليس أن يجبرها على الطبخ أو كوي الملابس مثلا، إذ: (لا يجب على الزوجة إطاعة زوجها في غير الأمور الجنسية كالطبخ والخدمة وما إلى ذلك، وإن استحب لها ذلك برضاها)، وبتعبير الفقيه آية الله الشيخ حسن ارضا الغديري في تعليقته: (ولها الحق في مطالبة العوض حسب نوع العمل وكيفه، واستحباب التعاون مما لا يخفى فيه من الرجحان، ولا ينافي ذلك بمطالبة العوض المسمى)، ومن الإطاعة: (يجب على الزوج تلبية الرغبات الجنسية لزوجته) بل: (لا يجوز للزوج أن ينام منفصلا عن زوجته في كل ليلة من أربع ليال إلا برضاها، فإن خالف زوجته أثِم)، وبالطبع كما يضيف الفقيه الغديري في تعليقته: (إلا في الحالات الإستثنائية كالمرض أو ضيق المكان أو مانع إجتماعي أو عائلي ونحوه).

والإطاعة تتحقق في العامل والموظف بوجود مراقب العمل أو بغيابه، لأن احترام قانون العمل يفرض على الموظف والعامل والأجير والمستخدم المؤقت والدائم احترام شروط العمل وتطبيقها، لأن العمل يقابله الدفع المادي والإخلال بالشروط هو في واقعه سرقة للمال الخاص أو العام، ولهذا: (الأجير والعامل والموظف يجب عليه إطاعة مَن استأجره واستعمله ووظّفه أو أُمر بأخذ الأوامر منه، حسب الإتفاق في نطاق العمل)، وفي المقابل من حق العامل والموظف أن يخالف المشرف أو رئيس العمل فيما لو أمره العمل خارج نطاق الشروط، من باب الناس عند شروطهم، ولهذا: (إذا اتفق على عمل معيّن لا يجوز لصاحب العمل أن يأمره بأمر آخر، ولا يجب عليه إطاعته).

وتتأكد الإطاعة في المجال العسكري ففيها سلامة البلد وحماية للمجتمع وممتلكاته من العدو الخارجي، ومن مصاديق الإطاعة هي إطاعة الوالدين مسلمين كانا أو غير مسلمين، ولكن: (إطاعة الوالدين إذا كان فيها عمل محرم شرعًا فلا قيمة لأمرهما ونهيهما) ومن ذلك ما يقرر القرآن الكريم: (وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) سورة العنكبوت: 8، وفي مجال التقليد تعد: (إطاعة المجتهد الذي يقلّده المكلَّف واجبة في باب الأحكام التي له رأي فيها، إذ هو جزء من عملية التقليد).

ويعتبر إطاعة المخلوق لخالقه ومن أرسلهم من أنبياء وأوصياء قمة عنوان الإطاعة والعمل بها، فإطاعة الله واجبة وإطاعة الرسول(ص) واجبة، وإطاعة الإمام واجبة، وهذه الإطاعة تحددها الآية الكريمة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ) سورة النساء: 9.

وحقيقة الأمر أن الذي يأتمر بأوامر الله ونواهيه ويطيع النبي فيما أوحي إليه ويتبع هدي من انتدبهم النبي لقيادة الأمة، فإن من لطف الله ونعمه أن يهبه البصيرة لتأدية كامل الإطاعات الأخرى، ويعطي لكل ذي حق حقّه ويوازن بين الواجبات والحقوق.

*الرأي الآخر للدراسات- لندن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى