الدولة المدنية .. والمجتمع المدني

بقلم: د . بهجت سليمان

( من المجتمع المغلق  إلى  المجتمع المفتوح  )

1▪ تبيّنُ دروس الحرب المعاصرة أنّ التّجربة السّياسيّة قد أثبتتْ تفاوت التكوين البنيويّ للدّولة العربيّة الإسلاميّة في المنطقة، إذ ما مِن سببٍ واقعيّ يسمح بالاستنتاج بهويّة معاصرةٍ واحدةٍ للأقطار العربيّة. و الضّرورة المبدئيّة تقضي، على هذا الأساس، بالبحثِ في ظاهرة الدّولة الواحدة كظاهرةٍ مستقلّة بوصفها عضويّة منفصلة عن النّسيج العامّ للمظاهر التي تزوّرُ التّشابه..

و فيما عدا أنّ هذا الواقع هو واقع سياسيّ عمليّ، فإنّ الفكر السّياسيّ يواجه مهمّة استثنائيّة تتعلّقُ بالنّشوء المعاصر للدّولة العربيّة الحديثة، على رغم ما تحافظ عليه من أعراضِ و جوهرِ دولة الخلافة الإسلاميّة، إن لم يكن بسببِ هذا التّداخل و التّعقيد.

2▪ إنّ التّنظير الثّقافيّ- السّياسيّ “النّهضويّ” و “القومويّ” مازال محكوماً، إلى اليوم، بعجزه المعرفيّ المعبَّرِ عنه بالخلط الطّوبولوجيّ السّياسيّ ( الخلط بالفضاءات الاصطفافيّة النّسقيّة ) و تداخلُ الحقائق و الأوهام في التّفكير و الاستدلال، دون التّمكّن من تجنّبِ الفشلِ في فهم أسباب الانكماش الذّاتيّ في المشهد الوطنيّ أو القوميّ، سواءٌ في الممارسة الدّستوريّة للدّولة أو في الممارسة الواقعيّة للسّلطة السّياسيّة.

3▪ في الوقائع يمكننا أن نحكمَ على أنّ تخلّفَ الأداء السّياسيّ للدّولة العربيّة المعاصرة، إنّما يعودُ إلى تناقضٍ تناحريّ جسيمٍ في المصلحةِ التّاريخيّة المعبّر عنه في تناقض مصلحة كلّ من “الدّولة” و “المجتمع”، هذا و دون أنْ ندخلَ هنا في معايراتٍ و مقارناتٍ أدائيّةٍ للحكم على مشروعيّة و شرعيّة الأطراف المتناقضة !

و ليسَ ما نعرفه من انتقادات واقعيّة تقليديّة للنّظام العربيّ الرّسميّ، كالفشلِ في تحقيق التّنمية و التّضحية بالعدالة الاجتماعيّة و التّجاوزات على “الشّرعيّة” و أزمة العلاقة بين الثّقافة و السّلطة أو بين المعرفة و الدّولة.. إلخ ..

سوى نتائجَ مُشخّصة لذلك الفصام السّلوكيّ و الغائيّ، بين مؤسّسة الدّولة السّياسيّة و القوى الاجتماعيّة المتمأسسةِ بكيفيّات عديدة و معقّدة، أو بسبب أنّ الدّولة لا تأخذ في اعتبارها، في مشروعها، انتهاء صلاحيّة العديد من الاتّجاهات الاجتماعيّة المناوئة و بعض القوى التي كانت كابحة للتّقدّم.

4▪ تتعرّضُ جميع المفاهيم الثّقافيّة- السيّاسيّة في الامتحانات الشّديدة ، كما في امتحان “الحرب” السّياسيّة.. لهزَّاتٍ و خضّاتٍ عنيفة و عميقة و طويلة، تعودُ بالمصطلحات المعبّرة عن تلك المفاهيم إلى بداياتٍ.. لم تكن القوى المختلفة المتناحرة قد عاصرتها معاصرةً كافية.

و تنضمّ إلى هذا الاختبار المفهوميّ الجديد ، جميعُ القوى نفسها صاحبة المصلحة في الاقتتال على السّلطة، و هذا أمرٌ يضع على المحكِّ كلّ الفهم و الثّقافة و الطّموحات المستيقظة في “المناسبة”..

و هو ما يجعل من “المجتمع” حقلاً جاذباً للتّجربة التّأسيسيّة.. كما يجعل مشروع “الدّولة” معرّضاً – بالقدْرِ نفسه – لاختبارات التّفنيد و التّكذيب.

هكذا، فقط، تظهرُ “التّطابقات” و “التّواطؤات” الظّرفيّة كزيوفٍ، بينما تظهر علاقة “الفكرة” السّياسيّة في “المشروع” الوطنيّ، بالواقع، كخرافةٍ هزليّة من خرافاتِ الرّشيّة المتبادلة بين الشّعبِ و الحاكميّة.

5▪ لم تنشأ “الدّولة” أو “المجتمع” كنتيجةٍ للتّعاقدِ و الاتّفاق وفق ما أحبّ ( جان جاك روسو ) أنْ يرى الأمر؛ و إنّما على عكس ذلك تماماً، و كما رأى (فولتير) بعمق، فإنّ نظريّة “العقد الاجتماعيّ”، كنظريّة لظهور الدّولة، هي نظريّة تكذّبها – كما نرى بالقرب من (فولتير)- سياقات السّياسة في التّاريخ و الواقع..

و يقترح (فولتير) بدلاً منها نظريّة تقوم على أنّ الدّولة “ولدتْ تاريخيّاً من الإكراه لا من التّعاقد”..

و نستنتجُ من ذلك – توسّعاً – أنّ “الدّولة” التّاريخيّة هي “مَن” ( أو مَا..) يتحمّل عبءَ الجواب على السؤال الموجّه إلى “المعقوليّة السّياسيّة” و ذلك في كفاية فكرتِها التي تتبنّاها على المصيرِ.. مصير الدّولة و الأفراد و المجتمع و العالم.

6▪ لقد أدخلتْ الحربُ السّوريّة الطّائلة الكثيرينَ، و منهم بعضُ السّاسة و المثقّفين و المفكّرين المحترفين.. في شكّيّةٍ ثقافيّة ، أنتجتْ نزاعاتٍ سياسيّةً بالجملة و حاجات عمليّة لاختبار المصطلح السّياسيّ نفسه المعبّر عن مفهومٍ أو مفاهيم مُضلّلة، في نقدٍ معرفيّ يأخذ بالاعتبارِ التّجربة الفلسفيّة السّياسيّة بصفتها المعبّر الأنضج و الوحيد ، عن “الواقع” المُحجّبِ بالأفكار و الأوهام معاً..

لقد كانت الانقسامات الإدراكيّة – المفهوميّة فادحةً و فوقَ مستوى التّوقّعات ، و ذلك على رغم الوضوح الشّديد للمخاطر و الحاجات الوطنيّة الجامعة..!

7▪ يقول ( فرانسوا شاتيليهْ ) : [ مؤرّخ الفلسفة الفرنسيّ و السّياسيّ الفلسفيّ الأعمق في القرن العشرين ] :

( إنّ معرفة العلم ليست هي “معرفة” “المنطق”. ” (…) “على اعتبار أنّ هذا “المنطق” يفلتُ دوماً من المعرفة، و ذلك لأنّ معرفته تحوله و تجعل منه شيئاً منسوباً إلى الإنسان ).

و ما يعنيه ( شاتيليهْ )، ببساطة، هو أنّ ثمّةَ مسافة دائمة و أبديّة في التّكوين.. تفصل “المعرفة الحقّة” عن “معرفة الإنسان”.. و هذا أوّلاً..

8▪ و ثانياً هو أنّ “المنطق” ليس هو “المعرفة”، و أقصى ما يستطيعه هذا المنطق، بتوفيقاتٍ ليس لها قوانين مُدركة أو مفهومة، هو أنّه يلفت الانتباه و الاهتمام إلى “المعرفة”، بإشاراتٍ غير خلّاقة و لا تُكرّسُها الدّلالة في منظومة موصوفة..

و هذه الإشكاليّة المنافية للبداهة هي إشكاليّة ملازمة للفكر و السّياسة و سائر المدوّنات “المنهجيّة” و مطوّلات الاعتقاد و التّعريف..

ينطبق هذا “التّحيّز الدّلاليّ” الدّقيق على جميع المماحكات السّياسيّة التي جعلت منها أفكار “الحداثة”(الإنسانيّة) مشروعَ خلافٍ و تباينٍ، أكثر ممّا جعلت منها منطلقاتٍ مبدئيّة لممارسَاتٍ نظيفة.

9▪ و أغلبُ الذي سيحصُلُ هو أنّ ذاكرة التّاريخَ السّياسيّ ستسجّل ، أنّ الحربَ السّوريّة كانت منعطفاً مصيريّاً شاملاً المؤسّسات و البنى و المفاهيم على حدّ سواء..

و هذا بسبب أنّ الانزياحات الجغرافيّة، و الجغرافيّة السّياسيّة، و الجغرافيّة البشريّة (الدّيموغرافيّة)، و انزياحات الثّقافات و المعتقدات، بما فيها التّشوّهات النّاشئة في السّلوكِ المنظّم على إيقاع إعادة تشكيل “النّظام العالميّ” الجديد؛ من شأنها أنْ تدفع الفكر إلى إعادة صياغة مفاهيمه و بديهيّاته ، بما يخالف “المنطق” السّياسيّ المزعوم المحكوم بالمؤامرات و المجاملات و فظاظات المصالح المباشرة.. هذا معقد الأمل الضروريّ و الحتميّ لنهاية هذه الحرب.

10▪ إنّ الصّراعَ السّياسيّ الذي تدور حوله الحرب السّوريّة، في المنطقة و العالم، هو صراعُ تحدّياتٍ و نزعات فكريّة و مصالح و أحلام تسلّطٍ.. مموّلة بالعنفِ و المالِ و السّلاح..

لهذا نرى أهميّة أنْ تبدأ مواجهة هذه “الأفكار” و “التّحدّيات” بحربٍ مقابلة و محايثة ضدّ المفاهيم و المعتقدات و البرامج و النّظم المفهوميّة و التّفكيريّة ، التي أنتجتْ و ركّزتْ هذا الصّراع و هذه الحرب.

و من المحتوم أنّ هذه الصّراعات المتبادلة و الشّاملة ، سوف تعرّي أكثر فأكثرَ الصّراعات التّلقائيّة التي تختزنُ دوافع المصالح الدّونيّة و التّهالك التّكفيريّ على احتكار القوّة و العنف و السّلطة و الدّولة ، من جديد..

و هذا ما يُعلن الحرب، اليومَ، على مشروعِ “الحرّيّة” العالميّ نفسه ، الذي يأبى الجريمة الإرهابيّة المنظّمة و العابرة للشّعوب و الدّول و القارّات.

11▪ وعاجلا أم آجلا ، سيواجه السّوريّون حاجةً حقيقيّة إلى كتابة “دستور” يضمن للدّولة إمكانيّة الحفاظ على المُجتمع السّوريّ، و إطلاقه نحو بناء ما خلّفتهُ “الحربُ” من تخريبٍ و ترويع. و حيث ستنتهي “الحرب” سيُستعادُ خطاب الدّولة السّياسيّ إلى سياقهِ “الطّبيعيّ”..

بينما لا يُمكنُ أنْ نضمن آفاق تطوّرات خطابات القوى السّياسيّة المجتمعيّة، بتعدّدها و اختلافاتها و خلافاتها، و واقعيّة مفاهيمها و مصطلحاتها – مِنْ عدمِها – التي اعتادت أن تصدّرها في زمن الحرب..

و من الطّبيعيّ أن نتفهّم ذلك الشّقاقَ السّياسيّ في المنطلقات الأيديولوجيّة ، لكلّ من خطاب الدّولة و خطاب أعدائها الاجتماعيين، ناهيك عن الفارق الثّقافيّ و المعرفيّ الذي يفصلُ الدّولة عن المجتمع.

لقد تعوّدنا منذ ما يقاربُ نصفَ القرنِ من السّنين، على تقدّم مشروع الدّولة السّياسيّ عن المشاريع الاجتماعيّة- السّياسيّة التي تتبنّاها قوى و مرجعيّات اجتماعيّة و مجتمعيّة متخلّفة، عن مَكانيّات و ضرورات المعاصرة السّياسيّة لحضارة العالم.

12▪ و يمكننا، عندها، أنْ نجزمَ بعودة تأجّجِ الصّراع التّقليديّ الطّبيعيّ، ليس بين الثّقافة .. و السّلطة , كما يُروّجُ أعداءَ الفكرة و الدّولة و السّلطة و النّظام السياسي ..

و إنّما بين مشروع الدّولة الوطنيّة، السّياسيّ و البنائيّ، و بين العداءِ للمعقوليّة السّياسيّة الذي سيتّخذُ له عنواناً تقليديّاً و أعني به مناوئةِ الشّرعيّة، متمثّلاً بقوى تقليديّة لا تملك مشروعاً سياسيّاً و إنّما طموحاً محموماً إلى السّلطة و الثّروة..

هكذا سيكون الصّراعُ – إذاً – مألوفاً و اعتياديّاً بين مشروعِ الدّولةِ السّياسيّ، و بينَ ثأريّة تاريخانيّة كانت و ما تزالُ قادمةً، أيديولوجيّاً، من أوكارِ التّاريخ و جُحورِ الماضي المستعادِ في الثّقافة و الأعراف و العادات الجائرة.

13▪ و في هذا المستوى من الصّراع يصبح مشروعاً معه الصّراعُ حول تعبيريّة المصطلحات و واقعيّة المفاهيم و قدرة الكلمات على التّعبير عن الأشياء، حيث كانَ الصّراعُ على الأفكار و مازال شأناً تاريخيّاً مسوّغاً في إطارِ التّناقضات بين المواقع و المصالح و الطّموحات و الأطماع..

و عند هذه الدّرجة من التّداخلات الشّاملة في المشروعيّة و الشّرعيّة.. من الواجب التّحضّر لحربٍ أخرى ، مواضيعها هي الأفكار و المفاهيم و الكلمات و المصطلحات و الشّعارات و نُظمُ التّفاعل و الفاعليّة و العمل و التّأثير، و كذلك فضاءات فوقيّة و مجالات دلاليّة بآفاق واسعة..

سيشكّلُ الشّكّ و التّشكيك و التّكذيبُ و المحاججات الفعليّة و المفتعلة، تشكيلة واسعةً لدّوامةٍ تحكم المحفوظات و الإبداعات سواءً بسواء.

14▪ و هكذا لن يسلم – من جديد – الكثيرُ من الرّؤى السّياسيّة التي تحكم الثّقافة، من إعصار المُعطى العُنفيّ الوجيه في تاريخٍ أحمقَ أو مجنونٍ ، إذ لطالما قد جافى العقلانيّة و المعرفة و الحقّ. سوف يشملُ ذلك- بالبداهة- مفاهيم يَودُّ أصحابها و المدافعون عنها رفعها إلى مستوى المقولة، المقدّس!

“الدّولة” و “السّلطة” و “النّظام”.. و “الدّولة المدنيّة” و “المجتمع المدنيّ” و “المجتمع الأهليّ” و “فلسفة الحكم السّياسيّة” و مضامين اقتصاد التّبادل السّياسيّ و المفهوميّ للوعي الاجتماعيّ و الموقع التّاريخيّ و المصلحة الطّبقيّة، و التّنازعِ على الخطاب الأخلاقيّ.. ، إلخ..

كلّ هذا و ما هو منهُ و إليه ، سوفَ يكونَ محلّ الصّراعِ المرتقبِ القديم و المستعادِ..

بالإضافةِ إلى كومةِ المغالطات التّاريخيّة المتعلّقة بالدّيموقراطيّة و الحرّيّة و العَلمانيّة و حدود حقوق الأفراد و المجتمع و الدّولة، التي ستشهدُ أيضاً استعادات “اعتباريّة” بغضّ النّظر عن قيمتها التّاريخيّة و الواقعيّة و ممكناتها المتاحة و صدقيّة اعتناق اًصحابها لها أو الكذبِ و النّفاقِ ، الذي يحكم الكثيرَ من أدوات و أهداف الخطاب السّياسيّ و الإعلاميّ المعاصرين.

15▪ ليست الدّولة شأناً اجتماعيّاً خالصاً، كما أن المجتمع ليس شأنا فطريّاً بريئاً صُرفاً..

و عندما يجب على الفكر التّدخّل في مجرى هذه “الموضوعَةِ”، فإنّ عليه أنْ يُمارسَ استيضاحاتٍ شكّيّةً تتناولُ النّسَقَ الفكريّ للآخر ، كما النّظرةَ النّقديّة لنمطِ الأشخاص الذين يتصدّون لقيادة الاستراتيجيّات المتوجّهة إلى احتكار الخطاب السّياسيّ الشّعبويّ المكذوب ، مثلما عليهِ – أيضاً – أنْ يمنع بالقوّة، و ربّما بالعنفِ، احتكار ذلك “الخطاب”، ثمّ تنقيحُهُ من دعاواه الاستئثاريّة و أدواتهِ الإقصائيّة الرّامية إلى تصدير العنف التّاريخيّ الاجتماعيّ و الثّقافيّ و السّياسيّ، و تخريب المنظومات المفهوميّة المتعلّقة بالحرّيّة و الحقيقة و حقوق الإنسان و مراتب الشّرفِ و عناصر القيمة، و خلق الخرافات السّياسيّة المغرضة و المتعلّقة بالأكثريّات و الأقلّيّات.

16▪ هذه هي، و مَا إليها، من أهمّ المهادنات مع الباطل ضدّ حقّ الوجود. و حيثُ يدخلُ كبح مثل هذه الأمور، أساساً، أو يجبُ أن يدخلَ حتماً، في مفهوم و ممارسة و حماية و صيانة “النّظام العامّ”، فإنّه ينبغي له ألَّا يخرجَ من إطارِ المسؤوليّات التي تترتّبُ ممارستها على “الدّولة” و “المجتمع”.

و نحن ، يعنينا في سبيل ذلك أنْ نمتلكَ تصوّراً ثابتاً و مكتوباً على حدود ( مفاهيم و أحكام )”الدّولة المدنيّة” المعاصرة، حصراً، لأنّ ما يتفرّعُ عنها كافٍ للنّهوضِ بوطنٍ مزّقتْهُ تللك الحربُ التّاريخيّة “المقنّعة” قبل أن تمزّقَهُ هذه الحربُ المعاصرة.

17▪ من ناحيةٍ أخرى فقد بدأت طريقُ الفكرة المفهوميّة الحديثة للتّغيير الذي عبّر عن مضمونه بجلاء في البواكير الأولى للحربِ السّوريّة، أصلاً، مع “دعاة المجتمع المدنيّ” أو “أصدقاء المجتمع المدنيّ” و ما سُمّي بـ”بيان التسعة و التّسعين” في سورية، في إطار ما اصطلح عليه باسم “الرّبيع العربيّ”، في مُستهلّ العقد الأوّل من هذا القرَن.

غير أنّهُ من المظنون فيه أنّ هؤلاء “المدنيين”.. كانوا يعرفون دلالة أو معنى “المجتمع المدنيّ” أو “الدّولة المدنيّة”.. في مقابل مفهوم و واقع “المجتمع الأهليّ” السّوريّ.

18▪ ثمّة جدليّة في الفكر السّياسيّ علينا أنْ نُقرَّ بها، تخصّ العُلاقة المتبادلة و المركّبة و المعقّدة، بين “الاجتماعيّ” و “السّياسيّ”..

و هذا لا يعني، بالمرّة، خضوع “السّياسيّ” ل”الاجتماعيّ”.. بل و على العكسّ فإنّه ينبغي على “السّياسيّ” و ينبغي لهُ أيضاً، أن يُساهمَ في تكوين و تكوّن “الاجتماعيّ”، و أنْ يكونَ قادراً على استحداث الأدوات و المؤسّسات القادرة على “التّدخّل الإيجابيّ” في تحوّلات “الاجتماعيّ” و آفاقه و أهدافه.

19▪ و هذا يحصُلُ في حالة واحدةٍ مجرّبةٍ في التّاريخ العالميّ، و هي وضع الأسس الدّستوريّة المناسبة و الّلازمة للدّولة المدنيّة، بينما تبقى الأسس الكافية رهناً بمواكبة تأثّر “الاجتماعيّ” ب “السّياسيّ” و الاستجابة لهُ و تحقّقِ و تحقيق أهدافه الحضاريّة الممكنة..

في الوقتِ الذي يستقبل فيه “السّياسي” الخطاب الاجتماعيّ و تطوّراته تحت التّأثير السّياسيّ و يُحلّلها و يُنقّحها و يعمل على إعادة إنتاجها و تصديرها من جديد إلى “الاجتماعيّ” ، عن طريق ما نسمّيه في “السّلطة” و “الدّولة”، نقاط التّأثير و عوامل الكفّ و عوامل الإباحة و الوسائل و الأدوات الفكريّة و الثّقافيّة و المؤسّساتيّة الّلازمة و الضّامنة لذلك..

على كلّ حالٍ فإنّ لغة العصرِ تمتلك جاذبيّتها التّاريخيّة و الحضاريّة، بحيث لا يُمكنُ الانتقالُ من “التّحريكِ” إلى “الحركة” الاجتماعيّة و السّياسيّة ، إلّا في ظلِّ تخقيق “الدّولة المدنيّة” المعاصرة.

20▪ منذ العهدِ السّياسيّ الأوّل “للبعثِ” ، خَطَتِ الدّولة في سورية خطواتٍ اقتصاديّة و طبقيّة و ثقافيّة مُعتبرة على طريق الحداثة الاجتماعيّة ، التي لم يُنهكها سوى الثّغرات التّربويّة و التّعليميّة و الأكاديميّة أيضاً، في سياسة التّحديث الاجتماعيّ، بعد أنْ نضيفَ إليها المقاومة التي يُبديها و يطوّرها المجتمع، عبر قواه و سلطاته التي يكون بعضُها خاملاً حيث ينتبه إلى خطر الإزاحة السّياسيّة، مع تلك القوى الرّجعيّة تاريخيّاً..

مضافاً إلى كلّ ذلك تلك الثّغرة السّياسيّة المتمثّلة بالنّفاق السّياسيّ الذي تمتهنه بعض القوى السلطويّة و السياسيّة المؤثّرة، في انفراغٍ طاقيٍّ و ضياعٍ فيزيائيّ لخطاب الدّولة الأساسيّ.

كانت معالم “الدّولة” في سورية ، تُستقطَبُ حول نُواةٍ للدّولة المدنيّة المعاصرة، مع دخول سورية الحرب عليها .

21▪ و كان لا بد ّ ، بالتّالي ، من مباشرة التّنظير الجديد على “الدّولة المدنيّة” الواقعيّة في سورية، بعد خروجها من الحربِ، مروراً على مفهوميّ “المجتمع المدنيّ” و “المجتمع الأهليّ” كمحايِثَينِ بنيويين و تكوينيين لمفهوم “الدّولة المدنيّة” المحلّيّة، و مروراً تالياً على كلّ من مفاهيم “الدّيموقراطيّة” و “الحرّيّة” و “العلمانيّة” و ما يتّصلُ بذلك.

22▪ و كما بيّنا أعلاه فإنّ المسؤوليّة السّياسيّة المباشرة، إنّما تقعُ على كاهل “الدّولة”، أوّلاً، في إحداثِ التّغييرات التّاريخيّة الضّروريّة في المجتمعات المغلقة كما هو عليه الأمر في (سورية)..

و يقتضي ذلك أنْ نبدأ ، بالحديث على “الدّولة المدنيّة” كمفهوم و كمصطلح و كمشروع وطنيّ أيضاً..

ويختزل مصطلح “الدّولة المدنيّة” المعاصر مفهوماً دستوريّاً حداثيّاً تكرّس سياسيّاً بعد الثّورة الفرنسيّة ( 1789 ) ، كاستكمال لبنود مقوّمات السّيادة السّياسيّة للدّولة على أراضيها ، التي جاءت بها معاهدة ( وستفاليا )            ( 1648 )..

وهكذا يمكننا أنْ نقفَ على ذلك “المفهوم” الذي يضمنُ حقّ الدّولة السّياسيّ “الأصليّ” الذي يُتيح، تبعيّاً، مجموعة من الحقوق الاجتماعيّة للأفراد المواطنين، بحيثُ أنّه يختزنُ كموناً أيديولوجيّاً تستطيعُ أيّةٌ من القوى و السّلطات التي تحكم تحت سقف “الدّستور” العلمانيّ، أنْ توظّفَهُ و تمارسه في سبيل بسط السيطرة السّياسيّة للدّولة على “الاجتماع”، مُخضِعةً سائرَ القوى الأخرى لسلطة الدّولة على المؤسّسات و البِنى الاجتماعيّة الثّقافيّة و الأفراد و المواطنين.

23▪ فالدّولة المدنيّة لا يمكنُ فهمها أو تصوّرها بدون دستور علمانيّ يجعل من “العلم” و “العمل” قرينين ، في مقابل التّقاليد الجامدة التي لا تفتأ تعملُ على انغلاقيّة اجتماعيّة تاريخيّة تحاول تكريس “الماضي” ، بوصفه قوى و مصالح و أيديولوجيا تقاومُ حاجات المعاصرة و الحداثة ، في التّعاطي مع أسئلة و فروض و واجبات و إملاءات الواقع العمليّ ، الذي يُمثّل حقول الممارسة المؤدّية إلى إنتاج الأفكار ، التي تبني عليها أوضاعاً فوقيّة في الثّقافة و الاجتماع و الجمال و الأخلاق ، في إطار المصلحة التّاريخيّة التي تتيحُ الانتماء إلى “نظام العالم”!

إنّ الدّولة المدنيّة على هذا الأساس ، هي- إذاً – الحاضن التّاريخيّ للنّظام الدّستوريّ “العلمانيّ” الذي يحمي حاجات و ضرورات و مصالح الأفراد و المواطنين و المؤسّسات الاجتماعيّة الدّاخلة في “التّنظيم” و “التّأطير”، كالأحزاب السّياسيّة و النّقابات و الجمعيّات المهنيّة و الحرفيّة و الهيئات و الشّخصيّات الاعتباريّة الأخرى، و ذلك بما لا يتعارضُ أو يتناقض مع شَخصيّة و صورة الدّولة بوصفها تحقّقاً للفكرة في تمثّل “الحق”.

24▪ إنّه من المحدوديّة المعرفيّة و الجهل بمبادئ “الحقّ”- إذاً – الحديث على “حقوق” سياسيّة و اجتماعيّة و ثقافيّة و اقتصاديّة للأفراد و المواطنين و أشكال الاجتماع الأخرى، كما قد جرى و يجري العرف الثّقافيّ و الأدب السّياسيّ و الفلسفيّ، و بخاصّة ما تضمّنه “الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان و الفرد و المواطن” الذي حملت رايتَه الحداثةُ العالميّة مع أفكار و مبادئ الثّورة الفرنسيّة؛ إذ أنّ “الحقّ” في “الفكرة” لا يقبل الانقسام و التّجزيء و القسمة و التّوزيع و التّبادل.

نحن يمكننا، فقط، إعلاء شأنِ الضّرورات و الحاجات الإنسانيّة و حمايتها كضمانٍ للعيش الكريم و المحترم للأشخاص الطّبيعيين، كما هو ضمانٍ لاحترام موجوديّة و مشروعيّة الأشخاص الاعتباريين في إطار نظام “الدّولة المدنيّة”، العام.

و يتّصلُ بمفهوم “الدّولة المدنيّة” واقعُ “المجتمع المدنيّ” نفسه الذي تؤطّره الدّولة و تحرسه و تعملُ على احترامه في مؤسّساته المعاصرة المعتبرة :

▪ أحزاب سياسيّة .

▪ هيئات و مجموعات الضّغط المجتمعيّ على الدّولة .

▪ النّقابات و الممثِّلِيَّات الاجتماعيّة و الشّخصيّة، و المؤسّسات الفكريّة و الثّقافيّة.

▪ هيئات و مراكز الرّأي الخاصّ و العامّ .

▪ و معاهد الدّرس و البحث و الإحصاء .. إلخ ، كما تأخذ أنضجَ ما يُقدّمه بعين الاعتبار.

24▪ هنا من المهمّ التمييز بين الخلط الأيديولوجيّ بين “المجتمع المدنيّ” و بين “المجتمع الأهليّ”..

و حيثُ تحدّثنا على “الجدليّة” التي تحكم عُلاقة “الاجتماعيّ” ب “السّياسيّ”، و على اقتصاد التّبادل الذي يحكم العلاقة ما بينهما، بحيثُ أنَّ هنالك علاقةً متداخلةً بين هذين “العاملين” في درجة من درجات “المعقوليّة” المنتجة للتّقدّم الحضاريّ، إذ تتظاهرُ تلك العلاقة “الجدليّة” كإحدى الإيجابيّات التي تحكم تلك العلاقة في “المجتمعات المفتوحة” ثقافيّاً، كما هو الأمر في “الغرب” المتمدّنِ الذي تجاوز تقاليد الانغلاق الدّينيّ و المذهبيّ و الطّائفيّ و العشائريّ و العائليّ و القبليّ.. كطَورٍ من أطوار ترسّخ “المجتمع المدنيّ”.. إلخ؛

25▪ فإنّ توتّر هذه “الجدليّة” يخبو في الدّول و المجتمعات المتخلّفة ، التي ما تزالُ ترسفُ في أصفادِ ثقافاتِ و أيديولوجيّاتِ و انغلاقيّات “المجتمع الأهليّ” الذي يُميّزُ المجتمعات المنغلقة ، كمجتمعاتنا العربيّة الإسلاميّة، على سبيل المثال.

و هنا يبدو التّفريقُ كتحصيل حاصلٍ بين “المجتمع المدنيّ” الذي حدّدنا معالمه التّكوينيّة أعلاه، و بين “المجتمع الأهليّ” المكوّن أساساً من :

▪ الجمعيّات الأهليّة و

▪ “الخيريّات” و الأخويّات المغلقة و

▪ التّجمعات “السّياسيّة” ما قبل الحزبيّة التي تتأسّسُ على جذورٍ دينيّة أو طائفيّة و أيديولوجيّات إقصائيّة مانعةٍ ، ينضاف إليها الاتّجاهات الفكريّة النّسقيّة و الواحديّة الرّجعيّة في التّاريخ كماضٍ متزمّنٍ و معنّدٍ في الحاضر..

26▪ هذا “المجتمع الأهليّ” الذي ينفردُ بأعراضٍ ثقافيّة و عرفيّة جامدة أو شبه جامدة، تجعلُ من أفراده و أطره الجمعيّة، حالةً أو حالاتٍ نمطيّة و مُقولبةٍ على أساسٍ “قبليّ” ، من حيثُ هي مجموعة محدودة و محدّدة من أحوال الاجتماع المنغلق و المغلق ، التي تخضع باستمرار لإعادة الإنتاج الثّقافيّ، على أساسٍ من التّقاليد و الأفكار و الأحكام الجاهزة و الثّأريّة و الحاقدة و المقاومة للتّغيير.

و حيثُ يختلف هنا – عندنا – دور “الدّولة المدنيّة” عمّا هو في “الغرب”..

إذ على “الدّولة” المحلّيّة وحدها تقع مسؤوليّة التّغيير الحضاريّ و الثّقافيّ و الاجتماعيّ و الأخلاقيّ، عبر قيادةٍ من قبل “السّياسيّ” لل”الاجتماعيّ”، و ليس العكس؛ فإنّنا نلمسُ هنا الفرق التّاريخيّ الجوهريّ بين كلّ من “المجتمع المدنيّ” و “المجتمع الأهليّ”..

27▪ وهذا الفرق الذي أرادتْ له جائحة الثّقافة الحربيّة السّوريّة، و الثّقافة العربيّة الإسلاميّة- بتعاضدٍ- في ما سمّيَ بالمعارضات السّياسيّة و المعارضات المُسلّحة، أن يكونَ ضَياعاً افتراضياً، أرادتْ و عملتْ على حذفه- تضليلاً- فعجزتْ..

في الوقت الذي انطلقت هي من استغلاله و استثماره اجتماعيّا في وسطٍ اجتماعيّ منغلق قبَليّ و “أهليّ” و دينيّ و طائفيّ جاهزٍ للإجرام و القتل..

و من المفهوم أنّنا هنا لا نُفسّرُ الحربَ أو الأزمات التّاريخيّة المستعصية.. ، بالمجتمع الأهليّ وحده و حسب..

و لكنّنا نريدُ – بالتّأكيد – أنْ نقرّرَ أنّهُ ما كان لهذه الحرب المسعورة على سورية ، أن تأخذَ الكثيرَ من المسارات الاجتماعيّة و الثّقافيّة التي سلكَتْها، لولا هذه البيئة الغاشمة القائمة على أسس و جذور “المجتمع الأهليّ”..!!؟

28▪ و أمّا “العلمانيّة”، التي تصفُ النّظام السّياسيّ الدّستوريّ للدّولة المدنيّة، فهي المفهوم السّياسيّ- و ليس الفلسفيّ أو الاعتقاديّ- لاستراتيجيّة سلطة الدّولة في ممارستها فلسفتها السّياسيّة في النّظام..

غيرَ أنّ عليها ألّا تحتملَ الشّكّيّة التي يُمكن أنْ يتعرّضَ لها نظام الحكم في الدّولة المدنيّة، من جهة أنّها ( العلمانيّة ) هي “البنائيّة” التي تنتظمُ “الدّستور” و مؤسّساته الحكوميّة، بحيثُ تجعلُ من نظام الحكم نظاماً يحيا في “المعقوليّة” البشريّة و الاجتماعيّة، التي تبنيها “الدّولة” بالتّعارضِ المباشرِ مع المعطيات الواقعيّة و الثّقافيّة و الأيديولوجيّة التّلقائيّة.. في زمن “المشروعيّة” الذي يتمثّلُ في الإباحة العامّة و الشّاملة..

و يمكننا وصفُها إيجابيّاً بقدر ما تكمن أوصافها في السّلبِ الحَدّيِّ الذي ينفي عن نظامها صفاتٍ عتيقة تعودُ إلى زمن “المجتمع الأهليّ” و “الدّولة” الأيديولوجيّة الدّينيّة أو الدّولة “الأوتولوجيّة” (الألوهيّة) أو “الثّيولوجيّة” (الدّينيّة)، و التي تتيحُ كلٌّ منها إمكانيّات انتعاش و ازدهار التمايزات و الفوارق الاجتماعيّة القائمة على أساس الولاء القوميّ أو الدّينيّ أو الطّائفيّ.. و ما إلى ذلك.

29▪ و “العلمانيّة” لا تعني بالضرورة تحقّق العدالة الاجتماعيّة بمفهومها الواسع و العمليَّانيّ، مع أنّها لا تُلغيها أو تمنعها في الجوهر أو في المبدأ..

و في مقاربةٍ إيجابيّة للعلمانيّة يمكنُ القولُ إنّها ذلك النّظامُ “الاجتماعيّ” و “التّربويُّ” و “التّعليميّ” و “الأكاديميّ” و “الأخلاقيّ” و “الإداريّ”- على وجه الحصر- الذي يمنحُ جميع الأفراد و المواطنين، حقوقَ أنْ يحيوا و يكونوا و يعملوا و يشعروا و يُحبّوا و يكرهوا، و يتعلّموا و يطمحوا، و كلّ ذلك بمعزلٍ عن “الأفضليّات” القوميّة أو العرقيّة أو الانتماءات الأخرى الدّينيّة أو الطّائفيّة.

يُضافُ إلى هذا أنّ “العلمانيّة” هي النّظامُ الدّستوريّ الأكثرُ إتاحةً لجميع المؤمنين و المتديّنين ممارسة طقوسهم و شعائرهم الدّينيّة، بحرّيّةٍ تامّة، على النّحو الذي لا تُشكّلُ فيه هذه الحرّيّة افتئاتاً على النّظام العامّ، أو إساءةً لاستراتيجيّة الدّولة العلمانيّة في فصل الدّين عن الدّولة (فصل الدّين عن السّياسة) و ما يتبع ذلك من ضروراتٍ إجرائيّة سياسيّة و إداريّة و أمنيّة و تربويّة و ثقافيّة.

30▪ و إذا كانت “العلمانيّة” هي القطع مع ثقافة الكراهيّة التّاريخيّة القائمة على أساسِ المفاهيم الخرافيّة و الكهفيّة ، التي تنتج ثقافاتٍ و مخلوقات بشريّة متوحّشة و قادرة ، على ممارسة سحق جميع براعم الإيمان بالحضارة و معطيات العلوم ..

فهي أيضاً ذلك الاعتقاد الدّافع إلى التّطبيع مع لغة العالم المتحضّر و منجزات العلم و معطيات التجربة العلميّة المتحرّرة من كلّ قيدٍ نفسيّ أو دماغيّ يجعل الاجتماع نفسه يدخل في متاهة المهمّات المستحيلة.

31▪ وحدها “العلمانيّة” تجعل للحريّة النّفسيّة دلالة أو معنى..

و هي وحدها، أيضاً، ما يجعل الحرّيّة الاجتماعيّة و الحرّيّة السّياسيّة و سائر الحرّيّات الإنسانيّة الأخرى، مشروعات قابلة للتّصوّر و التّحقّق و التّحقيق و الإنجاز، بعيداً عن القيود الشّخصيّة و الفرديّة و الجمعيّة و الأهليّة التي تجعلُ من الكائن الاجتماعيّ كائناً نكوصيّاً ، يحيى رُهاب الحاضر و المستقبل مثلما يعيشُ عُصاب الاجتماع.

و من المفهوم كيف أنّ “الحرّيّة” الشّخصيّة- في ممكناتها المتاحة تكوينيّاً و وجوديّاً- هي التي تجعلُ من “الدّيموقراطيّة” أمراً ذا مغزى..

و هذا بقدْرِ ما هي العلاقة بين “الحرّيّة” و “الدّيموقراطيّة” من جهة، و بين “العلمانيّة” من جهة أخرى ..

تُعبّر عن أقصى المعقوليّة الإنسانيّة التي تعيشُ حوافز الحضارة الإنسانيّة المعاصرة في أفضل معطياتها الواقعيّة.

32▪ و في الالتحاق بمشروع الانتماء إلى العالم المعاصر و لغاتِهِ الحيّة، دون “تَقِيّاتِ” الانغلاق و التّخلّف و التّقوقع، يتمكّنُ “المجتمع المغلق” من تجاوز عصيان الأفكار و الأدوات و الممارسات و “المؤسّسات” الاجتماعيّة، و الالتحاق بنادي المجتمعات العالميّة “المفتوحة” على مستقبل البشريّة، و المشاركة و الإسهام في التّأثير الفكري و العلميّ في إنجاز الحضارة إنجازاً غائيّاً مُدرِكاً للضّرورة و الواجب ، اللذين يضربان عميقاً في جذور السّياسة مثلما هما كذلك في جذور الثّقافة و الأخلاق.

و “المجتمع المفتوح” الذي هو من أهمّ مسؤوليّات و إنجازات “الدّولة المدنيّة”، في صيغة “المجتمع المدنيّ”، هو المكانُ الاجتماعيّ- السّياسيّ الذي تنتفي منه الحدود و التّخومُ و الأبواب المغلقة و الأسلاك الشّائكة و الألغام التّاريخيّة ، التي تفخّخ العلاقات الاجتماعيّة و تمنعها من الدّخول في طور المسؤوليّات التّاريخيّة المفروضةِ عيناً على كلّ الفاعلين.

33▪ أخيراً و بينما تخضع أشياء العالم حولنا، كلّها، للتّحوّلات التّاريخيّة و السّياسيّة العميقة، فإنّ على “الدّولة” نفسها تقع مسؤوليّة استعادة و تحسين و إبداع “نظم التّشغيل” الأساسيّة الواهبة للاستقرار و الأمان و التّقدّم، في طريق تحديد المعايير الواقعيّة و العقلانيّة للمصطلحات و المفاهيم و الكلمات و العمل و الممارسة..

تلك التي تسمح بإعادة الإعمار الشّامل للبِنى المختلفة التي يُعدّ منها ما يُسمّى بالوعي الاجتماعيّ الذي ينضاف إلى حصيلة إنجازات الدّولة، السّياسيّة..

و هكذا تقع المسؤوليّة التّاريخيّة على “الدّولة” ، أوّلاً و أخيراً، في توجيه الحقول الاجتماعيّة لتكون مندمجة في الأهداف السّياسيّة العامّة ، التي عليها أنْ تتمكّن من تجسيد “الهويّة” الفعليّة للشّعب، كهويّةٍ للشّخصيّة الواحدة و هويّة للمجتمع و الوطن و الأمّة.. و هويّة للدّولة الدّاخلة في “نظام العالم” المعاصر، نحو حاضرٍ و مستقبل كلٍّ منهما ممكنٌ و أكيد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى