المتنبي يناجي اشاوس غزة .. لكلِ امرئٍ من دهرهِ ما تَعودا

بقلم : فهد الريماوي

 

ليس غريباً على غزة ان تنتصر الاسبوع الماضي، فالنصر عادتها الدائمة، ومهنتها الخالدة، ولعبتها المفضلة، وطبعها الموروث، ودأبها التاريخي منذ قديم الزمان.

ليس جديداً على غزة ان تنتصر، فهي مدمنة انتصارات، ومحترفة ثورات، ومغرمة بالتحديات، ومولعة بالرصاص، ومستعدة لاغلى التضحيات، ومداومة ليل نهار في حلبات الفوز والغلبة والظفر وقهر المعتدين.

منذ اول ايام الاحتلال الصهيوني عام 1967، اثبتت غزة انها قلعة وليست مجرد قطاع، فقد سارعت الى امتشاق سيف المقاومة، ورفع راية الكفاح المسلح، واطلاق “لا” كبيرة وخطيرة في وجه المحتلين.

لم يرهبها جيش موشيه دايان، ولم يرعبها سقوط كل فلسطين تحت سنابك الاحتلال، ولم يفت في عضدها انهزام الجيوش العربية السريع والمريع، ولم يخطر في بالها انتظار المناطق المحتلة الاخرى في الضفة وسيناء والجولان كي تباشر اطلاق النار على الغزاة.

بعد وقت قصير من احتلال غزة، اكتشف الصهاينة انهم باتوا اسراها وليست اسيرتهم، وصاروا سجناءها وليست سجينتهم، واصبحوا رهائنها وليست رهينتهم، ووقعوا في مصيدتها بعدما توهموا انهم قد اصطادوها .. الامر الذي ارغم رئيس وزرائهم اسحق رابين على التمني بحرقة ان يصحو ذات صباح ليجد قطاع غزة قد غاص في البحر.

قبل الاحتلال، كانت غزة في عُهدة مصر، وفي رعاية جمال عبد الناصر الذي اضاف بسالته الى بسالتها، والتحم بروحه الثورية مع روحها، واطلق “كتائب الفدائيين” من بين ابنائها حيث ابلوا بلاءً باسلاً في عدوان السويس عام 1956، ثم ما لبث “ابو خالد” ان اسس، بالتعاون مع المرحوم احمد الشقيري، جيش التحرير الفلسطيني الذي كان صاحب الطلقة الاولى في مقاومة الاحتلال عام 1967.

لقد جادت غزة، خلال الخمسين سنة الماضية، بقافلة طويلة وجليلة من القادة الشهداء، ورصّعت صفحات تاريخها المجيد باسمائهم الكريمة، بدءاً من جيفارا غزة الذي أُطلق عليه لقب “حاكم غزة ليلاً”، ومروراً بشيخ المجاهدين احمد ياسين، وفتحي الشقاقي، وعبد العزيز الرنتيسي، وصلاح شحادة، وابراهيم المقادمة، واسماعيل ابو شنب، وعماد العلمي، واحمد الجعبري، والمسعفة البطلة رزان النجار وغيرهم من الشهداء الاحياء عند ربهم يُرزقون.

وكما هلل احرار العرب والعالم لحزب الله اللبناني، حين حرر الجنوب من دنس الصهاينة والجعاجعة دون قيد او شرط عام 2000.. فقد هللوا ايضاً للمقاومة الاسلامية، حين حررت قطاع غزة من عسكر ارييل شارون الذي انسحب – بل هرب – من الجحيم الغزاوي عام 2005 من طرف واحد وانفه في الرغام.

غزة اليوم، كما كل يوم، تضرب المثل في الشجاعة والصمود ورد الصاع صاعين، وتثبت ان الفئة القليلة قد غلبت الفئة الكثيرة باذن الله، وتبرهن لحكام الخنوع والتطبيع الاعاربة المتهافتين على تل ابيب، ان المقاومة هي الحل، وان السيف هو الحَكمَ، وان ما أُخذ بالقوة لا يُسترد بغير القوة.. فسحقاً لكل خائن او خائر عربي يدير ظهره لقضية فلسطين، ويستقوي على امته بامريكا واسرائيل.

الويل لحكام الاستسلام الذين ساروا بعكس بوصلة التاريخ، وارتبطوا بالمحافل الصهيونية والماسونية والامبريالية، وتحولوا – في حضرة نتنياهو – من زعماء الى عملاء، ومن قياصرة الى سماسرة، ومن رجال الى انذال، ومن مسؤولين الى متسولين.. جاهلين او متجاهلين ان لعنة فلسطين قد وصمت كل المتآمرين عليها، واوردتهم موارد القتل والهلاك، منذ نوري السعيد الى انور السادات الى بشير الجميل الى الملك فيصل آل سعود وغيرهم الكثير.

غزة الباسلة تأبى ان تُلغي فطرتها الوطنية، وترفض ان تفارق روحها الثورية، وتستجهن كل محاولات الصلح والتطبيع مع عدو لا يكف عن اذلال العرب، وتدنيس المقدسات، وتهويد فلسطين.. غزة تدرك ان في المقاومة مجدها وحياتها، وان في الاستسلام موتها وتفاقم ازماتها، وان سلاحها الحربي والبشري هو اساس الاهتمام العالمي بها، وليس العكس كما يتشدق المرجفون الذين يزعمون ان التهدئة والمسالمة والتخلص من الآلة العسكرية هي طريق التنمية والرفاهية.. وشاهدنا ما يجري في الضفة الغربية (العباسية) التي لا ارضاً حررت، ولا تنمية حققت.

مؤكد ان غزة تضيق ذرعاً بالانقسام البغيض، وتسعى جاهدة لاستعادة الوحدة الوطنية ورأب الصدع الفلسطيني.. ولكن على قاعدة النضال والنزال والمقاومة التي اثبتت نجاعتها، وليس على اساس المساومة التي اعلنت فشلها واشهرت افلاسها، بلسان محمود عباس غير مرة.

غزة لا تستطيع ان تكون الا نفسها.. فلا تستطيع ان تنكر ذاتها، او تخلف وعدها، او تخذل امتها، او تخون رسالتها، او تخرج من جلدها، او تتنازل عن ثلاثة ارباع فلسطين، او تحطّب في حبال الآخرين.. غزة بؤرة حرية سوف تفيض عزماً وحزماً على كامل فلسطين، وهي بقعة شمس سوف تشرق – مع حزب الله- في سائر الفضاءات العربية.. وليس في واقعنا الراهن البائس من بارقة امل نهضوية، او التماعة تفاؤل قومية، او علامة يُمن واستبشار، سوى محور المقاومة في بلاد الشام.

وعليه.. فلغزة في عنق كل عربي حر شريف دَينٌ معلوم، وعليه ان يسارع اليوم قبل الغد الى تسديد هذا الدين الواجب والمستحق، عبر التبرع لهذه القلعة الصامدة بما يستطيع من مال.. فغزة الكادحة والمكافحة في امس الحاجة الى الاموال، بينما تزخر بالرجال والرجال والرجال المؤمنين الذين صدقوا ما عاهدوا الله والوطن عليه، وما بدّلوا تبديلاً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى