القدس بين تحديات “اليومي” و”الوطني”

مركز مسارات - إعداد رازي نابلسي

 

بعد أن تُجهز إسرائيل على البُنى السياسيّة والمعرفيّة الفلسطينيّة، تبدأ مباشرة باستهداف الهويّة الجمعيّة التي تتأسّس عليها هذه البنى وتشكّل الحاضنة الشعبيّة لها. فالاستهداف الإسرائيليّ للفلسطينيّ يتميّز على طول الطريق والتجربة باثنين: الهدم المادّي أولًا الذي يتمثّل بالتهجير والاستيطان والضم، وهدم المؤسسات والتنظيمات والحيّز الذي يعيش فيه ومن خلاله المُجتمع؛ ومن ثم تبدأ عمليّة الهدم الرمزيّ للقيم السياسيّة والاجتماعيّة التي يتأسّس عليها المُجتمع.

ثنائيّة الهدم هذه لكلا الطرفين اللذين يشكلّان سويًا التنظيم الاجتماعيّ- السياسيّ الفلسطينيّ، والحيّز المادّي الذي يعيش ويتطوّر فيه هذا المجتمع عبر التخطيط والحصار والخنق، هما جوهر السياسة الإسرائيلية تجاه الفلسطينيّ: بعد مُحاصرة المكان وقتله، تبدأ عمليّة مُحاصرة المجتمع الذي يعيش داخله واستهدافه لتفكيكه قيميًا. ولا تتوقّف إسرائيل، نهائيًا، إلّا بعد الإجهاز كليًا على الوجود الفلسطينيّ بكافة أشكاله: المادّي الذي يغدو مُحاصرًا في معازل كجميع البلدات الفلسطينيّة في الأراضيّ المحتلة العام 1948 والضفّة والقدس، حيث يعيش الفلسطينيّ في معازل مُحاصرة إمّا بالأوتوسترادات أو المستوطنات؛ السياسيّ حيث يتم استهداف التنظيمات والمؤسسات والأشخاص بشكل دوريّ لقتل المُنتج الأساسيّ للهويّة الوطنيّة؛ ومن ثم تبدأ إسرائيل ببث الآفات في المجتمع لتفكيكه وإعادته إلى مربّع العائليّة والطائفية كبديل للتنظيم السياسيّ على طريق الأسرلة.

في الوقت الذي شكّلت هذه المراحل من الاستهداف، الأساس طيلة 70 عامًا من الاستهداف للفلسطينيين في الأراضيّ المحتلة العام 1948 بدأت بعد المرحلة الأولى التي هُجِّرَ خلالها الفلسطينينيون وهُدمت البنى الماديّة وضُمت الأرض قانونيًا إلى دولة اليهود. فإنّها تعمل كمنظومة واحدة وفي ذات الوقت في القدس بعد أن نجحت إلى حد ما في أراضيّ 1948 وفق ذات النموذج: حصار مادّي يعزل الأحياء المقدسيّة الفلسطينيّة عن بعضها عبر المستوطنات والطرق الرئيسيّة الحديثة ليخلقها كفضاء معزول غير متواصل ومُحاصر؛ يتم تهميش هذه الأحياء بصورة مستمرة ومتواصلة مع منع الفصائل والبنى السياسية الفلسطينيّة من النشاط داخلها، ومن ثم تبدأ السياسة الإسرائيليّة: آفات اجتماعيّة ومن ثم طرح الأسرلة كطريق للخروج. وبكلمات أخرى: في الوقت الذي هجّرت إسرائيل، ثم ضمّت، وبعدها استهدفت الهويّة وشوّهتها، فإنها تقوم بهذا كلّه بالتوازي في القدس. فتهجّر وتستوطن وتستهدف الهويّة وتشوّهها في آن واحد، وبمنظومة سيطرة متعدّدة الأذرع.  ومن هذا المبدأ، يجب قراءة كُل ما تقدّمه إسرائيل للقدس، على أنّه مرحلة جديدة في مسيرة استهداف المدينة والهويّة الفلسطينيّة فيها.

وفي هذا السياق، يغدو اعتقال مسؤول بالمخابرات الفلسطينيّة ومحافظ القدس، والشبّان الذي تصدّوا لتسريب المنازل للمستوطنين، وأيضًا تطرّق رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو للموضوع في خطابه بالأمم المتحدة، خطّة إسرائيليّة ممنهجة ليس الهدف منها الاعتقال أو العقاب، إنّما ضرب وتهديد الإجماع الشعبيّ حول تسريب البيوت للمستوطنين، وهو ما يشكّل أحد أهم ركائز الهويّة المقدسيّة الفلسطينيّة.

ستعمل هذه الورقة على رصد السياسات الصهيونيّة لاستهداف الهويّة المقدسيّة والنسيج الاجتماعيّ- السياسيّ. وستحاول رصد المخطّطات الصهيونيّة التي تهدف إلى تفكيك الإجماع المقدسيّ السياسيّ على رفض السيادة الصهيونيّة في المدينة. وترى الورقة في هذه السياسات أساسًا تحاول من خلاله الصهيونيّة تفكيك الوعيّ المقدسيّ العميق الذي تتشكّل البنى والحراك السياسيّ عليه، وتنطلق منه كأساس لمُقاومة التهويد والاستيطان والتهجير، إذ ترى في الوعيّ السياسيّ المقدسيّ الأساس والمربّع الأول الذي منه تنطلق المُقاومة الشعبية، وعلى أساسه تنظّم الجماهير وتستمر في مُقاومة الاستعمار. لذلك، ترى الورقة في السياسات الإسرائيليّة هذه، المُستهدفة للوعيّ، غاية في الخطورة، خاصة إذا ما نظرنا إليها على أنّها عميقة التأثير في المدى البعيد.

إسرائيل: مبدأ التجريب في فلسطين

تسخّر إسرائيل الدراسات والتجارب الاستعماريّة، ونظريات وتجارب السيطرة على الشعوب لتطبّقها في فلسطين، مع الأخذ بعين الاعتبار خصوصيّة فلسطين وإضافة الشرط الفلسطينيّ، لذلك مثلًا فإن إسرائيل تطبّق بعضًا من نموذج الأبارتهايد دون أن يكون النموذج الوحيد، ونموذج الولايات المتحدّة دون أن تستكمله بمرحلة واحدة، ونموذج استعمار كلاسيكيّ دون أن يكون الوحيد، ونموذج استعباد وتبعية اقتصاديّة يصاحبها في ذات الوقت إقصاء ودمج، وفي موقع آخر احتلال ولكنّه غير مؤقت … إلخ من النماذج التي تراعي التجارب الدوليّة ولكنّها تُطبّق على خصوصيّة فلسطين. ولذلك، لا يمكن حصر إسرائيل مثلًا في نموذج واحد، ولا يمكن أيضًا إسقاط أي من النماذج عنها. ومن هذا المبدأ أيضًا، لا يُمكن إسقاط التجربة الفلسطينيّة ذاتها التي تُطبّق ويتم تعميمها على مناطق أخرى في أزمنة أخرى. فمثلًا، لا يمكن غض النظر وعدم ملاحظة أن ذات النموذج الذي استوطنت فيه إسرائيل قبل النكبة في أراضيّ 1948، هو ذاته من حيث التخطيط والمشروع يتم في الضفّة في العام 2018. وبالمُجمل، فإن إسرائيل تستفيد من العالم، وتجرّب في منطقة محدّدة، ومن ثم تعمّم على مناطق أخرى.

وفي هذا السياق، فإن القدس بين اثنتين: نظرة إسرائيل إليها باعتبارها مدينة ضمن القدس الكبرى، وبالتاليّ وجب التعامل معها ضمن السياسة العامّة المتّبعة في الأراضيّ المُحتلة العام 1948 التي تتميّز بالتجهيل ونشر العنف واستهداف الهويّة؛ وفي ذات الوقت، حقيقة أنّها مدينة مُحتلة في العام 1967 وسكّانها يرتبطون سياسيًا بمنظّمة التحرير خارج إطار المواطنة كإطار صراع في أراضيّ 1948، ولا يزال المشروع الاستيطانيّ فيها قائمًا على نمط الضفّة الغربيّة، كما أنّ ارتباطها الاجتماعيّ لا يزال أقرب إلى الضفّة منه إلى الداخل. هذه الخصوصيّة مميّزة لمدينة القدس: ارتباطها السياسيّ مع الحالة الفلسطينيّة، والإداريّ مع الحالة الصهيونيّة التي ضمّت المدينة قانونيًا. ولذلك، فإن سياسات الاستهداف الصهيونيّة، هي الأخرى تتداخل وتتابع: سياسات الفصل المادّي والتهجير، وسياسات استهداف الهويّة والمجتمع. ولذلك، وسط التهجير وخلاله تظهر خطّة إسرائيليّة تهدف إلى “تشجيع الأسرلة في صفوف مواطني شرقيّ القدس”[1]، وتقوم الحكومة الإسرائيليّة برصد مبلغ 2 مليار شيكل خصيصًا لذلك. وفي ذات الوقت، يستطيع المقدسيّ الحصول على الجنسية الإسرائيليّة مباشرة، في حال خروجه من القدس إلى مدن الداخل كحيفا ويافا وغيرها في أراضيّ 48.

إن سبب هذا الواقع المركّب جدًا في القدس، هو نظرة الجهة الأقوى، وهي إسرائيل إلى القدس ومستقبلها:  أولًا، لا تملك إسرائيل رؤية يقينيّة بالنسبة لمستقبل القدس الشرقيّة، فهي ترى أنّها جزء من القدس الكُبرى، وتؤكّد على وحدتها على مستوى التصريح السياسيّ، ولكنّها في ذات الوقت تعي جيدًا أنّها ستضطر للتنازل عن السيادة في بعض أحياء شرق القدس في حال حصول اتفاق مستقبليّ، وبالتاليّ تنظر إلى الأحياء باعتبارها مؤقتة من حيث المسؤوليّة على ظرف السكّان. وفي ذات الوقت، لا تزال إسرائيل ترى في القدس حلقة جغرافيّة تربط مستوطنات غلاف القدس بالمدينة الكُبرى، وبالتاليّ فإن وحدتها تشكّل وحدة كتلة استيطانيّة تترابط من خلال القدس ذاتها. هذا طبعًا بالإضافة إلى أن إسرائيل ترى أن مشروعها الاستيطانيّ لا يزال غير مُكتمل وهي تُعلن وتستوطن وتخلق من جديد مع كل يوم، واقعًا جديدًا يؤثّر على اليوم الذي يأتي بعده.

هذا الواقع المُتداخل للمشروع الاستعماريّ في القدس يخلق بالموازاة سياسات مُتداخلة: تستوطن وتهوّد وتربط مشاريع استيطانيّة ببعضها عبر طرق وبناء استيطانيّ؛ وتستهدف الهويّة بهدف السيطرة بعيدة المدى على الوعيّ؛ وتقتل الامتداد الاجتماعيّ- السياسيّ مع الضفة على اعتبار أنّها مركز الثقل السياسي الفلسطينيّ.

مرحلة جديدة دخلت حيّز التنفيذ

على ما يبدو، فإن إسرائيل بخارطتها السياسيّة يمينها ويسارها، بدأت تبحث في السنوات الخمس الأخيرة عن آليات جديدة تستهدف هويّة المجتمع الفلسطينيّ في القدس، وتستكمل فيها سيطرتها على المدينة، وتحديدًا على المُجتمع الفلسطينيّ في المدينة. فالمعركة التي تُنذر المخطّطات الإسرائيليّة جميعها ببدايتها هي المعركة على الوعيّ والرفض المقدسيّ للانخراط في دوّامة “الحقوق المدنيّة” ذاتها التي دخلها الفلسطينيّون في الأراضيّ المحتلة العام 1948 ولا يزالون حتّى اليوم يُحاولون الخروج منها أو تخطّيها دون أي جدوى. ولعل هذا هو السبب الأساسيّ والمركزيّ وراء احتفاء الإعلام الإسرائيليّ الليبراليّ بالقائمة الفلسطينيّة التي أرادت الانخراط في الانتخابات البلديّة، بقيادة المقدسيّ عزيز أبو سارة الذي انسحب لاحقًا بقائمته بعد ضغوطات كثيرة مارسها أهاليّ القدس عليه لعدم كسر الإجماع حول مقاطعة انتخابات بلديّة الاحتلال.

ولكن المثير للاهتمام أكثر من ترشّح قائمة وانسحابها، تعاطي النخب الليبراليّة الإسرائيليّة مع هذا الترشّح. إذ في الوقت الذي التف فيه حول القائمة بعض من شخصيات “اليسار” في إسرائيل، تجنّدت صحيفة “هآرتس” مباشرة للترويج للقائمة كسابقة وكحق لسكّان القدس في تحقيق مطالبهم من البلديّة التي تهمّش حقوقهم. أمّا الجامعة العبريّة فسبقت الصحيفة باستطلاع رأي يشير إلى أن 60% من سكّان شرقيّ القدس يدعمون الترشّح في انتخابات البلديّة. والمُثير ليس الاستطلاع، بقدر السؤال الذي طرحته الجامعة في استطلاعها: “هناك من يدّعي أنه لتحصيل الحقوق، يتوجّب على أهالي القدس أن يدعموا ممثلّين عنهم في الانتخابات البلديّة، هل توافق ؟”.[2] هذا باعتبار أن القدس مدينة طبيعيّة، وليست مدينة مُحتلة وفق كُل القوانين الدوليّة.

بالنسبة إلى هذه النخب الليبراليّة، والإسرائيليّ عمومًا، فإن خلق سؤال الحقوق مقابل المشاركة، يعد إنجازًا بحد ذاته. وبكلمات أخرى: أن يتحوّل الحق المدنيّ إلى محل مساومة على ثوابت وطنيّة، فهذا هو الإنجاز الإسرائيليّ الأكبر الذي يُمكن تحقيقه في هذه المرحلة تحديدًا. وبعدها، ستبدأ عمليّة المُساومة التي إن بدأت فلا يُمكن إيقافها: ميزانيّات مقابل ولاء؛ أحياء هادئة تحصل على حقوق مقابل أحياء إشكاليّة لا تحصل على شيء كالأحياء التي تعيش حالة صدام مع المؤسسة مقابل أحياء تخدم مصلحة المؤسسة … ودوّامة لا تنتهي من المساومة على ثوابت وطنيّة لتحصيل حقوق مدنيّة هي ليست منّة من أحد.

في المقابل، بدأت أبواق كثيرة حكوميّة وأخرى غير حكوميّة ومنذ ثلاثة أعوام تقريبًا، أي بعد عام واحد من اندلاع المواجهات إثر اختطاف الفتى محمد أبو خضير وحرقه، بالترويج لدمج أحياء شرق القدس في المدينة الواحدة، وكان أبرز هذه الأصوات رئيس الدولة رؤوفين رفلين الذي قال “أجيال ضائعة عاشت في شرق المدينة، قريبة هي الأيّام التي ستضمن التغيير، لضمان عدم ضياع الأجيال الجديدة”.[3] هذا بالإضافة إلى موشيه أرنس، وزير الأمن الإسرائيليّ السابق، الذي كتب مقالين داعيًا إلى إعادة دمج الأحياء شرقيّ القدس بالمدينة الكبرى، ومركز أبحاث الأمن القوميّ الذي أصدر خطّة توصي بالاستثمار بأحياء شرقيّ القدس لخلق ظروف حياة مُختلفة تضمن الهدوء السياسيّ.[4] هذه المقالات والمُبادرات تشترك جميعها في اثنين: التوقيت كان بعد موجة العمليّات الفرديّة والمواجهات إثر استشهاد أبو خضير؛ الهدف منها جميعها كان خلق واقع “مدنيّ” يعزل القضيّة السياسيّة ويخلق قضيّة القدس كتهميش وليس احتلال.

الخطّة الحكوميّة: التعليم طريق الأمن

صادقت الحكومة الإسرائيليّة، منتصف العام الحاليّ 2018، على خطّة خُماسيّة في القدس رُصد لها مبلغ 2 مليار شيكل. والهدف الأساسيّ من الخطّة “تشجيع الأسرلة” من خلال التعليم. وهذا ما يلتقي مع توجّه ريفلين حين قال “ضمان عدم خسارة الأجيال القادمة”. وتهدف الخطّة أساسًا وبالمُجمل إلى استهداف قطاع التعليم في القدس، وتشجيع المقدسيين على الانتقال إلى تعلّم المنهاج التعليميّ الإسرائيليّ بهدف تعزيز الأسرلة، ويُرصد لهذا الهدف تحديدًا 68.7 مليون شيكل لدعم المدارس التي تنتقل إلى المنهاج الإسرائيليّ بدلًا من التوجيهيّ الفلسطينيّ، ومبلغ 57.4 مليون شيكل لتطوير هذه المدارس وترميمها، و67 مليون شيكل لاستئجار وبناء مبانٍ جديدة، بالإضافة إلى 17 مليون شيكل لتعليم اللغة العبريّة.[5] وهذا كلّه، يأتي في سياق إعلان وزارة المعارف الإسرائيليّة، أنّها لن تقوم بتمويل المؤسسات التعليميّة التي لا تتبنّى المنهاج التعليميّ الإسرائيليّ في القدس.[6]

بكلمات أخرى: ربط ميزانيّات التعليم مرتبطة بالانخراط في المنهاج الإسرائيليّ. وهو المنهاج ذاته الذي أعلن المقدسيّون الإضراب الشامل للتخلّص منه بعد احتلال القدس الشرقيّة العام 1967. وهنا تحديدًا يلتقي هذا التوجّه مع التوجّه الآخر في مجال تسريب المنازل للمستوطنين في القدس ويشترك في كلاهما أمر واحد: كسر الإجماع الشعبيّ حول مقاطعة إسرائيل وجميع إفرازاتها.

لم تكن هذه الخطّة الأولى، فسبقتها في العام 2014 خطّة تحت عنوان “تعزيز الأمن الفرديّ والتطوير الاقتصاديّ”. وكان الهدف منها أساسًا تعزيز الأمن الفرديّ للوصول وتطوير لوجيستي للوصول إلى أمن جماعيّ إسرائيليّ وتخفيف حدّة التوتّر السياسيّ. إلّا أن الفرق ما بين الماضي والحاضر، بين خطّة 2014 وخطّة 2018 واضح، ويدلّل من جديد على تغيّر في التوجّه الإسرائيليّ لاستهداف القدس: في الوقت الذي كانت تعتقد إسرائيل أن الأمن هو الطريق إلى الأمان، باتت اليوم تغيّر المنهج نحو الأسرلة بالقوّة. وهذا ما يؤكده نير حسون، المحلّل السياسيّ في صحيفة “هآرتس” لشؤون القدس، إذ يقول إن الخطّة الحديثة تدلّل على تغيّر في التوجّه نحو تعزيز الأسرلة بالقوّة من خلال التعليم.[7]

وفي الحقيقة فإن هذا التوجّه أخطر من السابق لأسباب عدة، أهمها: أولًا، أن هذا النهج الجديد يهدف إلى إجراء تعديل قاعديّ في الوعي الجماهيريّ؛ وثانيًا لأن هذا النهج الجديد يتسق مع القديم من حيث الأهداف، إلّا أنه مُغلّف بقضيّة مدنيّة تعليميّة وخدميّة. وهذا ما يجعل الخطّة أخطر كونها لا تصطدم مباشرة بالمقدسي في ملف الأمن، إنّما تبتعد بطرق ناعمة للوصول إلى ذات النتائج وربما أكثر كارثيّة. وإذا ما أضفنا إلى هذه المعلومات جميعًا حقيقة أن هذه الخطط جميعها، لا تتطرّق للأحياء المقدسية خارج الجدار ككفرعقب ومخيّم شعفاط، فإننا أمام بداية إسرائيليّة للتعامل مع القدس والمقدسيين كمدينة مضمومة غير قابلة للنقاش أو التقسيم، يشكّل الجدار الفاصل حدودها الجغرافيّة، وهذا تحوّل عن التوجّه القديم حيث القدس موجودة تحت السيادة الإسرائيليّة حتّى الحل النهائيّ، حيث من الممكن أن تتحوّل هذه الأحياء خارج الجدار للسُلطة الفلسطينيّة.

لا يمكن النظر إلى المنهاج الإسرائيليّ باعتباره قضيّة تعليميّة. فالمنهاج التعليميّ هو جزء لا يتجزأ، والأدق هو جزء مركزي من منظومات السيطرة الصهيونيّة التي يتم من خلالها: أولًا، صياغة القوميّة والمجتمع الصهيونيّ وصهره، وهي المرحلة المبكّرة قبل الصهر المركزيّ والأساسيّ في الجيش؛ وثانيًا، يتم من خلالها قتل واغتصاب الرواية الفلسطينيّة والتاريخيّة عبر المواضيع المُختلفة، كتاريخ اليهود الذي يتم من خلاله التركيز على دوافع إقامة دولة اليهود، والاضطهاد الذي مر على الشعب اليهوديّ باعتبار الدولة خلاص، والمدنيات التي تطرح الدولة وتربّي عليها كدولة ديمقراطيّة، هذا بالإضافة إلى اللغة، والعديد العديد من الفعّاليات غير المنهجيّة المقرّة في المنهاج، كالعلاقة مع الشرطة وأجهزة الأمن الصهيونيّة التي يتم عرضها في المنهاج على أنّها حامية الدولة والمواطن.

وبكلمات أخرى: المنهاج يشمل: الأمن؛ الدولة؛ العلاقة مع الدولة؛ المواطنة؛ الحدود والرواية التاريخيّة. وهذا تحديدًا ما تسعى إليه إسرائيل في القُدس: تبديل المفاهيم والرواية لتلائم الطموح الاستعماريّة. هذا طبعًا كلّه، قبل التطرّق إلى الإشكاليّات في طرح إسرائيل من خلال المنهاج على أنّها “دولة طبيعيّة” فيها حقوق وواجبات… ودون التطرّق كليًا إلى السياق الاستعماريّ الذي تتنفّس من خلاله هذه الدولة، وكيف أن التهميش فيها ليس أزمة حق وواجب، إنّما جوهر استعماريّ وعنصري. هذه الإشكاليّات جميعها، بالإضافة إلى التجهيل الممنهج تعيش وتتنفّس داخل وفي جوهر المنهاج التعليميّ الإسرائيليّ.

المرحلة الجديدة والرفض المقدسيّ: فرصة الإفشال القائمة

هذه المخطّطات الإسرائيليّة، تستهدف الهويّة والأرض والبلد. فمثلًا في الوقت الذي صادقت فيه الحكومة الإسرائيليّة على 2 مليار شيكل للتعليم والترميم، قرّرت تحويل مبلغ 47 مليون شيكل لتمويل الحفريات الأثريّة في منطقة سلوان، وهي الحفريّات التي تلعب إسرائيل في نتائجها لإبراز البُعد التاريخيّ التهويديّ للمدينة، وخاصة سلوان المطلّة على المسجد الأقصى وإحدى حلقاته الضروريّة. وبالإضافة إلى هذا كلّه، رصدت الحكومة مبلغ 350 مليون شيكل لتشجيع البلدة القديمة وترميمها بهدف البدء في إقامة نشاطات فيها تبدأ من الثقافة حتّى التاريخ. وهذه النشاطات المموّلة إسرائيليًا للبلدة القديمة، لا تتعدى كونها نشاطات تطبيعيّة بغطاء ثقافيّ، تهدف إلى التسليم بحقيقة أن القدس بإرثها وتاريخها إسرائيليّة يُمكن البناء عليها ثقافيًا لتشجيع التعدّد الثقافيّ الإسرائيليّ. هذا، مع المُخطّطات السابقة جميعها، يُشير إلى واحد: إسرائيل بدأت تتعامل مع القدس “الشرقيّة” وفق منطق حيفا ويافا والناصرة. وهذا كارثيّ، خاصة أن المطلوب فلسطينيًا تقريب حيفا ويافا والناصرة إلى القدس في مستوى رفض التطبيع الصهيونيّ، وليس العكس. العكس الذي تسعى إليه إسرائيل.

هذا ليس مُسلمًّا به، فهذه هي المخطّطات الإسرائيليّة، ولكن إفشالها لا يزال في نطاق المُمكن جدًا، خاصة أن المدينة مع كُل السياسات الإسرائيليّة والمُخططات الهادفة إلى تصفيتها لا تزال عصيّة على الاستعمار. فمع الانتخابات المحليّة لبلديّة الاحتلال لم يشارك أكثر من 2%[8] من المقدسيين في الانتخابات، ولا تزال نسبة الفلسطينيين الذين يتجهون للمنهاج الإسرائيليّ، لا تتعدى 7% من مُجمل الطلّاب الفلسطينيين في القدس.[9]

وهذا طبعًا يُضاف إليه قدرة المقدسيين على إفشال المُخطّط الأخير لتقسيم المسجد الأقصى زمانيًا ومكانيًا، ووضع كاميرات مراقبة وبوّابات إلكترونيّة على مداخله. وهو ما يضعنا أمام مُجتمع واعٍ يُمكن البناء عليه لإفشال المُخططات الصهيونيّة، حيث لم يصل هذا المجتمع بعد إلى الموقع الذي تُريده إسرائيل أن يكون فيه، ولم يصل إلى حد الحاجة إلى الترميم، بل منع التدهور والتجاوب مع المُخططات الصهيونيّة هو الهدف الذي يجب أن يكون الهدف المُلح الآن للصراع المُستمر في القدس منذ احتلالها وقبل ذلك حتّى. ومنع التدهور هذا، يحتاج أولًا وقبل كل شيء إلى إرادة فلسطينية عامّة وخطّة شاملة وموارد كافية، غير محصورة في القدس، بل تقوم على الكُل الفلسطينيّ لتمكين المقدسيّ اقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا، قبل أن تغدو عمليّة التمكين المدنيّ والاجتماعيّ، منوطة بالتطبيع مع المؤسسة الإسرائيليّة والمقايضة بالقضايا القوميّة.

يشكّل الداخل أيضًا نموذجًا على عمليّة المقايضة هذه التي تمتاز إسرائيل فيها، فالآفات الاجتماعيّة كالمُخدرات والعنف تُصبح بعد فترة وجيزة طريق الشُرطة إلى الحيّز المدنيّ. فالشرطة التي تكون مكروهة وملعونة في المجتمع، تغدو بعد فترة من انعدام الأمن بسبب المخدّرات والعنف مطلبًا جماهيريًّا لحل الآفة الاجتماعيّة. والتعليم الإسرائيليّ يغدو مطلبًا أيضًا مع ارتفاع أقساط التعليم الخاص وتهميش مدارسة الوكالة وعدم تحمّل كلفة التعليم خارج المدينة، أمّا الانتخابات فتغدو هي الأخرى مطلبًا ملحًا مع انهيار الإطار السياسيّ الذي يُنظّم حياة الناس كخطاب “انتخابات في القدس إن أمكن”. ومع هذا كلّه، فإن القدس حتّى الآن ليست هناك، على الرغم من أن انتشار المخدرات والعنف المُجتمعي في الأعوام الأخيرة برعاية الاحتلال، تُنذر إن لم يكن هناك تدخّل سريع جدًا، بالتوجّه إلى حالة تفكّك اجتماعيّ ستستفيد منها أولًا وآخرًا إسرائيل.[10] وللحقيقة، فإن هذه العوامل كلّها تتكامل سويًا ليسير المُخطّط الإسرائيليّ على النحو التاليّ: استيطان ومُصادرة عقارات ما يخلق أحياء مُحاصرة جغرافيًا؛ تنتشر فيها الآفات الاجتماعيّة والفقر؛ العائلات ميسورة الحال تخرج من هذه الأحياء؛ تتحوّل الأحياء إلى غيتوهات ينهشها الفقر والجهل؛ تستنجد بالقويّ الذي هو إسرائيل… فتقايض إسرائيل هذا كلّه بالأسرلة دون أن تحلّه أيضًا، فتصبح الأسرلة غير الممكنة في دولة اليهود، دوّامة غير قابلة حتّى هي للتحقيق.

القدس: أزمة الوحدة

تستهدف إسرائيل أولًا الآخر لتهميشه وإلغاء وجوده ككيان سياسيّ، ومن ثم تخلق الفراغ مكانه ليتطوّر عشوائيًا فتغض النظر عن آفات الفراغ، ومن ثم تطرح ذاتها كمخرج طوارئ من كُل مظاهر أزمة الفراغ السياسيّ والتنظيميّ التي خلقتها بسياساتها الاستعماريّة الاستيطانية. وهذا تحديدًا ما تحاول القيام به في القدس، وبما أن الحديث لا يزال يدور عن مخطّطات استهداف، فإن عدم السماح بخلق الفراغ يُعد كعلاج السرطان في وقت مبكّر. فأن تكون المدينة وحيدة، هو عنوان هذا الفراغ ودلالته الأساسيّة وعلى جميع الأصعدة: الثقافيّة والسياسية- الاجتماعيّة والاقتصادية. ومن هذا الباب، فإن الحل الأساسيّ لأزمة الفراغ الذي يمكن أن تكون مقدّمة لحالة أسرلة كاملة هو عدم ترك المدينة وحيدة ولا بأي شكل من الأشكال: الالتفاف الاقتصاديّ يمنع الترويج للمشاريع التطبيعيّة الاقتصادية الإسرائيليّة؛ الالتفاف والتكثيف الثقافيّ يمنع دخول الآفات الاجتماعيّة التي تتحوّل لاحقًا إلى أزمة يُطلب من شرطة إسرائيل؛ الطرق الأقوى في مُعادلة احتكار القوّة؛ الحفاظ على الارتباط السياسيّ الفلسطينيّ يمنع استهداف الهويّة المقدسيّة… كما أن الالتفاف الاجتماعيّ المصحوب بوعيّ سياسيّ ثقافيّ يمنع عمليّة التفكّك الاجتماعيّ إلى المربّع الأول العائليّ والمناطقيّ الذي تعيش عليه إسرائيل على حساب الهويّة الجامعة السياسيّة التي تستهدفها، الذي يأتي على حساب وحدة القضيّة التي تفضي إلى التصدّي للمُخططات، وعلى رأسها التهويد والاستيطان والتهجير.

وبالتاليّ، فإن القدس وفي هذه المرحلة تحديدًا، حيث تدخل إسرائيل مرحلة جديدة من الاستهداف، تحتاج إلى الالتفاف أولًا قبل كُل شيء. وبما أن هذا التقدير لا يُغفل حقيقة الأزمة السياسية التي تعيشها الحالة الفلسطينيّة الرسميّة، وعدم وجود الإرادة السياسية لديها، فإن التوصية لا تقتصر على الرسميّ الفلسطينيّ بالقدر الذي تتوجّه فيه إلى الكُل في فلسطين: القواعد والنخب والسياسة الرسميّة. وفي القدس، كُل فعل مطلوب وكُل فعل مهما كان بسيطًا فإنه يُلغي بعضًا من حيّز الفراغ الذي تُحاول إسرائيل خلقه، والاستثمار بكُل ما سيحويه الفراغ من مظاهر هي في جوهرها تعبير عن غياب وفراغ سياسيّ. وبناء على ذلك تقدّم هذه الورقة بعض التوصيات المبنية على التحليل السابق والمُعطيات:

  • خلق مرجعيّة سياسيّة واحدة في القدس، تكون هي العنوان والثقة في المُجتمع وتتشكّل من جميع الأطراف الفاعلة والمؤثّرة في المدينة وتتمثّل فيها كافة المرجعيات المفتّتة في القدس: الدينيّة والفصائليّة والاجتماعيّة والنخب الاقتصاديّة. والالتفاف حول هذه المرجعيّة ودعمها سياسيّا فلسطينيًا، وتوفير كافة الموارد والشرعيّة اللازمة لها لقيادة المدينة والصراع فيها وعليها. وهذا يُعد المطلب الأكثر إلحاحًا، لتقوم هذه المرجعيّة بعدها بوضع خطّة إستراتيجيّة للتصدّي لهذه المخاطر بالمشاركة مع الكُل الفلسطينيّ، والاستفادة من الموارد الموجودة والكامنة في الشعب الفلسطينيّ، خاصة أن القدس قضيّة محل إجماع على كافة التجمّعات والفصائل الفلسطينيّة.
  • ضرورة الالتفاف حول المدارس التي رفضت الالتحاق بالمنهاج الإسرائيليّ رغم المُغريات المادّية، والتطوّع فيها، والضغط على المدارس الخاصّة لتخفيف أقساط التعليم فيها، ما يمنح فئات وشرائح أكبر من المقدسيين الإمكانية للالتحاق بها حيث مستوى التعليم العاليّ مقارنة بالمنهاج الإسرائيليّ والمدارس الإسرائيليّة الحكوميّة. هذا بالإضافة إلى توفير الدعم الكافي للمدارس الفلسطينيّة في القدس من قبل وزارة التعليم والجهات الأخرى؛ لتتطوّر وتستطيع مجاراة المدارس التي التحقت بالمنهاج الإسرائيليّ.
  • تعزيز ودعم الحراك الثقافيّ والاجتماعيّ في القدس لإفراز قيادات مقدسية تستطيع قيادة المدينة في هذه الظروف المركّبة، التي يغدو الاستهداف فيها بطرق غير مباشرة وأكثر خطورة. هذا بالإضافة إلى أهميّة الثقافة كنقيض للجهل والآفات الاجتماعيّة. كما أن الحراك الثقافيّ يخلق بيئة اجتماعيّة صحيّة للمدينة وسكّانها، ويجعلهم أكثر تماسكًا ومناعة أمام المخطّطات الصهيونيّة.
  • تعزيز الروابط الاجتماعيّة بين المقدسيين، وعدم السماح بتهديد السلم الأهلي الذي يقود لاحقًا إلى أزمة عنف مجتمعيّ داخليّ تقود إلى عمليّة تفكك تدريجيّ للمجتمع، تعمل إسرائيل على استغلاله، والعمل من خلاله لتمرير مخطّطاتها. وهذا يتم من خلال المرجعيّة السياسيّة- الاجتماعيّة الواحدة، التي إن اتفق عليها، من شأنها أن تكون الحكم في الخلافات الداخليّة وتمنع تطوّرها.
  • اتخاذ إجراءات رادعة لتجّار المُخدّرات تكون حاسمة على عدّة أصعدة: اجتماعيّة واقتصاديّة وحتّى العزل الاجتماعي الكلّي لكُل من يروّج لتعاطي المخدّرات أو الاتجار بها.

الهوامش

[1] نير حسون، “الحكومة خصّصت مبلغ 2 مليار شيكل لتشجيع أسرلة سكّان شرقيّ القدس”، صحيفة “هآرتس”، 13/5/2018.

[2] نير حسون، “60% من سكّان شرق القدس يدعمون مشاركة الفلسطينيين في الانتخابات البلدية”، صحيفة “هآرتس”، 14/2/2018

[3] انظر: “سويًا نبادر للتغيير في شرق القدس”، صندوق جوينت الإسرائيليّ للتغيير المجتمعيّ.

[4] انظر: “بين الآراء والسياسات: مستقبل القدس”، مركز أبحاث الأمن القوميّ

[5] “القدس: مليارات في شرق المدينة”، موقع قناة الأخبار الإسرائيليّة الثانية.

[6] انظر: “وزارة المعارف ستستثمر فقط في المدارس التي تتبنّى المنهاج التعليميّ الإسرائيليّ”، صحيفة “هآرتس”.

[7] انظر: نير حسون، “الخطّة لأسرلة القدس: الأمن لم يعد الأول في سلّم الأولويّات”.

[9] انظر: نير حسون، “الخطّة الخماسية في شرق القدس: استثمار في التعليم أم تعليم من جديد؟”، ، صحيفة “هآرتس”.

[10] انظر مثلًا: ميرفت عوف، “المخدّرات في القدس: الظاهرة التي خلقتها وترعاها دولة الاحتلال”، موقع ساسة بوست، 7/9/2015

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى