اصدار جديد.. تاريخ الجزيرة العربيّة وثقافتها
يأتي كتاب “تاريخ الجزيرة العربية وثقافتها في ضوء كتب الرحلات الهندية” الصادر عن مؤسّسة الفكر العربي، ضمن برنامج حضارة واحدة، ثمرة الجهود الجماعية التي بذلها عددٌ من الأساتذة الجامعيين والباحثين والمحقِّقين، وذلك بهدف الوقوف على تاريخ شبه الجزيرة العربية وثقافتها، من خلال قراءة مذكّرات رحلات الحجّ التي دوّنها الحجّاج الهنود باللغة العربية والفارسية والأردية على مدى قرون. والكتاب هو من تحقيق الدكتور أختر الواسع، وترجمة الدكتور صهيب عالِم.
تُعدّ مذكّرات رحلات الحج وثيقة مَبنيّة على تجارب الحجّاج ومشاهداتهم وانطباعاتهم ومشاعرهم الشخصية الخالصة، لذا تعميمها قد يؤدّي في بعض الأحيان إلى سوء الفهم أيضاً. يعتمد هذا النوع من المذكّرات على ميول شخصية لمؤلّفيها وعلى معلومات تاريخية وجغرافية واجتماعية وسياسية، فضلاً عن المعلومات المتعلّقة بالتقاليد والعادات والعقائد وغيرها، والتي تُمكِّن طلاب العلوم الاجتماعية من أن يرسموا صورة لأيّ مجتمع من المجتمعات.
لا شك أنّ منطقة الحجاز قد حظيت ولا تزال تحظى بزيارة الحجّاج الكرام من أنحاء العالم كافة، وبأعداد تتزايد سنوياً وتتجاوز حالياً الملايين، ومن بين الزوّار عددٌ كبير من الشعراء والأدباء والمؤلّفين الذين دوّنوا آنذاك خبراتهم ومشاهداتهم خلال رحلة الحجّ. وعلى الرغم من أن هذه المشاهدات والخبرات تحمل طابعاً شخصياً، إلّا أنّها ذات قيمة تاريخية كبيرة؛ فهي تفيدنا بأوضاع ذلك العصر، ووسائل السفر ومشاكلاته، وأماكن الإقامة خلال الرحلات، وأحوال أهل مكّة المكرّمة وجدّة والطائف والمدينة المنوّرة. وفي كثير من الأحيان يهدف مؤلّفو هذه المذكرات الخاصّة برحلات الحجّ، إلى تقديم معلومات وإرشادات عن كيفية أداء أركان الحجّ لمَن يريد تأدية هذه المناسك، لكنها تحمل في طيّاتها معلومات وافرة عن الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية السائدة في الأماكن والبلدان والمدن التي بدأ منها الحاج رحلته، والأماكن التي مرّ بها في طريقه إلى مكّة المكرّمة وغيرها من الأماكن المقدّسة، ثم ما رأى فيها من عادات وتقاليد وطبائع أناس ذلك العصر.
لا بدّ من التذكير بالأهمّية التي حظي بها أدب الرحلات في الماضي، عندما لم تكن الوسائل الحديثة مُتاحة، ولم تكن المعارف البشرية متطوّرة، إذ كان الناس يعتمدون على هذا الأدب للاطّلاع على المعلومات والوقائع التاريخية والعادات الاجتماعية والتقاليد الحضارية والأنشطة الثقافية، ومن أجل الكشف عن بعض ما يعتري التاريخ من غموض، يرجع المؤرّخون إلى يومنا هذا، إلى ما وضعه التجّار والسوّاح من كُتب ومذكّرات ومخطوطات بلغاتٍ مختلفة؛ إذ لا تخلو أمّة من الأمم من مساهمة معيّنة في وضع كتب الرحلات.
تملك الهند مثل الأمم الأخرى تاريخاً حافلاً بوجود عدد كبيرٍ من كتب الرحلات بلغاتها المختلفة، لكن في ما يخصّ تاريخ مذكّرات رحلات الحجّ في الهند، فهو قديم جداً، وقد كتب علماؤها ومحدّثوها وشعراؤها مذكّرات عديدة لرحلات الحجّ، بعضها متوافر في شكل مطبوع، وبعضها الآخر غير مطبوع. وتحتلّ مذكّرة رحلة الحجّ للشيخ عبد الحق المحدّث الدهلوي “جذب القلوب إلى ديار المحبوب” (1001هـ/1593م)، مكانة الصدارة بين مذكّرات رحلات الحجّ في الهند. وهي تُعدّ أقدم مذكّرةٍ لرحلة الحج المتوافرة في شبه القارة الهندية. وقد أدّى الشيخ المحدث الدهلوي فريضة الحج في العام 998هـ/1590م، ودوّن مذكرة الرحلة في العام 1001هـ/1593م. وثاني أهمّ مذكّرات رحلات الحج الهندية هي “فيوض الحرمين”، التي ألّفها صاحبها الشيخ الشاه ولي الله المحدّث الدهلوي باللغة العربية. لقد سافر الشيخ الشاه ولي الله الدهلوي إلى الحجّ سنة 1143هـ/1731م، وتحتوي هذه المذكّرة على معلومات حول الفوائد الروحانية من هذه الرحلة، غير أنّ هاتين المذكّرتين المذكورتين آنفاً، لم يتمّ تدوينهما بالأسلوب الفنّي التقليدي لتدوين مذكّرات رحلات الحجّ. ومن الناحية الفنّية تُعدّ مذكّرة رحلة الحجّ “سوائح الحرمين” التي ألّفها الشيخ رفيع الدين الفاروقي المراد آبادي، الذي كان تلميذاً للشيخ الدهلويّ، وعالِماً متبحّراً في عصره، سافر للحجّ برّاً وبحراً، أوّل مذكّرة لرحلة الحجّ دُوّنت في الهند.
ويُعدّ القرن العشرون أكثر القرون أهمّية لجهة تدوين مذكّرات رحلات الحجّ، إذ دُوّن فيه أكبر عددٍ من هذه المذكّرات. ومع أن تسهيلات السفر خلال العقود الأولى من القرن العشرين لم تكن متوافرة بقدر ما تتوافر في الوقت الحاضر، لكنّها كانت آخذة بالتحسّن تدريجاً، هذا ما يتّضح جليّاً من مذكّرات رحلات الحجّ التي دُوّنت في ذلك الزمن، ومن أبرز هذه المذكّرات “رفيق الحجّاج” (1907م) للدكتور نور حسين صابر، و”سفرنامه حجاز، شام ومصر” (1909م) لأَمّة الغني نور النساء، و”تاريخ الحرمين” (1924م) للقاضي محمد سليمان المنصور بوري، و”الفوز العظيم” (1926م) لحبيب الرحمن خان الشيرواني، و”مرقع حجاز” (1935م) للشيخ أبي القلم خاموش الفتحبوري، و”اپنے گهر سے بيت الله تك” (من بيتي إلى بيت الله) للشيخ أبي الحسن علي الندوي.
ويتّضح من دراسة مجموعة من المقالات والبحوث في مذكّرات رحلات الحجّ، أن الهند تملك حوالى أربعمئة مذكّرة حول الحجّ باللغة الأردية التي لا يتجاوز عمرها ثلاثمئة وخمسين سنة، ولأنّه لا يمكن حصر أو دراسة جميع المذكرات في كتاب واحد، فإنّ هذا الكتاب يحتوي على عدد محدود من المقالات والبحوث المُحكّمة التي دبّجتها أقلام أساطين البحث والتحقيق، أمثال البروفسور أختر الواسع خبير الدراسات الإسلامية، والدكتور محمد عتيق الرحمن خبير المخطوطات العربية والفارسية، والبروفسور شريف حسين القاسمي أستاذ اللغة الفارسية وغيرهم.
ويُعدّ هذا الكتاب أوّل محاولة جادّة لدراسة تاريخ العرب وثقافتهم، وخصوصاً ثقافة الجزيرة العربية كما تتجلّى في مصادر هندية.
ويخصّص الكتاب الفصل الأخير لببلوغرافيا مذكّرات الرحلات التي وُضعت في الهند حول الجزيرة العربية منذ القرن السابع عشر ميلادي حتى العام 2012، ويصل عددها إلى 373 مذكّرة. ويعرض لكلّ ما رأه المؤلّفون في الجزيرة العربية من مظاهر ثقافية تتعلّق بالمجتمع العربي. وقد حاول الباحثون استخلاص صورة صحيحة للجزيرة العربية من مصادر هندية، وفتحوا آفاقاً جديدة للبحث عن العرب من مصادر هندية.