وجهة نظر/ على هامش صراعات المَرحلة.. نتنياهو في عُمَان
بقلم : د . بهجت سليمان

1▪ يجب علينا التّسليم بأنّ المرحلة العالميّة التي نمرّ فيها اليوم ليست هي المرحلة النّموذجيّة التي يمكن أن نطمح إليها كعرب أو مسلمين ، مع ضرورة التّمييز بين قيمة المصطلحات نفسها بين حين و آخر ، إذ لا يمكن أن نتصوّر مضموناً حقيقيّاً لكلٍّ من كلمتي ”العرب” و ”المسلمين” في عصرنا هذا ، و كأنّها مفاهيم مطلقة ثابتة في كلّ زمان و مكان و أوان ..
بل و لربّما حملت في بعض المقاطع التّاريخيّة نقائضها بالضّبط ، و هذا ما ينطبق اليوم عليها و على غيرها من المفاهيم والمصطلحات و الحدود المفهوميّة المعبّرة عن مدى تطابق الحقوق مع مقتضياتها من الظّروف المحيطة و الأدوات و السّلوك .
2▪ تحوّل قتل (السّعوديّة) للخازوقجي إلى مناسبة سياسيّة ثمينة لأميركا و الغرب و غيرهم في تعميق مجرى العلاقات الابتزازيّة مع السّعوديّة ، التي فاتها اتّجاهات تطوّر و إمكانيّات تفاعل أبعاد ”الجريمة” و تداخلاتها و تفاهة الدّور السّعوديّ في ”المنطقة” ، من حيث هو دور يقتصر على استخراج النّفط و بيعه و توزيع رأسماله و ريعه معاً على الدّول الضّامنة لوجودها و خاصّة (أميركا) ، مع جوائز ترضية هنا و هناك .
3 ▪ يتعمّل التّاريخ وفق قوانينه الخاصّة التي قلّما يُدركها البشر ، و التي إن افتعلوا إدراكها لكانوا ”حتميين” و ”تاريخانويين” و قد جافَوا المنطقيّة التّاريخيّة التي يدخل في عدادها الأقدار أيضاً و الطّفرات و المفاجآت و الأسرار التي ُتقْتَصَرُ حِكراً على أقوى الّلاعبين السّياسيين ، صُنّاع التّاريخ في كلّ مرحلة من مراحل الزّمان .
وقد شكّل مقتل ”الخاشقجي” منعطفاً سياسيّاً إقليميّاً و عالميّاً ، لم تكن (السّعوديّة) ، على تخلّفها السّياسيّ و الدّبلوماسيّ ، الذي عجزت معه عن تصوّر احتمالات أيلولات نتائج تفاعلات ظروف هذه ”الجريمة” ، بقادرة على وضع التّصوّرات السّياسيّة المستقبليّة للخروج بخسائر متواضعة كثمن لهذا السّلوك الأحمق ، و هو ما جعل الجميع يتنمّر للابتزاز السّياسيّ و الماليّ المتبادل ، و ذلك ليس لأهمّيّة ”المقتول” أبداً ، و، لكنْ لأهمّيّة ما صنعه ”العالم” من مقتله و ما صعّده من مواقف جعلها مناسبة لمعاقبة (السّعوديّة) العقوبة التّأديبيّة ”الرّمزيّة” ، بالنّسبة إلى طرف يجب ضمان استمرار اصطفافه السّياسيّ ، و هو السّعوديّة ، على أنّها عقوبة تتجاوز هذه الرّمزيّة من جهتها الفعليّة الماليّة ، و سُعار استغلالها سواءٌ بتمثيليّة إجراء الحظر العسكريّ – السياسيّ على مشترياتها السّخيّة من السّلاح الأميركيّ و الغربيّ ، بغضّ النّظر عن نظام مدفوعاتها السّائلة ، و هذا بالإضافة إلى ما كان عليه هذا العلاج العالميّ السّريع الآخر مع (السّعوديّة) و ذلك بابتزازها الصّريح من قبل االقوى العالميّة الحاكمة في الولايات المتّحدة الأميركّية و الغرب الأوروبّي و تركيا في السّياق .
4 ▪ تنظر السّعوديّة إلى وضعها ”الصّعب” ، جرّاء قتلها للخاشقجي ، الذي استثمر و يستثمر عالميّاً بالتّكالب المالي عليها ، من باب أنّ الاستعصاءات السّياسيّة الدّوليّة ، مثل هذا الاستعصاء الذي تمرّ فيه اليوم ، على أنّها استعصاءات مفتعلة ، و هي – أي السّعوديْة – متأكّدة من أنّ المال السّعوديّ كفيل بتعويم جريمة (الخاشقجي) تعويماً يرتفع بها (أو ينحدر بها ، لا فرق هنا .. ) إلى مستوى تتفيه هذه ”الجريمة” – و هي جريمة تافهة و صغيرة في قيمتها الخاصّة أو الشّخصيّة – و تحويل دم هذه الجريمة إلى ”قطع أجنبيّ” ممتاز بالدّولاار أو باليورو حسب الجهات التي تستطيع تضخيم دم (الخازوقجي) إلى ثمنٍ سعريّ في البورصة العالميّة للعملة النّقديّة الممتازة .
5 ▪ موقف (أميركا) صريح ضمناً ، و ربّما جرى الاّتفاق عليه قبل أو غِبّ ”الجريمة” و بسرعة فائقة بحسب النّموذج الأفضل المعاصر للعلاقات الأميركيّة السّعوديّة مع (أميركا – ترامب) و هو النّموذج الذي أثبت فاعليّته و نجاعته و بخاصة عندما تحوّل إلى عرف سياسيّ – مالي تُسعّر فيه السّياسة بمعامل قيمي نقديّ هو الدّولار الأميركيّ التي تملك منه (السّعوديّة) الكثير ، و تطمع (أميركا – ترامب) فيه بالكثير أيضاً .
6 ▪ الموقف الأوربي يحاول تقليد الموقف الأميركيّ ، إذ أنّ تعلّم نهب الثّروات الدّاشرة و الرّخيصة ، كالمال السّعوديّ ، هو أمر سهل و لا يحتاج إلى عبقريّة سياسيّة و بخاصّة أن الموضوع هو موضوع صراع خفيّ أميركيّ – أوربي على الاستيلاء على الأموال االسّعوديّة ، و الذي يكاد يكون هو عنوان السّياسة ”الغربيّة” ، اليوم ، نحو المملكة المتخلّفة الثّريّة .
7▪ (روسيا) لا يعنيها الأمر إلّا من باب الصّمت الإيجابيّ على الموقف الأميركيّ و الموقف الأوروبّيّ الغربيّ ، تشجيعاً للموقفين على الانزلاق الأكبر في شهوة المال السّعوديّ ، إذ أنّ (روسيا) ، و لو أنّها ليست تلك الدّولة الرّأسماليّة المتخمة بالعملات النّقفديّة العالميّة ، إلّا أنّها أيضاً ضامنة لموقع اقتصاديّ متميّز لها في الظّروف الدّوليّة و العالميّة الحاليّة على الأقلّ ، من حيث عجز أيّة دولة عالميّة أخرى عن القدرة على منافستها و تحديداً في تجارة الغاز مع أوروبّا الغربيّة ، و كذلك في تجارة السّلاح مع دول عالميّة مستقرّة الطمأنينة العسكريّة للسّلاح الرّوسيّ و للعلاقات و التّسهيلات الرّوسيّة المغرية في هذا النّوع من التّجارة العالميّة على التّحديد ، مع أنّ (روسيا) لا يفوتها و لن يفوتها تباين النّوع الواحد من السّلاح في الميزات الفنّيّة و التّعبويّة العسكريّة و تحديد اختلاف هذه الميزات ، بحسب العلاقة الاستراتيجيّة مع الدّولة التي تربطها فيها علاقات تجاريّة محضة أو ما فوق تجاريّة ترتقي إلى مستوى الشّراكات العسكريّة – السّياسيّة الاستراتيجيّة .
8▪ ( إيران ) ، كدولة إقليميّة معتبرة ، هي خارج جميع هذه المنظومة من العلاقات الدّوليّة الإقليميّة (الخازوقجية) ، مع أنّ ”العالم” سيحتاجها – كما سنبيّن – في ظروف تشابك و تعقّد علاقات هذه المنطقة الإقليميّة من العالم التي تضمّ إليها (“إسرائيل”) في موضوعيّة سياسيّة لازمة .
9▪ يبقى الموقف التّركيّ الذي يُبدي تعنّتاً خاصّاً طمعاً بهدفين في وقت واحد .
الهدف الأّول هو تحطيم شوكة (السّعوديّة) كدولة ”إسلاميّة” في اعتبارات ”الغرب” العالميّ ، لسحب البساط من تحتها و الحلول التّركيّ في مكانها من الأهمّيّة الاستراتيجّية الدّينيّة الإسلاميّة عندما يتوقّف الأمر الدّوليّ على هذا الّتفصيل بالتّحديد ..
و الهدف الثّاني هو الدّخول في بازار سعر جريمة قتل الخاشقجي ، لا سيّما أنّ الوضع الاقتصاديّ التّركيّ يمرّ اليوم في أسوأ حالاته منذ عقود ؛ هذا مع ترجيح الهدف الأوّل لرفع عدد أسهم ( تركيا) أمام الغرب و أميركا لحجز مكان سياسيّ و اقتصاديّ تركيّ دائم و مستمرّ في أوروبّا ، أوّلاً و أخيراً ، إذ أنّ عضوية تركيا في (الناتو) لا يساوي لديها المثقال العسكريّ أو السّياسيّ بالمثقال الاقتصاديّ لعلاقة تركيا بأوروبّا الغربيّة بالتّحديد .
من هذا الجانب يحتلّ الموقف التّركيّ العقدة الرّئيسيّة في المشكلة االسّعوديّة الحاليّة ، بحيث يكاد ينفرد وحده في كفّة ميزان ، و الموقف الغربيّ ( المحلول على كلّ حال بالمال السّعوديّ ) كلّه في الكفّة الثّانية المكافئة في الميزان .
و لهذا السّبب كانت زيارة (نتنياهو) المفاجئة إلى (عُمَان) ! و لكن لماذا و كيف ؟
10▪ منذ عقود بعيدة و (عُمان) تشكّل ”بيضة القبّان” السّياسيّة الخليجيّة – الإقليميّة ؛ و، لقد سلكت (عُمان) سلوكاً سياسيّاً واقعيّاً – بحسب قانون المصالح السّياسيّة – يتناسب و ينسجم مع قدراتها الاقتصاديّة المتواضعة إذ تعتبر (عُمان) واحدة من أفقر الاقتصادات الخليجّية في المنطقة ، و هو ما يُفسّر حنكتها السّياسيّة في وقوفها الحسّاس و الدقيق على بعد واحد سياسيّ من جميع مشاكل و دول المنطقة ممّا جعل منها وسيطاً في غير مرّة في العلاقات السّعوديّة – الإيرانيّة ، و العلاقات الخليجّية العربيّة الإيرانيّة في العقدين المنصرمين على الأقلّ .
11▪ دخلت العلاقة السّعوديّة – التّركيّة في عقدة مستعصيّة و بخاصّة مع الأسلوب الابتزازيّ الصّريح و الواضح الذي يمارسه (أردوغان) على (آل سعود) بادّعائه الصّحيح – على أيّة حال – بامتلاكه توثيقات و وثائقيّات على قتل (السّعوديّة) للخازوقجي في مقرّ القنصليّة السّعوديّة في (اسطنبول) ، ما يضع (السّعوديّة) في موقف ابتزازيّ سياسيّ و ماليّ (إخضاعٌ سياسيّ و رشوة ماليّة) معقّد و صعب ، مع أخذنا بعين الاعتبار التّهديد التّركيّ (السّياسيّ – الماليّ) المزدوج ، للسّعوديّة ، و الذي يكاد يعادل و يتفوّق و يزيد على سائر التّهديدات الغربيّة و الأميركيّة ، هذه التي تعتبرها (السّعوديّة) محلولة و متيسرة بضمان الدّولارات السّعوديّة السّائلة .
12▪ هنا بالضَبط نصل إلى الدّور ”الإسرائيليّ” في هذه العقدة الكأداء..
السّعوديّة ”ملتمسة” ، أو أكثر ، في (“إسرائيل”) ، في ظروف العلاقات التّاريخيّة السّعوديّة – ”الإسرائيليّة” ، و بخاصّة في المواقف المعلنة الأخيرة للعلاقة “الأخويّة”(!) ”الإسرائيليّة” – السّعوديّة ..
و من غير المعقول أن تنسى (السّعوديّة) هذه ”الدّالة” على (“إسرائيل”) ، كما أنّه من غير الواقعيّ أن تتخلّف (“إسرائيل”) عن نجدة (السّعوديّة) في ظرف صعب مثل هذا الظّرف السّياسيّ الحرج الذي يُحيط بالسّعوديّة .
13 ▪ قلنا هنا ، غير مرّة ، أنّ علاقة (“إسرائيل”) ِب(تركيا) محكومة بمصالح فجّة و و وقحة ما يجعلها علاقة لا تنبني على أيّ رابط عميق ، سياسيّ عمليّانيّ أو نظريّ ، بل تقوم على روابط و مصالح ظرفيّة منقضية بطبيعتها و عابرة ، و ذلك نظراً للمنافسة الدّاخليّة – السّرّيّة بين ”الدّولتين” على كسب ثقة ”الولايات المتّحدة الأميركيّة” بالأقدر منهما على إخضاع المكان تحقيقاً للمصالح الإمبرياليّة العالميّة ، هذا الأمر الذي يبدو أنّه غير محسوم إلي اليوم ؛ فيما يهمّنا ، هنا ، منه ذلك ”الحسد السّياسيّ” المتبادل بيت (تركيا) و (“إسرائيل”) ، ما يجعلهما في ، الحقيقة ، في حالة من حالات النّدّيّة التّنافسيّة أو كما يُعبّر المعبّرون في حالة من رابطة ”الصّداقة الّلدودة” !
14 ▪ ما قلناه على (عُمان) من وقوفها السّياسيّ ببعد واحد عن مشاكل هذه ”المنطقة الإقليميّة” ، ينطبق ، أيضاً ، على علاقتها ِب (“إسرائيل”) بالمنطق عينه و السّويّة ذاتها في الوقت نفسه .
من بين جميع علاقات (عُمان) في هذه المنطقة من العالم ، فإنّها يربطها ، و على نحو خاصّ ، علاقة تكاد تكون متميّزة أو منفردة ، على الأقلّ ، مع (إيران) .
15▪ هنا يظهر الدّور ”الإسرائيليّ” في ”التّوسّط” لدى (عُمان) من أجل إنقاذ (السّعوديّة) من المأزق التّركيّ ، لتستخدم (عُمان) دالّتها الودّيّة مع (إيران) من أجل أن تضغط (إيران) – أو تتوسّط ، بقوّة – لدى (تركيا) ، نظراً للعلاقات التّاريخيّة و السّياسيّة و الاقتصادّية و ”الدّينيّة – السّياسيّة”(!) التي تربط تركيا بإيران آو العكس .
16▪ المسألة الإقليميّة ، و أعني عموم المشاكل الإقليميّة في منطقتنا ، هي بكلّ بساطة ضرب من علاقات الدّائرة المثلّثيّة الرّياضيّة و المعادلات بمجاهيل متعدّدة و هو ما يدخلها – بالّلغة الرّياضيّة – في علاقات التّفاضل الصّغرى و علاقات التّكامل الكبيرة في علاقات النّظائر و التّوابع و القطوع الرّياضيّة ، التي بقدر ما أنّها صعبة على غير المتخصّصين ، هي سهلة على مهندسي السّياسة العالميّة .
17▪ هل سينجح (نتنياهو) في مسعاه في (إيران) عبر (عُمان) لوضع (تركيا) في إحراج إعادتها إلى حجمها الإقليميّ الطّبيعيّ المحدود و لو بدا عليه أنّه غير محدّد نتيجة لهزالات السّياسات العربيّة المعاصرة ؟
18 ▪ من المرجح أن ينجح هذا المسعى ، إذ لن يكون بإمكان (تركيا) مواجهة السّياسات العالميّة كلّها ، الرّاغبة في التّسوية ”الماليّة” الخالصة ، في قضيّة قتل مواطن سعوديّ غير ممتاز أو ليس من الدّرجة الأولى على أقلّ تقدير .