عن اللجنة الدستورية وصياغة الدستور الجديد بسورية
بقلم : توفيق المديني

مثّل مؤتمر الحوار الوطني السوري –السوري الذي عقد في سوتشي في نهاية كانون الثاني /يناير 2018،منعرجًا حقيقيًا في مسار البحث عن الحل السياسي الوطني للأزمة السورية من خلال التأكيد على وثيقة سورية الوطنية،التي تقر في جوهرها: إن الشعب السوري، وحده، هو “من يحدّد بشكل مستقل مستقبل بلده ويختار نظامه دون ضغوطات خارجية أو تدخلات من الخارج”، و”إنّ طريق التسوية السياسية يقوم على أساس سيادة واستقلال ووحدة سورية أرضاً وشعباً”، وأكثر من ذلك، يعيد التأكيد على أن “سورية دولة ديمقراطية وغير طائفية”، وأن شعبها “يرفض جميع مظاهر الإرهاب والتعصب والتطرّف والتفرقة الطائفية”.
وتم الاتفاق في “مؤتمر الحوار السوري” في سوتشي على تأليف لجنة دستورية “بغرض صياغة إصلاح دستوري يسهم في التسوية السياسية التي ترعاها الأمم المتحدة وفقاً لقرار مجلس الامن 2254”. وستضمّ اللجنة وفق البيان “ممثلين للحكومة وممثلي المعارضة المشاركة في المحادثات السورية وآخرين” ، حيث تكون فيها حصة المعارضة بحدود “الثلث المعطل”، وأن القرارات في شأن فقرات الدستور ستتخذ بغالبية الثلثين.
وتتكون هذه اللجنة الدستورية من 168 عضواً هم مندوبون لمؤتمر الحوار الوطني السوري ، وستنتخب هيئة مصغرة من 25 شخصاً مهمتها صياغة الدستور،ويتم اختيار الرئيس ونائبه وأمين السر من تكوين اللجنة. واتفق المؤتمرون على ان تكون النسبة في لجنة مناقشة الدستور الحالي ثلثين تدعمهم الحكومة وثلثا للأطراف الأخرى، ويتخذ أعضاء اللجنة القرار بأغلبية حول ضرورة المساعدة من خلال الخبراء بطريقة تقديم المشاورات إلى أعضاء اللجنة.واعتبر المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا إن اللجنة الدستورية ستنتج دستوراً جديداً “تجري على أساسه الانتخابات البرلمانية والرئاسية”، معتبراً أنها ستكون «المنبر الأول الذي تشارك فيه الحكومة والمعارضة معاً كتابة الدستور».
إقرار الدستور الجديد شأن سيادي سوري
فقد عاد ملف تشكيل اللجنة الدستورية من المعارضة و الدولة الوطنية السورية وممثلي المجتمع المدني لوضع دستور جديد لسورية، إلى واجهة الأحداث السياسية، مع الزيارة التي قام بها المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة والوفد المرافق، ستيفان دي ميستوراإلى دمشق يوم الإربعاء24تشرين الأول/أكتوبر 2018،حيث جرى لقاء بينه وبين السيد وليد المعلم نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية والمغتربين ،لبحث الجهود المبذولة من أجل إحراز تقدم في المسار السياسي للأزمة في سورية ومتابعة الأفكار المتعلقة بالعملية السياسية ولجنة مناقشة الدستور الحالي التي تم بحثها في اللقاء الأخير الذي جمع الوزير المعلم والأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غويتريس في نيويورك على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة.
وأكد وزير الخارجية والمغتربين وليد المعلم استمرار دعم سورية للجهود الرامية للتوصل إلى حل سياسي للأزمة، مشيراً إلى أن سورية تعاطت بكل إيجابية مع مخرجات مؤتمر الحوار الوطني السوري السوري في سوتشي وعملية تشكيل لجنة مناقشة الدستور الحالي ومشدداً على أن إطلاق عمل هذه اللجنة يجب أن يراعي المبدأ المنصوص عليه في ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة بسورية والمتمثلة بضرورة الالتزام القوي بسيادة سورية واستقلالها ووحدتها أرضاً وشعباً وأن الشعب السوري هو صاحب الحق الحصري في تقرير مستقبل بلاده، وبناء عليه فإن كل هذه العملية يجب أن تكون بقيادة وملكية سورية وذلك باعتبار أن الدستور وكل ما يتصل به هو شأن سيادي بحت يقرره الشعب السوري بنفسه دون أي تدخل خارجي تسعى من خلاله بعض الأطراف والدول لفرض إرادتها على الشعب السوري.
بدوره قدم المبعوث الخاص عرضاً للقاءات التي أجراها والنشاطات التي قام بها مؤخراً من أجل تنشيط العملية السياسية وتشكيل لجنة مناقشة الدستور، ومن الواضح أن المبعوث الأممي يريد إحداث اختراق سياسي من شأنه تسهيل تشكيل اللجنة قبيل مغادرته لمنصبه أواخر الشهر المقبل لـ”أسباب شخصية” كما قال ،مشيراً إلى أنه بذل خلال السنوات التي قضاها بصفته المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة قصارى جهده للتوصل إلى حل سياسي في ظل ظروف معقدة. وقد اتفق الجانبان في نهاية المباحثات على استمرار التواصل بينهما من أجل بحث الافكار التي من شأنها دفع العملية السياسية قدماً.
من وجهة نظر المعارضة السورية والدول الإمبريالية الغربية، والخليجية، والتركية، التي تدعمها،يُفترض أن تتألف اللجنة الدستورية المنوط بها وضع دستور سوري جديد من 150 عضواً، ثلثهم من المعارضة، التي تمثّلها الهيئة العليا للتفاوض، وثلث آخر من الدولة السورية ، والثلث الأخير ممن يختارهم دي ميستورا، على أن يتم اختيار 15 عضواً منهم لصياغة دستور دائم للبلاد. وكانت المعارضة قدّمت، في يوليو/تموز الماضي، قائمة بمرشحيها إلى اللجنة الدستورية، وضمت ممثلين عن مكوّنات الهيئة العليا للتفاوض، من الائتلاف الوطني السوري، وهيئة التنسيق الوطنية التي ينظر إليها باعتبارها ممثلة لمعارضة الداخل السوري، ومنصتي موسكو والقاهرة، والفصائل العسكرية، ومستقلين.
الشيء اللافت في المشهد السياسي والعسكري السوري،هو الاهتمام الأميركي المفاجىء بتشكيل اللجنة الدستورية، حيث تصر الإمبريالية الأميركية ،ومعها “المجموعة المصغرة” حول سورية، التي تضم الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا والأردن ومصر والسعودية، على البدء السريع بعمل اللجنة الدستورية في جنيف، التي يقوم دي ميستورا بتشكيلها. وطلبت من الأخير أن يتحدث بحلول 31 أكتوبر/تشرين الأول الحالي عما أنجزه بهذا الشأن. فقد ناقش وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو مع دي ميستورا الوضع حول تشكيل اللجنة الدستورية. وقالت المتحدثة باسم الخارجية الأميركية، هيذر ناورت، للصحافيين الثلاثاء 23تشرين الأول/أكتوبر 2018، إن الوزير ناقش مع المبعوث الأممي “التقدّم الذي حققه الأخير في مسألة عقد اللجنة الدستورية”.
من الواضح أن الإمبريالية الأميركية التي باتت تشكل الاستعمار الجديدفي أبشع صوره في منطقة الشرق الأوسط،من خلال الحروب التي أشعلتها عقب غزوها للعراق سنة2003، ولغاية الآن في سورية بمساعدة حلفائها الإقليميين(تركيا و الدول الخليجية و الكيان الصهيوني )،وأدواتها من التنظيمات الإرهابية والتكفيرية،تبحث في الوقت الحاضر على إطالة أمد الحرب في سورية،لا سيما أنها لم تكن راضية عن الانتصارات الكبيرة التي حققها الجيش العربي السوري طيلة هذه السنة في تحرير أراضي الجمهورية العربية السورية من رجس الإرهاب ، الأمر الذي مكن الدولة الوطنية السورية من تعزيز سيادتها الكاملة على نحو70% من أراضيها.
فَتَحْتَ غِطَاء ما يُسَّمَى “التحالف الدولي”، وبِحُجَّةِ القضاء على تنظيم”داعش”الإرهابي، غَزَتْ القوات الاميركية الاراضي السورية في أواخر العام 2014 ،ورَكَزَتْ احتلالها ومناطق تواجدها غير الشرعي في شرق الفرات، كما احْتَلَتْ منطقة التنف تلبية لأطماعها وشهواتها الامبريالية، ورغبة منها للإبقاء على احتلالها أطول فترة ممكنة، ريثما تتمكن من السيطرة على مقدرات السوريين وثرواتهم. ومن هذا المنطلق كان لما يسمى إرساء قواعد الأمن والاستقرار في المنطقة التي تتذرع به الإمبريالية الأميركية طريقة خاصة بها، لإقامة منطقة خاضعة لها فوق ما يقارب الـ 25% من الأراضي السورية في الشمال والشرق، وإنشاء مليشيات موالية لها من الأكراد وسواهم، لاستمرار الحرب ، وبالتالي استمرار احتلالها للجزء الغني بالنفط و الغاز من أراضي سورية ،كي تضمن لها دورًا مؤثّرًا لها في التسوية السياسية، وتطالب بحصتها من الكعكة السورية،و تحديد مستقبل سورية ما بعد الحرب.
كما ستساعد هذه المنطقة التي تحتلها الولايات المتحدة في سورية على تأمين معقل لها في المشرق، والتأثير على علاقات روسيا بحلفائها الإقليميين. فقد عملت الإمبريالية الأميركيةعلى دعم الارهاب واحتواء تنظيم “داعش” الارهابي في التنف بحيث أصبحت المنطقة هناك محمية للإرهاب ينطلق منها لتنفيذ عملياته الارهابية في أرجاء سورية والتي كان آخرها المجازر الوحشية التي قام بها داعش الارهابي بحق المدنيين في محافظة السويداء تحت نظر ومسمع القوات الأميركية المحتلة للمنطقة.
وتعي القيادة السورية أن التطورات الإقليمية والدولية أصبحت أكثر وضوحًا وهي تصب في مصلحة الدولة الوطنية السورية،وأن مصير الجماعات الإرهابية المسلحة الدخيلة على سورية، والميليشيات الارهابية الموالية لتركيا، وبعض الجماعات الارهابية المدعومة أميركيا، شرقي الفرات،هو الهزيمة المحتومة على يد الجيش العربي السوري والحلفاء،لا سيما بعد أن أصبحت الولايات المتحدة خارج المعادلة السياسية في سورية ،ولم تعد تقدم أي شيء يعول عليه لدى مرتزقتها من الإرهابيين، بل إن همَّ رئيسها دونالد ترامب اليوم هو استحلاب المليارات من الدولارات من دول النفط الخليجي .
فالجيش العربي السوري على أهبة الاستعداد لاستعادة ادلب واستكمل كل تحضيراته لتحرير المحافظة من رجس الارهاب وبات على أبوابها، وقد أصبحت لديه الإحداثيات الخاصة بمتاريس الأسلحة والأنفاق التي تم تخزين الأسلحة الثقيلة ونصف الثقيلة فيها من الجماعات الإرهابية التي توصلت يومةالإربعاء الماضي إلى اتفاق ينهي المواجهات بين “هيئة تحرير الشام” و”الجبهة الوطنية للتحرير” ، والتي اندلعت في محيط تلمنس بريف إدلب. ومن جهتها أكدت موسكو أنّ من بين إنجازات الاجتماع الثلاثی للدول الضامنة لعملية آستنة الانتصار على الإرهابيين مشيرة إلى تشكيل الظروف الملائمة لحل الأزمة في سورية ولمصلحة كل السوريين. وجاءت تطورات الميدان في إدلب مع تأكيد سورية مجدداً للمبعوث الاممي ستيفان دي ميستورا والذي يحمل معه آخر أوراق مشغليه إلى سورية بشأن الدستور السوري بأن الدستورهو شأن سيادي يُقَرِّرُهُ الشعب السوري دون تدخل خارجي، فيما تسعى الإمبريالية الأميركية ليكون الدستور الجديد بوابة حل ينهي نظام بشار الأسد، ويحجم الوجود الروسي المتعاظم في سورية.
أي دستور تحتاجه سورية
يُعد المسار الدستوري أحد أعقد مسارات التفاوض في عملية السلام السورية القائمة، نظراً إلى تباين مواقف أطراف الصراع حوله، فضلاً عن كونه الإطار الجامع الذي ينبغي أن تتجسد فيه كل التوافقات الأخرى التي ستتم وستمهد لانتقال سورية من حال العنف والصراع إلى مرحلة التعافي والسلام. وكانت تمت الإشارة إلى القضايا الدستورية بصورة مبكرة من مسار عملية التسوية السلمية، وذلك بموجب وثيقة جنيف الصادرة عن اجتماع مجموعة العمل من أجل سورية الذي عقده المبعوث الخاص المشترك للأمم المتحدة وجامعة الدول العربية لسورية في جنيف في 30 حزيران /يونيو 2012. ونصت الوثيقة على أنه “يُمكن أن يُعاد النظر في النظام الدستوري والمنظومة القانونية. وأن تُعرض نتائج الصياغة الدستورية على الاستفتاء العام”. وتكررت الإشارة، بعد ذلك، إلى مسألة الدستور في العديد من الوثائق الصادرة حول الصراع السوري وصولاً إلى ترسيخها في القرار 2254 (2015) الذي بات يُشكّل المرجعية المُتّفق عليها وإطار العمل الناظم لعملية التفاوض الحالية.
ويرى المراقبون أنّ الأسئلة بشان الدستور الجديد لا تزال مطروحة هي: هل يتم اعتماد دستور 2012 وتعديله قليلاً، أم دستور 1950 وتعدله، أم صوغ دستوراً جديداً؟
يعني مصطلح “دستور”، “التأسيس أو البناء”، أي التنظيم أو القانون الأساسي، فهو يحيل على مرجعية مفادها البحث عن الأسس الكفيلة بتأصيل وضبط ممارسة السلطة وتنظيم مؤسسات الدولة، وعلى خلفية ذلك يفسر لماذا ارتبط مفهوم الدستور بالدستورانية الأوروبية الهادفة، مع مطلع القرن الثامن عشر، إلى إعادة بناء الدولة والسلطة على تصورات فلسفية وآليات تنظيمية جديدة.
الصراع على الدستور في سورية، مسألة قديمة جديدة، والسبب في ذلك يعود إلى النزاع المتعلق بدور الإسلام في الحياة العامة، في سورية. فقد أثير في القرن الماضي، عندما امتد حكم الملك فيصل في دمشق من 1918 إلى 1920، وأثناء حقبة الانتداب الفرنسي. وتبلور لأول مرّة في فترة الاستقلال في عام 1950 حول مشكلة الدستور. وكان المشروع المحرر حينئذ يتضمن المادة التالية:« لما كانت غالبية السكان السوريين مسلمة فإنّ الدولة تعلن إخلاصها للإسلام ولمبادئه». وقد أثارت هذه المادة انفعالاً شديداً في الأوساط العلمانية والليبرالية المسيحية والمسلمة، المشايعة لإزالة الحدود الطائفية في الحياة السياسية وفي الدولة، هذه العناصر حاولت – بلا طائل- القيام بالضغط لسحب هذه المادة من المقدمة وإحلال صيغة تسوية محلها بأن الإسلام دين رئيس الجمهورية فحسب. وكانت مقدمة الدستور هذه، عام 1950 تمثل أقرب صيغة دستورية لتصور بلدان عربية أخرى حيث يعلن بأن دين الدولة هو الإسلام، تبنتها سورية. ولم يكن دستور الجمهورية العربية المتحدة في أيام الوحدة المصرية-السورية (1958-1961)، الذي نادى بأن دين الدولة هو الإسلام، نصاً سورياً، حقيقة.
وكان دستور البعث المؤقت سنة 1964 قد احتفظ بصيغة التسوية التي تحدد بأن الإسلام دين رئيس الجمهورية والمستبدلة أحياناً، أو ترافقها صيغة تنص على أن الفقه الإسلامي أهم مصدر للتشريع.وقد أسقط مشروع دستور عام 1973، بدوره، التنويه المتعلق بانتماء رئيس الجمهورية للإسلام، وسنّ أنّ” الجمهورية السورية دولة ديمقراطية شعبية، اشتراكية”، ولم يتخذ الرئيس الراحل حافظ الأسد القرار بالعودة إلى إدخال المادة المتعلقة بدين رئيس الجمهورية إلا بعد أن انفجرت مظاهرات عنيفة في حماة، أمام مكتب فرع حزب البعث(20 شباط/فبراير 1973)، ولم تأت مكانها هذه المرّة من المادة الثالثة، وإنما وردت في المادة 157. وكانت تلك المظاهرات من فعل القيادات المسلمة التقليدية، يقودها فقهاء دين ومفتون وقضاة وموظفون دينيون، يدعمهم الإخوان المسلمون، ويشعرون بطابع الدستور”الإلحادي” وإدخال التنويه المتعلق بدين رئيس الجمهورية.
في سورية، كانت الأكثرية المسلمة تطالب بأن يمنح الدستور رسميا مكان دين الدولة للإسلام، كما كان الحال في دساتير العراق، ومصر، والأردن، والمملكة العربية السعودية، وليبيا. وما كانت قد حُذفت ثم أعيد إدراجها-وهي الصيغة المتعلقة بدين رئيس الجمهورية-كانت الأكثرية تعتبرها حدّاً أدنى.
وعلى النقيض من ذلك، كانت مختلف الأقليات، من مسيحيين وعلويين ودروز يعارضون هذا الاعتراف الرسمي، الذي يكرس، إذا صح القول، على الصعيد الرمزي، عدم مساواة سياسية- اجتماعية بين الطوائف. فالسعي إلى رمز ذي هدف مساواتي كان ركناً أساسياً لعملهم السياسي.بيد أن الدستور وحده لا يكفي لاكتساب الدولة المشروعية المطلوبة، بل تصبح المشروعية حقيقة مقبولة حين تتعزز وثيقة الدستور بالاحترام وتحاط بالشروط الكفيلة بضمان صيانتها، أي حين تتحقق الشرعية الدستورية.
إن ما يميز الدستور الديمقراطي ويجعله جديرا بهذه الصفة استناده على جملة مقومات تضفي صبغة الديمقراطية عليه، وتبعده عن الدساتير الموضوعة إما بإرادة منفردة، كما هو حال الدساتير الممنوحة، أو عبر استفتاءات مفتقدة إلى شروط الاستقلالية والحياد والنزاهة. لعل أهم مقومات الدستور الديمقراطي:
أولاً: تأسيسه على مبدأ المواطنة الكاملة المتساوية والتسليم بأن الشعب مصدر السلطات ولا سيادة لفرد أو قلة عليه.
ثانياً: حكم القانون.
ثالثاً: أن يحترم فيه فصل السلطات.
رابعاً: تؤكد فيه الحقوق والحريات .
خامساً: أن يتم الاعتراف بالتداول السلمي للسلطة بين الأغلبية والمعارضة. هذا بالإضافة إلى الطريقة التي يوضع بموجبها الدستور من قبل جمعية وطنية تأسيسية منتخبة.
إذا كانت هذه هي ميزة الدستور الديمقراطي الذي يعبد الطريق لولادة دولة دستورية حقيقية، فإن ّمشروع الدستور في سورية، يجب أن يكون نتيجة مشاركة مجتمعية واسعة تعكس عقداً اجتماعياً حقيقياً للسوريين، ويتم صوغه بطريقة ديموقراطية داخل سورية ومن دون تدخل أطراف أجنبية ، لكي يكون أهم ركيزة أساسية للدولة الوطنية الديمقراطية السورية.
يكاد لا يخلو أي دستور دولة عربية من الإشارة الواضحة إلى بنوده المتعددة إلى احترام المؤسسات، واحترام القانون، والحريات الفردية والعامة، والتداول السلمي للسلطة. ومع كل ذلك، فإن الباحثين السياسيين وعلماء الاجتماع المهتمين بتأصيل فلسفة سياسية عقلانية عن الدولة الحديثة والمجتمع المدني في الوطن العربي يعتقدون جازمين أن المؤسسات وأشكال التمثيل السياسية مأزومة، بدءاً من دور البرلمان، الذي لم يعد يتحكم بجدول أعمال جلساته، مروراً بشخصنة النقاشات عبر لعبة الانتخابات الرئاسية، أو من خلال إفراغ فصل السلطات من معناه.
وحين نتأمل في أحوال الدولة العربية الراهنة، فإننا نجدها متماثلة مع السلطة، بما أن هذه الدولة رغم أنها ذات دستور، تقلصت إلى حدود العاصمة بحكم مركزية السلطة فيها، وبالتالي فهي دولة هذه العاصمة، لا دولة الأمة ولا دولة الوطن، وهي ليست دولة جميع المواطنين المتساوين أمام القانون، بل هي دولة متحيزة لحزب مهيمن أو لطبقة، أو لدين أو لطائفة أو لإثنية أو لإقليم بعينه. وهنا يكمن الفارق بين دولة عربية ذات دستور وبين دولة دستورية. فالدولة الدستورية هي تلك الدولة التي تقوم قولاً وفعلاً على احترام الحرية السياسية باعتبارها أصل الحريات وشرط تحققها، فبانعدامها تتعذر ممارسة “حرية الفكر والعقيدة والتملك” على حد قول مونتسكيو. والحرية السياسية لا توجد إلا في ظل الدول التي تحترم القانون، بينما الدولة العربية ذات الدستور، فتلك التي تنتهك القوانين والأنظمة السائدة، لمصلحة النخبة الحاكمة، وتصادر الحريات وتعرضها للضرر والانتهاك، وترفض أيضاً إقامة نوع من التوازن السياسي عبر الالتزام بمبدأ فصل السلطات، بوصفه أداة فنية تجعل التعايش بين المؤسسات الدستورية أمراً ممكناً، ووسيلة للتوفيق بين المشروعيات المتنافسة والمتصارعة داخل المجتمع السياسي. وهذا هو مصدر نشوء الاستبداد في التاريخ السياسي العربي المعاصر.
خاتمة:
إنّ أي وثيقة دستورية سورية يجب أن تكون المرآة العاكسة لهوية الدولة الوطنية الديمقراطية والعلمانية،التي ترفض المس بوحدة البلاد وسلامتها الإقليمية، وترفض إحداث تغييرات جذرية في شكل الدولة السورية وطبيعتها،وعروبتها، لأن الموجودين حول طاولة المفاوضات من المعارضة لا يمكنهم أن يقولوا إنّهم الناطقون باسم كل الشعب السوري، ما يخولهم القيام بمثل هذه التغييرات الكبرى. قد يتحدثون عن لامركزية إدارية أوسع وغير سياسية على الأقل في المرحلة الحالية، والحدّ من السلطة المطلقة للسياسيين.وفضلاً عن ذلك، لا يمكن بناء حالة ديموقراطية حقيقية فيها تنافس بالعودة إلى صناديق الاقتراع في المرحلة الانتقالية، لذلك يصبح مُلْزماً الاعتماد على نوع من الديموقراطية التوافقية وتكون خاضعة للنص السياسي ،على أمل الانتقال إلى الديموقراطية التنافسية بعد مرحلة انتقالية تتوافر فيها الحوامل الاجتماعية و السياسية للديمقراطية.