آفة التعصّب في الوطن العربي

التعصّب ظاهرة قديمة حديثة ترتبط به الكثير من المفاهيم المتعلّقة بالتمييز الديني والمذهبي والعرقي والقبلي والقومي والسياسي والفكري؛ وهو من أهم منابع الظلم والفتنة والكراهية التي تمزّق النسيج الاجتماعي، وتثير النعرات بين أبناء المجتمع الواحد، وتتحايل على الحقائق وتشوّهها، وتزيّف الواقع، وتزيد النزاعات والانقسامات احتداما، وتؤثّر سلبا على البحث العلمي والإنتاج الفكري والتطور الاجتماعي.

الإنسان المتعصّب يتحيّز لما يؤمن به، ويحدّد ما له وما عليه من واجبات ومسؤوليّات حسب قناعاته، ويرفض الحقّ المثبت بالدليل ويقبل الممارسات ونتائجها بناء على انتمائه لجانب أو ميله إليه وتعاطفه معه، ويعتقد أنه يملك الحقيقة المطلقة؛ ولهذا فإنه لا يرى جوهر وحقائق الأشياء والأفكار والعقائد المتناقضة، ولا يحترم رأي غيره، ولا يقبل عقائد وثقافات وعادات وتقاليد الآخرين المختلفين عنه.

حتى نهاية ّالستينيّات من القرن الماضي لم يكن التعصب الديني والطائفي والمذهبي والقبلي من سمات مجتمعنا العربي، وكان المدّ القومي العربي ما زال قويّا، والحدود بين الأقطار العربية مفتوحة للمسافرين العرب، والمجتمع العربي أكثر انفتاحا وتحرّرا ممّا هو عليه الآن، وكانت هناك محاولات ودعوات لإقامة دولة قوميّة علمانيّة موحّدة جاء بها الناصريون والبعثيون وغيرهم من المثقفين المستنيرين، لكن هذه المحاولات فشلت لأن فكرة الوحدة القوميّة لم تكن متجذّرة عند المواطنين ولم يكونوا جاهزين لها؛ لقد كان لهم حس قومي، ولم يكن لهم تصوّر وفكر سياسي قومي واضح يدعم إقامتها، أضف إلى ذلك أن القوى الاستعماريّة والمعادية للوحدة العربيّة وعلى رأسها بريطانيا وامريكا وفرنسا واسرائيل والقوى الرجعيّة العربيّة المتحالفة معها بذلت قصارى جهدها لإفشالها.

لقد ازداد التعصّب الديني والمذهبي والقبلي في مجتمعنا العربي منذ بداية السبعينيات من القرن الماضي لأسباب عديدة من أهمها انهيار المد القومي بعد رحيل الرئيس جمال عبد الناصر، وعقد اتفاقيّة الصلح المصريّة الإسرائيليّة، وفشل حركة القوميين العرب وحزب البعث، واستمرار التسلّط السياسي وكبت الحريات، ودعم الأنظمة الإقليمية للإسلام السياسي وتوظيفه في التصدي للمعاضة العلمانيّة المطالبة بالديموقراطية وحكم الشعب، واستبدال دولة شيخ القبيلة المستبدة الفاشلة بدولة قانون تحمي الشعب ووطنه.

بعد مائة عام على توقيع اتفاقية سايكس بيكو لم يتغير واقعنا، وبقينا جماعات فئويّة وعشائريّة تتكوّن من مسلمين ومسيحيين وسنّة وشيعة ودروز وقبائل، ولم نتحوّل إلى جماعات وطنية قوميّة تدرك أهميّة وحدتها وتعمل على تحقيقها، وقرأتنا النقدية لواقعنا ما تزال ضعيفة، والفكر التراثي ما زال يتحكم بثقافتنا وعقولنا، وكتب ” تلبيس ابليس، وتفسير الأحلام، وألف ليلة وليلة ” وأخواتها هي الأكثر مبيعا في مكتباتنا.

نحن الآن أمّة ممزّقة نعيش في دويلات ورائيّة عشائريّة فئويّة انقلابيّة متهالكة تحكم بالبطش وبعقليّة القبيلة، وتعتمد على القوة العسكرية وقوى الأمن والمخابرات لاستمرارها؛ ولهذا يمكن القول انه لا توجد أمّة عربيّة فاعلة يحركها الشعور الوطني القومي، وليس هناك وطن عربي واحد؛ وطننا الآن يتكون من أقطار ممزّقة ومنقسمة على نفسها، والغرب ما زال يلعب دورا مهما فيما حدث ويحدث لنا ويعمل للسيطرة على نفطنا ومقدراتنا وموقعنا الجغرافي.

والسؤال المهم الذي يجب طرحه هو: هل نيأس ونستسلم ونتخلّى عن حلمنا بتوحيد وطننا وإنقاذه؟ الجواب هو بالتأكيد لا؛ الشعوب تعاني من هزائم وانهيارات وضعف، لكنها لا تموت وتستطيع ان تصحح مسارها وتخرج من أزماتها وتنتصر، ونحن نستطيع أن نلملم جراحنا ونصحح مسارنا وننتصر كما انتصر غيرنا.

للقضاء على التعصّب والخروج من أزمتنا الحاليّة نحن بحاجة إلى ثورة علمانيّة .. تؤسّس .. لبناء دولة قانون ديموقراطيّة تداوليّة تفصل الدين عن الدولة، وتطلق الحرّيات العامّة، وتعيد للشعور والحس القومي عنفوانه، وتوحّد جهود المواطنين وقادة المجتمع العربي من مثقفين ليبراليين ورجال سياسة وفكر ودين مستنيرين، وتمكنهم من المشاركة في بناء الدولة القومية الوطنية الحديثة، وإلا فإن عاقبتنا ستكون أسوأ بكثير ممّا نحن فيه من مصائب وويلات!

كاتب فلسطيني

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى