مشاهير الزمن الجميل.. أم كلثوم سلطانة الطرب الراقي والاصيل

أم كلثوم، هي أُمُّ الفنون، وأُمُّ الغناء والطرب، وسلطانة الأداء الراقي، وصاحبة أعلى جماهيرية في كل العصور!

فقد اختصرت كل ما سبقها، إفادةً وتأثراً وامتياحاً، فجمعت بين سِحْر زرياب، وعذوبة معبد، والأصوات البغدادية، والموشحات الأندلسية وموسيقاها الشجية، والمواويل العربية، والتركية، والمقامات بضبطها ودقتها، وأضافتْ روعةً ومصداقيةً وألقاً باهراً من الشجن والذاتية والكاريزما الطاغية على اللحن والكلمة والأداء والجمهور، فما عَلِمنا لها من مثيلٍ في البيئة العربية قبلها أو بعدها!

فأم كلثوم هي وحدها التي أرجعت للفن رونقه، وللغناء بهاءه، وللموسيقى ألقها العذب.

وأم كلثوم، هي كتيبةٌ ضخمةٌ، من المبدعين تجسَّدتْ في كيان شخص واحد، هو أم كلثوم بشخصها وثقافتها ومهارتها وعبقريتها ونبوغها، واستمرارها!

فلديها عناية خاصة بمن يعمل معها، من فريق العمل الموسيقي. فهي من تختار فرقتها فرداً فرداً، ولها سلطة تعديل اللحن، والتدخل حذفاً أو إضافة! وهي التي تمتلك سلطة ومهارة وذائقة تغيير كلمات الأغنية، والعجيب أن كبار الملحنين والشعراء يخرون أمام موسوعيتها، وخبرتها، ودربتها، وذائقتها اللاقطة، وأذنها الماهرة.. صاغرين مُقرِّين معترفين مُشيدين بصواب رأيها في البداية والنهاية!

ومَن يمتلك القدرة على إقناع الشعراء والملحنين سواها؟!

ثقافة أم كلثوم

فمن المعروف عنها، أنها كانت قارئة من الطراز الرفيع، ولديها ثقافة رفيعة، فأجادت تجويد القرآن الكريم ومعرفة أحكامه، وقراءاته، والإلمام بالمقامات الموسيقية، وتذوق عيون الشعر العربي في عصوره الزاهية، فحفظت جواهر التراث الفني والأدبي، لذلك كانت أم كلثوم حالة خاصة ونادرة في تاريخ السماع والغناء والموسيقى العربية على الإطلاق!

ففي كتابها المهم (أم كلثوم وعصر من الفن) قالت الدكتورة نعمات أحمد فؤاد عن روعة مواهب أم كلثوم وعبقريتها الفذة، مخاطبة صوتها: كلما أصغيتُ إليك، أمسكت بالقلم طامعةً في تسجيل رفرفة نفسي الفرِحة المرتاحة لنشيدك، فأُحْجِم، لأن الجمال إذا بلغ الغاية من الكمال قد يُفسِده الوصف، مهما تأنَّق وافتنَّ، وهيهات للشعاع، أن تُمسِكه اليد، أو تُحَدِّق في شمسه العين! ولكني هذه المرة، أقدمتُ على الكتابة، لأني لم أقوَ على الدمعة التي تألَّقتْ في عينيكِ المُفدّاة! يغمطكِ قدركِ مَنْ يزعمكِ تُغَنِّين فحسب! إنكِ في مقامكِ شاديةٌ، وشاعرةٌ، وخطيبةٌ، وداعيةٌ إلى الآمال الكبار، وباكيةٌ على آلامنا الكبار أيضاً! إنكِ قطعةٌ منا، إنكِ ذخرٌ كبيرٌ من ثروتنا القومية.. إن الشعب الذي يُصغي إليكِ بحواسه كلها، مكبوتٌ، وعندكِ يجد متنفساً تُغَنِّينه وتُشجينه، وتسرينه وتبكينه على السواء! إنه ليس أمام مُغَنِّيةٍ، ولكنه يعتقد بإحساسه، أنكِ قيثارة! فما هذه الألحان من الأرض التي تتنكَّر للفن في زحمة المال والعلم)؟!

وتضيف قائلة: (وأم كلثوم كشخصية عربية، خليقة بالكتابة والتحليل، بما جمعتْ من قلوب العرب، ووحدَّتْ من كلمتهم، ما عجزتْ عنه السياسات، والإذاعات، والدعايات، والصحف، فالعرب لم يلتقوا من الخليج إلى المحيط في اتفاق ورضا حول أحد، كائناً مَنْ كان، بدون غضاضة أو شائبة، كما التقوا واتفقوا على أم كلثوم).

عبقرية الغناء العربي

وقال عنها الدكتور حسين فوزي: (إنها تمثل في نهوضها وارتقائها آخر ما يبلغه الفن المصري العربي الفارسي العثماني.. وليست هذه قط صورة من الرجعية، لأن أم كلثوم عاماً بعد عام، لم تعرف التراجع، وفنها لم يتوقف حتى آخر الشوط الذي تحدده حياة الفرد..).

وتصف الدكتورة نعمات أحمد فؤاد صوت أم كلثوم وجماله، فتقول بذائقتها الفنية الماتعة: (ومنذ يومين استمعتُ إلى أغنية (رق الحبيب) تلحين محمد القصبجي، وقبلها استمعتُ إلى (وُلِد الهدى) تلحين سيد الملحنين رياض السنباطي، فما الذي لا تستطيعه أم كلثوم؟! وما الذي تستطيعه أية مطربة معاصرة، إذا ما قورنتْ بأم كلثوم؟! لا قوة الصوت، ولا طوله، ولا عرضه، ولا جماله، ولا سهولة الأداء، ولا طول النفس.. ولا حلاوة كل حرف، وكل كلمة.. إنها مَنجمٌ من الذهب اللامع، الذي لا يصدأ، ومنجمٌ من الفضة المضيئة الخاطفة للأذن والعين.. وهي سربٌ من الطيور الرقيقة ترفرف على كل قلب.. وتروح وتجيء).

لا، بل وصل إلى أن يتنازل الموسيقار محمد عبدالوهاب عن طريقته الموسيقية في القيادة، لصالح أم كلثوم، فقال عنه الناقد الفني كمال النجمي: (إنَّ عبد الوهاب بعد (أنت عمري) استسلم للصيغة الخطابية في التلحين لأم كلثوم).

كَلْثَمة الألحان

لذلك، فلا جرم، أن قال عنها بذكاء حاد كمال النجمي في لفتة واضحة: (إن أم كلثوم تأخذ اللحن، فتُكلثِمه، أي تجعله لحناً كلثومياً خالص المذاق واللون والرائحة.. وتصب فيه نبراتها، وتفرشه على قدر ما يناسبه من مساحة صوتها، التي تتسع لكل الألحان، وتهيئ له عمليات دقيقة متأنية ذكية، حتى تجلوه في آخر الأمر على صورته الكلثومية، التي يحار في روعتها السامعون، وتلبس قلوبهم، وعقولهم، وأجسادهم، كأنها مسٌّ من الوجد الصوفي، أو طائفٌ من السِّحْر العجيب).

من هنا، كانت كلمة الموسيقار الكبير رياض السنباطي، لا بل اعترافه القائل: (إنني أعتبر لحن قصيدة (النيل) لشوقي نعمةً أنعم الله بها عليَّ، ولكنْ أين كان مكانها الآن، لو لم يُقيِّض لها صوت أم كلثوم يؤديها).

بل، بلغ بالنقاد في مقتبل حياتها، بعد أن هالتهم، بروعة صوتها، ودقة مخارج صوتها، وسلامة نطقها، أنْ أطلقوا عليها لقب (مطربة النحو والصرف)، لعدم وقوعها في الأخطاء الصوتية، كغيرها من المطربين والمطربات في ذلك العهد.

العقاد وأم كلثوم

وإعجاباً بجمال صوتها وفنها، قال عنها العملاق عباس العقاد في جريدة المصور عام 1949م: (إنَّ أشهر أصوات النساء في اصطلاح الأوربيين هي: السبرانو، ونصف السبرانو، والكنترلتو، ونحن نُفَضِّل أن نترجمها بالصوت المديد، والصوت الوسيط، والصوت الرخيم.. والمتفق عليه، أنَّ صوت أم كلثوم من السبرانو المديد).

أم كلثوم في مرآة عبدالوهاب

وإذا كانت (القفلة) في آخر الأغنية، تمثِّل مشكلة لكل المطربين، فلم يستطع واحدٌ منهم أن يُنهي كل أغانيه، بأفضل قفلة أداءً عالياً ناجحاً، إلا أم كلثوم، التي وصفها محمد عبدالوهاب قائلاً: (فالقفلة عند أم كلثوم طبيعية سهلة من موهبة مؤاتية، حين يحتشد الصوت لهذه القفلة المغنون من تهيبهم، وبعد الاحتشاد يتسلَّح الصوت، وتضيع منهم القفلة في معظم الأحوال.. ولكنَّ أم كلثوم هي الصوت الظافر، فلم تضع منها القفلة في حياتها مرَّةً واحدةً! فكل مُغَنٍّ في صوته منطقة تمثِّل نقطة القوة عنده، ولكنَّ أم كلثوم صوتها مناطقه كلها قادرة، وهذا سر تنقلها بين النغمات، والدرجات، بسهولة، وتكافؤ، وكفاءة).

ولهذا، فلم يملك الناقد الموسيقي سليمان جميل نفسه، إلا أن يقول عن طبقات صوت أم كلثوم، ومساحته، بكل أمانة علمية: (شخصية أم كلثوم أول عناصرها، الصوت. وصوتها له مساحة من درجات الأنغام، يمكن قياسها بـ(أوكتافين)، أي عدد (2) أوكتاف، وكلمة أوكتاف معناها مساحة صوتية من (8) درجات نغمية. والحقيقة، أنَّ مساحة الصوت في حنجرة أم كلثوم، والتي تبلغ نحو (16) درجة نغمية، تمتاز بأنَّ كل نغمة فيها، تخرج كاملة الوضوح، وذلك من أول نغمة منخفضة (1) في قرار مساحة الصوت، إلى آخر نغمة حادة، في قمة هذه المساحة الصوتية. المهم، أنَّ صوت أم كلثوم، لا نعرفه فقط بتقدير مساحته، وإنما أيضاً بقدرته على أداء الحركة الموسيقية، أي الانتقال من نغمة إلى أخرى).

ولذلك، اعترف بصدق، الملحن الكبير زكريا أحمد قائلاً: (إنَّ الجملة الموسيقية بأداء الملحن، تكون عادة أفضل منها بأداء المغنية، لأنه خالق الجملة، أمّا بالنسبة إلى أم كلثوم، فالعكس هو الصحيح).

فلا جرم، أنْ فُتِن عبدالوهاب بصوتها، فقال عنه وعنها: (إنها المغنية الوحيدة، التي جمعت بين القوة، والعاطفة، والحساسية في صوتها، وإنها الصوت الوحيد القادر على أن يتمرد على ذل الميكروفون.. إنها واجهتْ الجمهور وحدها في أول حياتها، من غير سندٍ، وهذا أعطاها الشجاعة، والشخصية، والقدرة على القفلة السليمة).

ويرى الموسيقار سامي الشوا: (أنه لولا أم كلثوم، لَما ظل للموسيقى العربية طابعها التقليدي، فمنذ سبعين عاماً، كان المُغَنِّي يغني التواشيح والقصائد، ثم جاءت فترة تجارية راجت فيها الطقاطيق، ثم عادت بنا أم كلثوم إلى القصيدة، وبهذا حفظت للموسيقى الشرقية طابعها التقليدي).

وقال عنها الملحن الكبير محمد القصبجي إعجاباً بمهارتها، ونبوغها، وقوة حافظتها: (إنها تحفظ أقوى الألحان في جلستين اثنتين، وهذا يعد في نظري إحد خوارق أم كلثوم).

أم كلثوم والشعراء

وصفها أحد شعراء تونس بعد زيارتها لها، وغنائها على أكبر مسارحها، فقال شعراً:

 تُرسلين اللحنَ ترياقاً لأرواح شقيهْ

    كم شفَى اللحنُ نفوساً زادها الطِّبُّ بَلِيَّهْ

يا لها ليلةَ أنسٍ من لياليكِ هنيَّهْ

     يومَ حلَّتْ كوكبُ الشرقِ ورمز العبقريَّهْ

سوف لا ننسى جميعاً قصةَ الحبِّ الشجيَّهْ

    (أنت عمري)، (فكَّروني)، بين (أطلاٍل) خفِيَّهْ

يا عروسَ النيلِ، يا من أنتِ باللحنِ حيِّيَّهْ

    إنْ يكنْ للخلدِ لحنٌ، أنتِ لحنُ الأبديَّهْ

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى