الفلاّح الفلسطيني

كانت فلاحة الأرض من أهمّ أسس عمارة الكرة الأرضيّة، والفلاّح هو الذي أحدث نقلة نوعيّة في تطوير وتقدّم الجنس البشري، ووضع حجر الزاوية لاستقرار الإنسان عندما زرع الأرض، وحرس زرعه واعتنى به، وقطف ثماره، وأكل وأطعم غيره منه ليواصل هو والآخرين رحلة الوجود معا في مجتمعات تخلّت عن تنقّلها الدائم بحثا عن الطعام، واستقرّت في كوكب ” آدم وحواء ” الأجرد الصحراوي الموحش، وبنت أوطانا إنسانيّة متحضّرة عامرة بالمدن والبلدات والقرى الحديثة والعلم والثقافة.

يعتبر الفلاّح الفلسطيني من أوائل المساهمين في الزراعة واستقرار الإنسان على شواطئ البحر الأبيض المتوسط؛ التوراة والإنجيل والقرآن والآثار التي تركها منذ أكثر من ثلاثة آلاف سنة تقدّم أدلّة على اهتمامه بالزراعة وتطويرها، وتذكر أنه كان ينتج كميّات وفيرة من محاصيل القمح والزيتون والتين والقطين والعنب والنبيذ التي كان يعتمد عليها في غذائه.

لقد أبدع في عمارة أرضه وزراعتها، ولهذا كانت فلسطين حتى احتلالها من أكثر الدول العربية تطوّرا في إنتاج أنواع مختلفة من الحبوب والخضار والفاكهة والزيتون والزيت، وتصدّر فائض إنتاجها للمدن والبلدات المجاورة، وجاذبة للعمالة العربيّة، ويأكل أهلها ممّا ينتجه أبناءها.

في بداية الخمسينيّات من القرن العشرين كانت الحياة في قرى فلسطين بسيطة وسهلة ورخيصة؛ وكانت مبانيها وأزقتها وطرقها الترابية الضيّقة لا تختلف كثيرا عمّا كانت عليه في القرون الماضية؛ كان معظم الفلاحين لا يقرؤون ولا يكتبون، ومتشابهين في معتقداتهم وعاداتهم وتقاليدهم وقيمهم وفقرهم ومهنهم واهتماماتهم وبيوتهم، وعلاقاتهم المجتمعية وديّة وتعاونيّة وقائمة على الثقة والاحترام المتبادل، وتناغم نمط حياتهم مع بساطتهم وقدرتهم على التكيّف مع ظروفهم ومصادر رزقهم وبيئتهم الاجتماعيّة، وعاشوا سعداء على طريقتهم الخاصّة وحسب فهمهم للسعادة.

كان الفلاح يرتدي ” قمبازا ” مفتوحا من الوسط، وله ” قيطان” خيطين من القماش طويلين يخاط كل منهما على طرف من أطرافه، وتكون فيه فتحة يمرّر لابسه أحد القيطان منها، ويشدّ القيطانين ويربطهما في منتصف ظهره ليبقي القمباز مغلقا وثابتا، أو يفصّل ” طقم ” – قمباز وجاكيت من نفس اللون -، وملابسه الداخلية تتكوّن من ” لباس” أبيض أو أسود اللون واسع، ” وفنيلة “، وكان ” قمبازه” المفتوح من الأمام، و” لباسه ” الواسع يمكّنانه من سهولة الحركة في الأزقة والطرق الوعرة والعمل في الحقول؛

ويرتدي حذاء، أو” كوشوكة ” مصنوعة من إطارات السيارات عندما يعمل في الأرض، ويغطّي رأسه ب ” شوره” حطّة بيضاء، أو شماغ أحمر أو ملوّن ويضع فوقه عقالا أسود، واعتبر كشف الرأس في بعض القرى ومن ضمنها قرية عقربا عيبا وخروجا على العادات والتقاليد الحميدة المألوفة؛ ولهذا قلّد الأطفال آباءهم في ارتدائه، وشاركوهم الاعتقاد بأن الحطة والعقال يكوّنان رمزا للرجولة والكرامة، لكن التمرد على ارتداء غطاء الرأس بدأ في منتصف الخمسينيات وأوشك أن يندثر في الوقت الحاضر.

وكان من عادة الفلاح أن يستيقظ من نومه قبل شروق الشمس، ويتناول طعام الإفطار، وينطلق إلى أرضه لحراثتها وزراعتها في فصل الشتاء، وينشغل في مراقبة المحصول وتعشيبه خلال فصل الربيع، ويحصده ويدرسه ويخزّنه لصنع الخبز وإطعام عائلته، ويبيع الفائض عن حاجة أسرته في المدن المجاورة، ويقطف الزيتون، أو يرعى أغنامه في محيط قريته، أو في الأغوار كما كان الحال في قرية عقربا.

كانت الحياة الاقتصادية في القرى تعتمد على المحاصيل الزراعية المحليّة أو المستوردة من المدن المجاورة؛ وعلى محلات البقالة التي تعرض الضروريات كالأرز والسكر والشاي والمحروقات والخضار والفواكه والحلويات، والمقاهي، ومحلات الجزارة؛ بالإضافة إلى ذلك كان بعض أبناء القرى يفتحون محال تجارية بسيطة في المدن المجاورة، أو يملكون باصات أو حافلات صغيرة لنقل الركّاب إليها.

لم يكن في القرى محال تبيع الأقمشة والألبسة الجاهزة والأحذية؛ ولهذا كان الفلاح ” يمدّن ” يذهب إلى المدينة لبيع منتجاته، وشراء ما يحتاج إليه هو وأسرته، ولا يصطحب زوجته أو بناته معه إلا للعلاج أو لشراء بعض حاجاتهن الضرورية التي لا تتوفر في القرية، ولم يتعامل مع البنوك في ذلك الوقت، ويخبأ ما يملك من مال قليل ومقتنيات زوجته من الفضة أو الذهب في ” الصحارة “- صندوق خشبي مزركش – كانت تحصل عليه العروس كجزء من جهازها للزفاف.

كانت ثروته تقدّر بما يملكه من أرض زراعية وأشجار زيتون وماشية؛ لقد استمر هذا الوضع لمدة قرون، وبدأ يتغيّر عندما هاجر بعضهم إلى الولايات المتحدة وأمريكا الجنوبية بعد الحرب العالمية الأولى، أو خدموا في الجيش البريطاني خلال الانتداب، أو انضموا إلى الجيش الأردني بعد اتّحاد الضفة الغربية مع الأردن، أو ذهبوا إلى دول الخليج وخاصة دولة الكويت بحثا عن عمل.

أما الإدارة المحليّة فكانت مكوّنة من ” مختار أو أكثر ولجنه ” حيث أن عدد المخاتير كان يعتمد على حجم وعدد سكان القرية؛ قرية عقربا على سبيل المثال تتكون من سبع حمائل، وكان عدد سكانها في مطلع الخمسينيات من القرن العشرين لا يقلّ عن 2000 نسمة، ولها ثلاثة مخاتير ” ولجنه ” مكوّنة من أعضاء يمثّل كل منهم حامولة معينة، وشكّل فيها أول مجلس قروي في الستينيات من القرن.

كان المختار يمثّل قريته عند الجهات الحكوميّة، ويتّصل بالمسؤولين ويطلعهم على أوضاعها وما تحتاجه من خدمات، ويوقّع بختمه الأوراق الرسميّة، ويسجّل الوفيات والمواليد من ذكور وإناث في دائرة الأحوال المدنيّة في المدينة التي تتبعها القرية إداريا، ويجتمع مع أعضاء اللجنة للتشاور في المسائل الهامّة، ويتدخّل هو أو أعضاء اللجنة لحل النزاعات بين السكان، ويتمتّعون بمكانة اجتماعية مميّزة وسلطات تشبه تلك التي يتمتّع بها شيخ القبيلة ووجهائها!

كان الفلاح يقضي وقت فراغه في بيته وفي محلات البقالة والمقاهي؛ ففي الأيام التي لا يعمل فيها في أرضه يذهب مع شروق الشمس إلى بقالة الحامولة أو مقهى القرية؛ في قرية عقربا كانت دكاّنة أبو كاظم مركزا لتجمع عدد كبير من رجال حمائل بني جابر، وبني منيه، والديرية؛ وتمتلئ بهم بعد شروق الشمس مباشرة، ويشربون الشاي ويتحدثون عما زرعوه وعن توقعاتهم عن إنتاج المحاصيل؛ ويتبادلون آخر أخبار القرية، والشائعات،  “، ويستمعون إلى نشرات الأخبار وتعليقات أحمد سعيد السياسية التي كانت تبث من صوت العرب من القاهرة، ويناقشون الأخبار المكرّرة عن قضية فلسطين والسياسة العربية، وخاصة آخر أخبار مصر والرئيس جمال عبد الناصر رحمه الله الذي اعتبره العرب بطلا قوميّا هدفه طرد المستعمرين وتوحيد الوطن العربي وتحرير فلسطين.

كانت هذه اللقاءات تتكرّر صباحا وبعد الظهر ومساء، والأحاديث والقصص التي تسرد خلالها لا تتغيّر كثيرا طيلة أيام السنة، ولا تخلوا من المناقشات الحادة؛ لكن الناس كانوا بسطاء ومتسامحين ” ويتحمّلون” بعضهم بعضا، وحظي كبار السن والقلة المستنيرة منهم بمكانة ومعاملة خاصة، ويجلسون في أماكن مميّزة عندما يتواجدون في هذه اللقاءات، ويستمع الحضور إليهم بأدب، ويتدخلون لوقف المناقشات الحادة التي تحدث خلال النقاش، ويعيدون الهدوء والوئام إلى الجلسة.

الفلاح وفيّا لأسرته وعائلته وحامولته وقريته، ويعتبر سمعته الطيّبة بين أقاربه وأهل قريته أهم ما يملك؛ ولهذا كانت هناك خطوطا حمراء لا يمكنه أن يتجاوزها من أهمها المحافظة على سمعة وأعراض أقاربه وجيرانه وأصدقائه وأهل قريته، والابتعاد عمّا يعيبهم أو يؤدي إلى تشويه سمعتهم، لأن تجاوزات كهذه تقابل بالعداء الشديد، وقد تؤدي إلى قتل الفاعل وطرد أسرته من القرية.

وكان يشارك في أفراح الجميع بطريقة تلائم سنّه ومكانته الاجتماعيّة، فيرقص أو يغني في الأعراس ويطلق الرصاص من مسدسه أو بندقيته أو ” خرطوش ” الصيد إن ملك أيا منها، أو يشارك في استقبال الضيوف، وفي الطبخ وتقديم الطعام والمشروبات كالشاي والقهوة، ويساعد أقاربه وأصدقاءه في حصاد القمح وقطف الزيتون.

وفي حالات الوفاة كان يشارك في الدفن وتقبّل وتقديم العزاء والطعام، وإذا كان المتوفي من أقاربه فإنه يمتنع عن إقامة حفلات الخطوبة والزواج لأفراد اسرته، ولا يشارك في الغناء والرقص حتى ” يربعن ” المرحوم، أي يمر على وفاته أربعين يوما، ويعود المرضى من أقاربه وأصدقائه ومعارفه ويظهر تعاطفه معهم.

ومن المؤسف أنّه كان غالبا ما يقف مع أقاربه وأهل حامولته في خلافاتهم ومشاجراتهم مع الآخرين، ويدعم مواقفهم سواء كانوا على حق أو باطل؛ إنني ما زلت أذكر بعض المشاجرات التي وقعت بين عائلات في حمائل مختلفة، وبين حامولتين استخدمت فيهما الحجارة ” وفشخ ” فيهما البعض -أصيبوا بجراح في الرأس-؛ وعلى الرغم من هذه التصرفات المتحيزة التي لا علاقة لها بالتحضر والعقل والمنطق، فإن معظم هذه الخلافات والمشاجرات كانت تنتهي بتدخل الأقارب والوجهاء ويعود الوئام والصفاء إلى ما كان عليه.

على الرغم من افتقار الحياة الريفيّة في ذلك الوقت إلى وسائل الحداثة، إلا ان الفلاحين عاشوا حياتهم بعزّة وكرامة. كنت كثيرا ما أجالس أولئك الناس العفويين الطيبين في بقالة والدي، وعندما تعود بي الذاكرة إلى تلك الأيام، أشعر أنهم كانوا سعداء وراضين عن حياتهم، وقانعين وواثقين بربهم، ومستسلمين لإرادته الخيّرة ولما قدّره لهم من غنى وفقر، وصحة ومرض، وسعادة وشقاء، ولا يعانون من الضغوط النفسية والمادية والتعقيدات الاجتماعية التي نعاني منها نحن الآن في مجتمعاتنا الحديثة.

أولئك الأجداد والآباء البسطاء عمّروا فلسطين بعرقهم ومعاولهم، وزرعوها زيتونا ولوزا وتينا وعنبا وقمحا فأطعموا أهلها وغيرهم في عدد من الدول العربية، وأنجبوا رجالا ونساء تعلّموا وعلّموا وزرعوا وصنعوا، وربّوا أجيالا، وبنوا مدنا وقرى حديثة، وضحّ            وا واستشهدوا دفاعا عن فلسطين ووطنهم العربي.

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى