قبل 48 عاماً.. افول عصر وليس رحيل رجل

بقلم : فهد الريماوي

في اليوم الثامن والعشرين من شهر ايلول الاسود عام 1970 لم يرحل زعيم عظيم بمفرده، بل رحل عصر عربي باكمله .. لم يتوقف قلب واحد عن الخفقان، بل توقف قلب امة باجمعها .. لم تغادر الروح قامة “ابي خالد” فقط .. بل غادرت ايضاً كيان العروبة الممتد من المحيط الى الخليج.

في ذلك اليوم المشؤوم حُم القضاء ووقعت الواقعة .. ارتجفت الاهرام من هول الصدمة، وفاض النيل بدموع المصريين، فيما تضورت الملايين العربية وجعاً وجزعاً ولوعة، ووقف العالم باسره بين يدي الذهول والانشداه .. فقد قضى جمال عبد الناصر، الممثل الثوري الوحيد للشعب العربي، سواء في اروقة الحكم او في اعالي الحلم.

في مثل هذا اليوم من كل عام ينفض احرار العرب وشرفاؤهم ما علق بواقعهم من غبار الغفلة والنسيان، ويحجون زرافات ووحداناً الى مناسك الذكريات .. يستعيدون وقائع الرحيل المفجع، ويسترجعون مشاهد الوداع الجنائزي الذي لا سابق لمثله في التاريخ العربي الحديث، ويترحمون على روح “ابي خالد” الذي ظل عذباً وحميماً وفي متناول القلب الشعبي العربي حتى آخر يوم من عمره، ونفس من انفاسه، ورمق من حياته.

ليس من الضروري التنويه والتذكير – في هذه المناسبة – بمواقف ومبادئ وتضحيات وانجازات “ابي خالد” السياسية والاقتصادية والثقافية والنهضوية، فهي مسطورة في دفاتر التاريخ، ومعروفة للقاصي قبل الداني، ومعترف بها من لدن العُدول والمنصفين غير المكذوب عليهم او الضالعين في الجحود والنكران والاجحاف بحق الآخرين .. غير ان من اللائق والمناسب التأشير، بحروف الفخر، الى اخلاقيات هذا الزعيم الزاهد المتحدر من سلالة ابي ذر، والعفيف المسكون بما يقارب طهر الملائكة، والامين القوي القائم في طليعة حراس الفضيلة .. في حين يغص العالم شرقاً وغرباً بالرؤساء والحكام الوالغين في الفسق، والسادرين في الفساد، والمسربلين بعار الخلاعة والتحرش الجنسي، وخزي الرشوة والسمسرة والتربح والابتزاز.

اين عبد الناصر التقي النقي من رئيس داعر مثل ترامب، او ماجن مثل كلنتون، او عاهر مثل بيرلسكوني، او سكير مثل يلتسين، او سمسار مثل بلير، او محتال مثل نتنياهو وزوجته الشهوانية الشيطانية، او زنديق مرتزق مثل ساركوزي الذي ارتشى من معمر القذافي ثم ما لبث ان كافأه “بجزاء سنمار”.

اين “ابو خالد” الناسك النبيل الذي ترفع عن كل الملذات، واعرض عن زخرف الدنيا، من الحشاش انور السادات الذي نهب مع اقربائه وانسبائه ومحاسيبه ما غلا وبهر من خيرات مصر .. وقل مثل ذلك عن المخلوع حسني مبارك الذي اكتنز المليارات، واعتبر ارض الكنانة مجرد اقطاعية خاصة يعيث فيها سلباً وسطواً، ويورثها لانجاله من بعده، لولا ان حاق به غضب الرب وثورة الشعب.

اين قيم وشيم وطباع عبد الناصر المدجج بموفور الكبرياء، والمفعم بروح البطولة والحمية، والجياش بعنفوان التحدي والاقدام، من حاكم انهزامي مثل زين العابدين بن علي، او استسلامي مثل محمود عباس، او “فلولي” مثل مرسي العياط، او تنازلي مثل عبد الفتاح السيسي الذي باع جزيرتي تيران وصنافير بثمن بخس.

ولعل من افدح الظلم لعبد الناصر والاساءة الى تاريخه، ان نعقد اية مقارنة او مفاضلة بينه وبين حكام الخليج السفهاء الجهلاء الذين كفروا بالنعمة، وبطروا باموال النفط، وتجردوا من الاخلاق، وتكبروا على اخوانهم من فقراء العرب، بينما دفعوا للاجنبي ثمن عبوديتهم، وزحفوا على بطونهم لنيل رضا لندن وواشنطن وتل ابيب، وتسابقوا فيما بينهم لاستقدام القواعد العسكرية، واستضافة الاساطيل البحرية الاستعمارية.

انظروا شرقاً وغرباً، واحكموا ان كان هناك في كل قارات العالم من يضاهي اولئك الحكام الخلايجة في الهدر والتبذير والاسراف من المال العام على اتفه الامور، واحقر الشهوات، واقبح النزوات، وارذل الرغبات .. سواء لاقتناء الحريم، او تعاطي المنكر، او امتلاك الصروح والابراج واليخوت والقصور الطائرة، او شراء الذمم والضمائر من اصحاب الاقلام المؤلفة قلوبهم، او تمويل الارهاب الوهابي والاخواني، وتسميم الوعي العربي والاسلامي، ونشر حثالات الهجس الرجعي والطائفي والانقسامي.

ولو اقتصر عهرهم ومجونهم وفسادهم على انفسهم وبلادهم لهانت المصيبة، وخفت وطأة الشر والضرر، وامكن محاصرة هذا الوباء ومعالجته .. ولكنهم عمدوا، بكل ما لديهم من امكانات هائلة في التضليل والتدليس والتنويم المغناطيسي، الى نشر “فلسفة” التفاهة والسفاهة على الملأ العربي كله، والى ترويج “ثقافة” الجشع والطمع وعبادة المال على حساب اسمى المبادئ والمثل والعقائد، والى تفريغ الانسان العربي من مضمونه الوطني والقومي والتحرري الملتزم بثوابت الامة .. بل حتى تفريغه من المصداقية الذاتية، والنظافة الشخصية، والامانة الضميرية.

قد يظن الكثيرون ان الخراب السياسي والاقتصادي والاجتماعي والعسكري، هو الاثم الوحيد الذي اقترفه الحكام الخلايجة بحق ابناء امة العرب .. ولكننا نجزم ان برامجهم ومناهجهم ومخططاتهم في التخريب الروحي والاخلاقي والسيكولوجي، هي الاخطر والافدح والاقبح، نظراً لما تبثه بين ظهراني امتنا من مثالب الانحلال والانحطاط والكراهية والانانية المفرطة والسعار الاستهلاكي، والتكالب على الثراء مهما بلغ الثمن.

وعليه، فلم يكن “ابو خالد” قائداً مقداماً وزعيماً سياسياً عظيماً فحسب، بل كان – بنفس القدر والمستوى – قدوة جليلة، واسوة رفيعة، وقوة مثال معنوية واخلاقية مهيبة لعموم الشعب العربي الذي طالما ضحى بالاموال والارواح والدماء فداءً للاوطان، وكفاحاً ضد الصهيونية والاستعمار، والتماساً للوحدة والحرية والعدالة الاجتماعية .. وليس العكس، كما يحدث في وقتنا الحاضر المتخم باليأس، والملطخ بالخيانة،  والمزدحم بالغرائب والعجائب حتى صح فيه قول الشاعر ابو تمام ..

على أنها الايامُ قد صرنَ كلها      عجائبَ حتى ليسَ فيها عجائبُ

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى