بانتظار عزله.. الدولة العميقة تحبط شطحات ترامب وتعطل قراراته المتطرفة 

عمت حالة من الاضطراب في البيت الأبيض إثر نشر مقال في صحيفة نيويورك تايمز بتوقيع مسؤول لم يكشف عن هويته في إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، يصف فيه الرئيس بأنه يفتقر إلى الأخلاق ويتخذ “قرارات طائشة”.

ونشرت نيويورك تايمز المقال بعد يوم من نشرها مقتطفات من كتاب “خوف، ترامب في البيت الأبيض” للصحافي الاستقصائي بوب وودورد يزعم أن موظفي البيت الأبيض يناضلون باستمرار لكبح سلوك الرئيس السيء.

وفي كتابه الجديد، الذي صدر يوم الثلاثاء الماضي، يصف وودورد ترامب بأنه رئيس جاهل وعصبي ومصاب بجنون الارتياب، مؤكّداً أنّ مساعدي الرئيس يسعون جاهدين لاستيعاب هذه الصفات لتجنّب أسوأ التجاوزات.

وفي مقال “أنا جزء من المقاومة داخل إدارة ترامب”، أشار الكاتب المجهول الذي وصف نفسه بـ”المقاوم”، إلى أنّ الكثير من كبار المسؤولين في إدارة ترامب، أعربوا عن انزعاجهم الشديد من سلوك الرئيس “غير المنضبط” و”غير الأخلاقي”، وأنهم يبذلون قصارى جهدهم للحدّ من التداعيات الكارثيّة لبعض قراراته المتهوّرة. كما تحدث المسؤول عن محاولات داخل الإدارة الأميركية، لاتخاذ خطوات لإزاحة ترامب عن الرئاسة، إلا أن أحدًا لم يكن يريد تعجيل حدوث أزمة دستورية في البلاد.

وقد نقل الصحافي الشهير الذي كشف مع كارل بيرنستين فضيحة “ووترغيت” التي كانت وراء استقالة ريتشارد نيكسون عام 1974 عن وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس قوله إن مستوى الفهم لدى ترامب هو مستوى فهم طفل في العاشرة أو الحادية عشرة من عمره بحسب مقتطفات نشرتها صحيفة واشنطن بوست الأسبوع الماضي. لكن ماتيس نفى ذلك على الفور في بيان. تبعا لذلك بات الأميركيون على علم بأن هناك “أبطالا مجهولين” حسب تعبير المسؤول البارز، يعملون بصمت داخل الإدارة الأميركية لكبح جماح الرئيس.

لكن ما الذي يمكن أن يفعله الوزراء والمسؤولون الحكوميون الآخرون إذا أقدم الرئيس على فعل متهور حقاً، مثل شن هجوم عسكري غير مبرر أو حتى القيام بضربة نووية؟ يجيب عن هذا التساؤل المراسل الصحافي مايكل هيرش في تقريره على مجلة فورين بوليسي الأميركية قائلا “يمكنهم في الحقيقة أن يفعلوا الكثير، على الرغم من عدم قدرتهم دائمًا على القيام بذلك بشكل قانوني أو دستوري”.

ويلفت هيرش إلى أنه من اللحظة الأولى أثار ترامب جدلاً منذ أن خرج من مصعد برجه في نيويورك في عام 2015 للإعلان عن ترشحه للرئاسة، لكن ما يتضح للعلن حاليا أنه لم يكن يحظى بدعم تام، بعد أن كشف المسؤول رفيع المستوى لنيويورك تايمز أن “مقاومة” داخلية كانت “تعمل بجد من الداخل لإحباط جزء من أجندته وميوله غير المسؤول”. صحيح أن الخطوط التي يعارضها مسؤولون داخل إدارة ترامب غير واضحة المعالم، لكن من المحتمل جدًا أن تكون لبعضها علاقة بسياسته الخارجية وجنوحه للتصعيد واستخدام القوة.

استخدام القوة

استنادا إلى الكتاب الجديد لبوب وودورد ومعلومات من مصادر أخرى، يبدو أن البنتاغون ووكالة الاستخبارات المركزية يحاولان عرقلة دوافع ترامب الأكثر تشددًا منذ بداية رئاسته.

من الناحية القانونية، يتمتع رئيس الولايات المتحدة بسلطة لا ضابط لها تقريباً لاستخدام القوة متى وأين يريد ذلك في ظل وجود واحد من القيود القليلة وهو قرار سلطات الحرب لعام 1973 وبنوده المشكوك فيها دستوريًا والذي يمنحه مهلة 60 يومًا قبل الحصول على موافقة الكونغرس.

وقال جيه جونسون -وهو وزير أمن داخلي سابق ومستشار دفاع في وزارة الدفاع- “دستوريًا، الرئيس هو القائد الأعلى للقوات المسلحة، ولا يمكن لأي مسؤول تحته أن يستخدم حق النقض ضدّ أوامره”.

ينطبق هذا بشكل خاص على الترسانة النووية الأميركية التي مثلت جزءا من الحرب الباردة، عندما كان وقت الاستجابة السريعة جزءًا أساسيًا من استراتيجية الردع في الولايات المتحدة. وتهتم البروتوكولات النووية عادة لتنفيذ الأوامر تنفيذا كاملا بتأكيد هوية الرئيس، وليس بسلامة عقله. وهكذا، من الناحية الفنية، يمكن أن يرتب ترامب لضربة نووية من تلقاء نفسه. وقال جونسون “من أجل الأفضل أو الأسوأ، يفترض نظامنا الدستوري وجود فاعل عقلاني وناضج على قمة الإدارة”.

ورغم مرور أكثر من ربع قرن على انهيار الاتحاد السوفييتي لم يتغير الكثير من هذا النظام داخل الإدارة الأميركية، وعقدت لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، العام الماضي، بقيادة منتقد ترامب المتقاعد السيناتور الجمهوري بوب كوركر، جلسة استماع للنظر في إدخال تغييرات على سلطة الرئيس لإطلاق الأسلحة النووية، بما في ذلك مطالبة الرئيس بالحصول على موافقة رئيس البنتاغون. لكن الكونغرس لم يتصرف حيال هذا الأمر.

وقال سكوت هورتون -محام حقوقي متخصص في الحرب السرية غير القانونية- “أشعر بالقلق الشديد. أعتقد أننا على الأرجح قد اقتربنا مما كنا عليه في عهد حادثة ’إيبل آرتشر’ (وهي أخطر مواجهة نووية أميركية-سوفييتية من أزمة صواريخ كوبا لعام 1983).. رجل بهذه القوة يمكنه فعل أي شيء في لحظة من الطيش دون أي تفكير”.

وعلى الرغم من هذه المخاوف فإن معظم سيناريوهات استخدام القوة الفعلية التي من المرجح أن يواجهها ترامب، تخضع لقيود عملية يمكن أن تتخذها إدارته، حيث يمكنها تجاهل الأوامر أو بناء العوائق البيروقراطية أو إبطاء سير العملية، وهذه هي جميع الطرق التي حاول منتقدو ترامب داخل الإدارة -على ما يبدو- تجربتها.

أحد الأمثلة على ذلك حدث منذ عام، بعد أن هدد ترامب بـ”تدمير كوريا الشمالية”، متعهدا بصب “نيرانه وغضبه على هذه الدولة بشكل لم يره العالم من قبل”. وقال وودورد بأنه مهووس بإعادة الجنود الأميركيين المنتشرين في كوريا الجنوبية.

وقال إن ترامب صرح أثناء اجتماع “لا أدري لماذا هم هناك؟” مضيفا “لنعدهم حالا إلى البلاد”. وإثر ذلك أوضح له وزير الدفاع جيمس ماتيس “نحن نفعل ذلك لتفادي حرب عالمية ثالثة”.

وأشار مستشار قانوني حكومي سابق كبير إلى أن مسؤولي البنتاغون هرعوا لوضع قائمة مكونة من 12 خطوة يتعين على الرئيس أن يمر بها قبل إطلاق القنابل. فيما يسلط وودورد -وهو من أشهر الصحافيين الاستقصائيين الأميركيين في واشنطن بوست- الضوء على قضية أخرى في كتابه الجديد.

ويذكر وودورد أنه بعد أن أطلق الرئيس السوري بشار الأسد هجوماً كيميائياً على شعبه في أبريل/نيسان 2017، اتصل ترامب بوزير الدفاع جيمس ماتيس وقال له “دعونا نقتله”. لكن ماتيس أخبر أحد مساعديه “نحن لن نقوم بأي من ذلك.. يجب على تحركاتنا أن تكون وفق خطة”. ثم قام ماتيس بإعداد بعض الخيارات لشن غارة جوية على المواقع العسكرية السورية، ووافق ترامب على توصياته. ووفقًا للباحث القانوني لجامعة ييل هارولد كوه، الذي عمل مستشارًا قانونيًا للرئيس باراك أوباما في وزارة الخارجية، “سواء كان ماتيس هو الشخص الذي كتب هذه المقالة في التايمز أو لا، فإن ذلك يمثل بوضوح الطريقة التي يدير بها الأمور”.

وقال كوه، الذي حضر اجتماعات لا تعد ولا تحصى تتعلق بالقرارات الرئاسية حول استخدام القوة، إن وزير الدفاع يمكن أن يعرقل النظام بطرق أخرى أيضاً، “إذا كان ماتيس لا يريد أن يفعل ما يأمره به ترامب، فإنه يستطيع أن يقول إنه علينا أن نطور سلسلة من السيناريوهات. ثم يتعين عليك عقد اجتماعات في غرفة العمليات. ثم تقوم بدعوة مجموعة من المحامين، ثم يقوم شخص ما بعمل قائمة تضم كل المقترحات، وعواقبها القانونية والسياسية والدبلوماسية”.

ويتابع كوه “عند هذه النقطة، يكون قد شارك حوالي 100 شخص في اتخاذ القرار، مما يجعل ترامب يفكر مرة أخرى بشأن قراره، أو أن ينسى ما طلبه بالضبط”. وحدث نفس الشيء بعد واحد من التصريحات الأولى التي صرح بها ترامب عن الجيش، من خلال نشره تغريدة يمنع فيها المتحولين جنسياً من الالتحاق والخدمة بالجيش. وقال الجنرال جوزيف دانفورد، رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية، آنذاك إنه “بدون أمر رسمي من الرئيس، سنستمر في معاملة جميع موظفينا باحترام”.

وأضاف النقيب جيف ديفيس، المتحدث باسم ماتيس، “لم ننفذ سياسة مبنية على تغريدة”. وعند إعلان ترامب خلال الحملة الانتخابية عام 2016 أنه أراد استهداف عائلات الإرهابيين وتعذيبهم، لاقى قراره هذا مقاومة من ماتيس، ما أدى إلى تراجع الرئيس ترامب عن قراره. وقال الرئيس ترامب بعد مرور أسبوع من توليه منصبه “لقد صرح ماتيس علناً بأنه ليس بالضرورة أن يكون مؤمنا بالتعذيب، وأنا لا أتفق بالضرورة مع وجهة نظره. لكنني أخبركم بأنه سيتخطى ذلك لأنني أعطي له تلك القوة”.

وللإشارة يجب أن تكون بعض الأوامر الرئاسية مصحوبة بنتائج قانونية، أو ما يعرف باسم “استنتاجات الأمن القومي”. لكن إذا لم يقم مسؤولو إدارة ترامب بصياغة مثل هذه الأوامر، فقد تكون هذه طريقة أخرى شبه قانونية يمكنهم من خلالها أن يمنعوه من تنفيذ أوامره”.

وقال روبرت تايلور المحامي العام السابق في البنتاغون “هناك حاجة لأن يتخذ الرئيس قراراً، وسيكون بحاجة إلى أن يلجأ إلى ذلك كتابياً”. ومع ذلك، يختلف تايلور وغيره من المحامين الحكوميين حول ما إذا كان حتى الشرط القانوني لصياغة أمر كتابي يمكن أن يتجاوز أمرًا رئاسيًا في النهاية أم لا.

وتضع بعض القوانين مثل قانون 50 الذي يحكم أنشطة وكالة الاستخبارات المركزية في تحذيراتها أن هذه النتائج “يجب أن تكون مكتوبة، ما لم يكن هناك إجراء فوري من قبل الولايات المتحدة مطلوبا والوقت لا يسمح بذلك”.  ومع ذلك، أضاف تايلور “الشيء الذي يدهشني مراراً وتكراراً هو أن ترامب يتمتع بهذه السلطة والقوة الشاسعة، لكن لا يبدو أنه يفهم كيفية استخدامها”.

ويوافق ماثيو واكسمان، الذي خاض العديد من المعارك البيروقراطية حول مكافحة الإرهاب أثناء عمله محاميًا في وزارة الدفاع ووزارة الخارجية الأميركية، على ذلك بقوله “ليس الأمر كما لو أن الرئيس الأميركي يمتلك هاتفاً يصدر من خلاله الأوامر مباشرة إلى القوات في الشرق الأوسط التي هي على أهبة الاستعداد لتنفيذ هجوم. ولكن عليه أولاً أن يعرف كيف يفعل ذلك”. وأضاف “هذا يعني التشاور مع مستشار الأمن القومي الخاص به ونقل الأوامر المناسبة. مما يسمح عمليًا في كل مرحلة بإبطاء سرعة القرار إذا اعتقد أحدهم أنه غير مشروع”.

وسبق أن تعرض الرئيس ريتشارد نيكسون عام 1974 إلى ضغوط بسبب فضيحة ووترغيت قادته الى الاستقالة، كان حينها لا يزال يصدر أوامره بشأن الضربات النووية. ثم ورد أن وزير الدفاع جيمس شليزنغر أمر الجنرال جورج براون، رئيس هيئة الأركان المشتركة، بعدم تنفيذ أوامر نيكسون دون الرجوع إليه أولاً.

الاحتجاج دستوريا

في الوقت الحالي، يقول منتقدو ترامب إنه ربما تشكلت الحاجة إلى عمل شيء أكبر حيال قراراته غير المسؤولة: مثل الاحتجاج بالتعديل الدستوري الخامس والعشرين، والذي بموجبه يمكن لنائب الرئيس وأغلبية مجلس الوزراء أن يصوتوا على تهميش الرئيس بشكل فعال، على الأقل لبعض الوقت.

وقد جاء في كتاب “خوف، ترامب في البيت الأبيض” “إن مساعدي ترامب يعملون على منع حدوث كوارث محتملة بشأن السياسة الخارجية مثل اتخاذ إجراءات بعد أن لمح الرئيس إلى احتمال اغتيال الرئيس السوري بشار الأسد، وسحبوا أمرا رئاسياً من مكتب الرئيس كان في حال توقيعه سيلغي الاتفاقية التجارية بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية.

وقال كوه “يزداد الأمر سوءا ويتطلب اللجوء إلى التعديل الدستوري الخامس والعشرين. حيث إذا اتضح أن ترامب يفعل شيئًا غير قانوني بشكل واضح وأنه يتصرف بطريقة غير عقلانية بحيث يرفض عدد من الأشخاص تنفيذ أوامره، فيمكن لنائب الرئيس وثمانية أعضاء في الحكومة حينها إعفاءه من واجباته”.

وتدعم المعلومات التي جاءت في الكتاب مقالا كتبه “مسؤول بارز” لم يكشف عن هويته ونشرته صحيفة نيويورك تايمز وأشار إلى أن أعضاء في إدارة ترامب فكروا في البداية في تفعيل التعديل 25 من الدستور الأميركي الذي يقضي بعزل الرئيس في حال “كان غير قادر على القيام بسلطاته ومهامه”.

وتراجع هؤلاء عن ذلك خشية حدوث أزمة دستورية، إلا أن السناتورة الديمقراطية إليزابيث وارن تقول إنه “إذا كان مسؤولون كبار في الإدارة يعتقدون أن رئيس الولايات المتحدة غير قادر على ممارسة مهامه، عليهم إذًا تفعيل التعديل الخامس والعشرين”.

ومنذ نشر مقاله الشهير عن ووترغيت في صحيفة واشنطن بوست في مطلع السبعينات، نشر وودورد عددا من الكتب القوية والمحرجة حول ثمانية رؤساء أميركيين من بينهم جورج دبليو بوش وباراك أوباما استندت إلى معلومات حصل عليها من مصادر داخل الإدارات الأميركية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى