الأخبار الكاذبة آفة كل العصور والتكنولوجيا وضعتها تحت المجهر

تواجه مهنة الصحافة انتقادات متزايدة، ويخضع الصحافيون لمحاكمة أخلاقية بدعوى تلفيق الأخبار، وفق فرضية لا دليل لها بأن الصحف الكبرى ومحطات البث العامة هي احتكار ليبرالي يعمل على اختلاق “أخبار كاذبة”.

لا يملك الكثير من الناس الذين يوجهون انتقادات إلى الصحافة، معرفة كافية بآلية العمل الصحافي، لكن اتهامات السياسيين المتواترة الموجهة ضد الصحافة الرصينة المعاصرة، جعلتها تكتسب شعبية وتلقى أذنا صاغية من قبل شرائح واسعة من الجمهور.

ويرد سايمون كوبر في تقرير لصحيفة الفاينينشال تايمز، على هذه الاتهامات بشرح الاختلافات في عمل الصحافة في الواقع بين الأمس واليوم.

ففي عصر غوغل ووسائل الإعلام الاجتماعية أصبح اختلاق قصة عن قصد أو دون قصد، سببا للتشهير والإذلال والطرد من العمل، فسرعان ما يكتشف القراء الأمر.

ومن الظلم عدم الاعتراف بأن غوغل إلى جانب عدد من الأشخاص من جيل الألفية الذين يعملون بالمؤسسات الإعلامية في تدقيق الحقائق بأجور منخفضة، عملوا على تحسين دقة الصحافة بشكل هائل، فعند إجراء بحث عن سيرة شخصية تاريخية، ستكون كمية الأخطاء البلهاء مفاجئة في صحف الستينات من القرن الماضي.

قبل الإنترنت كانت معظم وسائل الإعلام تركز جهدها للإبلاغ عن الأحداث مثل “حرائق الغابات قتلت 20 شخصا”، “ارتفاع أسعار الفائدة بـ1 في المئة”. لكن في الوقت الحاضر الأخبار متاحة فورا على الإنترنت بالمجان. لذلك تحتاج الصحافة إلى إضافة التحليل. ولذلك لا تبدو مقولة “أعطونا الحقائق فقط، وليس آراءكم” مسألة صحيحة.

كما أن الحقائق ليست محايدة بالضرورة. هل سيكون الخبر الرئيسي هو الهجوم الإرهابي المفترض على وستمنستر، أم التقرير العلمي الذي يقول إن تلوث الهواء يقتل الآلاف من سكان لندن سنويا؟

يقول ستيفن بينكر، أستاذ علم النفس في جامعة هارفارد، “الأخبار غالبا ما تركز على الأحداث (انهيار جسر، أو كذبة من أحد السياسيين) على حساب الاتجاهات المبهجة (مثل ارتفاع متوسط العمر المتوقع على المدى الطويل)”.

ويضيف بينكر “كان من الممكن أن يتصدر العنوان الرئيسي: 137 ألف شخص خرجوا من الفقر المدقع أمس، الصحف على مدار الـ25 عاما الأخيرة”.

وغالبا ما يكون الصحافيون هدفا مباشرا للهجوم والتهمة الموجهة هي “أقلام مأجورة”، حيث يعتقد الكثير من الناس أن الصحافيين تابعون لأصحاب المصالح الليبرالية القوية. ويشير كوبر إلى أن القراء غالبا ما يقولون أن شركة نيكاي، المالكة لـ”فاينانشيال تايمز”، تطلب منا (الصحافيين) معارضة “خروج بريطانيا (البريكست)”.

ويؤكد، في الواقع جميع الصحافيين الذين صادفتهم في وسائل الإعلام الليبرالية تقريبا يؤمنون حقا بالمواضيع الليبرالية التي يكتبونها.

ومعظم الصحافيين ليبراليون، ليسوا بسبب ضغوط خارجية، ولكن لأن الصحافة الرصينة أصبحت مهنة تتطلب مستوى تعليميا عاليا، والحاصلون على درجة عالية من التعليم يغلب عليهم أن يكونوا ليبراليين، وهم غالبا من الذين يعارضون الرئيس الأميركي دونالد ترامب و”خروج بريطانيا” من الاتحاد الأوروبي، والشعبوية بشكل عام.

وتزيد نسبة الصحافيين في “نيويورك تايمز” ممن درسوا في الجامعات العريقة، على نسبة عدد الرؤساء التنفيذيين للشركات المدرجة في قائمة “فورتشن 500” الذين درسوا في هذه الجامعات، بحسب ما ذكر جوناثان واي، من جامعة أركنساس، وكاجا بيرينا، من مجلة “سيكولوجي توداي”.

وأصبح انتقاد الصحافيين بالقول “أنتم فاقدو الصلة بالناس العاديين”، غير دقيق اليوم، إذ أن “خروج بريطانيا” وانتخاب ترامب صعقا وسائل الإعلام وجعلاها تحاول إعادة التواصل مع الناس العاديين. من هنا جاء النمط الصحافي الأميركي الجديد “رحلات السفاري لترامب” (زيارات إلى مدن الطبقة العاملة)، بينما قررت هيئة الإذاعة البريطانية قبيل استفتاء “خروج بريطانيا”، تمويل 150 مراسلا محليا جديدا لتغطية الديمقراطية المحلية في أنحاء بريطانيا.

بالعودة إلى الوراء، عندما كان هناك عدد أقل من الأصوات في وسائل الإعلام كان يمكن لبعض الصحافيين تغيير الرأي العام. فمنذ الثلاثينات إلى خمسينات القرن الماضي، كان عمود الشائعات لوالتر وينشل، والبث الإذاعي يصلان إلى عشرات الملايين من الأميركيين يوميا. وفي عام 1968 يمكن القول إن البث الذي قدمه المذيع التلفزيوني، والتر كرونكيت، ساعد في تحويل الرأي العام الأميركي ضد حرب فيتنام.

لكن شبكة الإنترنت شتتت وسائل الإعلام، وكل صحافي بارز لديه جمهور ضئيل مقارنة بما كان عليه الأمر سابقا. ويبدو غريبا هوس ترامب بأخبار محطة “سي.أن.أن”، نظرا لقلة عدد الأشخاص الذين يشاهدون هذه القناة.

المشاهدون والقراء لديهم بالفعل وجهات نظر عامة راسخة تشكلت من خلال مسارات حياتهم وسنوات من تلقي المعلومات. لذلك فإن مقالة فردية من الصعب أن تؤثر على نظرتهم. وحتى عندما يؤثر الصحافيون في الرأي العام، فإن هذا غالبا ما يكون في اتجاه غير ليبرالي دون قصد. فحينما تدفع وسائل الإعلام الليبرالية أجندة ما (مثلا أن تعتبر التغير المناخي مشكلة)، فإن الكثير من اليمينيين يميلون غريزيا إلى تصديق العكس. فإذا قررت صحيفة “نيويورك تايمز” غدا أن تغير المناخ مجرد خدعة، فإن كثيرا من أنصار ترامب سيصبحون على الأرجح من الذين يعانقون الأشجار حفاظا على سلامتها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى