بعد رحيل قياداته المرموقة.. اليسار المصري يتآكل ويسير نحو المجهول

خلال عام ونصف، رحل أساطير اليسار المصري، زعيمه التاريخي خالد محيي الدين ثم رفعت السعيد، وخلفهما صلاح عيسى، نهاية بحسين عبد الرازق سكرتير عام حزب التجمع الوحدوي الذي شيعت جنازته قبل يومين، وجمعيهم من أساطين اليسار المصر وصانعي شهرته الكبيرة والمستحوذين على اتجاهاته وأفكاره ودعايته الإعلامية خلال الأربعة عقود الماضية، ليضع رحيل هؤلاء اليسار في مفترق طرق ويطرح عشرات الأسئلة التي ليس من السهل وضع إجابة شافية عنها.

كيف صنع اليسار المصري هويته؟

يمكن النظر إلى تاريخ تأسيس اليسار المصري، بداية من تأسيس الحزب الشيوعي المصري عام 1922 الذي انفجر كالبركان تأييدًا للحركات العمالية ضد الحكومة والاحتلال الإنجليزي، التي تسارعت وتيرتها في هذا التوقيت، ومع المصادمات المتكررة مع الحكومة، جرى حله سريعًا، وأصبحت تحركاته بالحياة السياسية وفي الفضاء العام غير شرعية، وظل هكذا طوال عقود، لتعود الدماء إلى شرايين اليسار بواسطة خالد محيي الدين عضو مجلس قيادة حركة ضباط يوليو 1952.

أسس محيي الدين حزب التجمع، والتف حوله جميع أجنحة الحركة اليسارية في مصر واستطاع صنع هالة شعبية حوله في هذه الفترة التي شهدت توترات سياسية لم تكن متوقعة بعد حرب أكتوبر التي هزم فيها العرب “إسرائيل” لأول مرة، وقاد التجمع الحركة الوطنية الرافضة لاتفاقية “كامب ديفيد” عام 1976، وظل على موقفه يعاند السلطة ويتحداها، حتى مقتل الرئيس المصري الراحل أنور السادات عام 1981.

كانت الطريقة التي انتهت بها حياة السادات والأزمات السياسية التي تفجرت قبل رحيله وأدت إلى جمعه للقوى السياسية في السجون، تصريحًا للسلطة الجديدة، لكي تغلق باب الشر الذي فتحه السادات على أصحاب الخلفية العسكرية الذي يحتكرون السلطة منذ بداية عهد جمال عبد الناصر وجعله يفتح المجال السياسي ولو قليلاً، لتعود أجهزة مبارك بشكل أكثر شراسة  للتضييق على الأحزاب والتنكيل بقادتها.

يحكي بعض رموز حزب التجمع ومنهم حسين عبد الرازق، آخر كبار اليسار الذين غادروا الحياة قبل أيام، عن كيفية محاربة السلطة السياسية لهم، من خلال اختراق الأحزاب ودس العملاء فيها، الذين تغلبوا على حزب التجمع نفسه، معقل اليسار، وأصبح هؤلاء أداة هدم الأحزاب التي أحيلت للتقاعد بسبب الخلافات والصراعات الداخلية، طيلة الثلاثة عقود الماضية، حسبما يقول في مقال له بجريدة الأهالي الناطقة بلسان حزب التجمع.

افتقد اليسار المصري الذي دعا منذ بداية ظهوره في الحياة السياسية والاجتماعية المصرية، إلى رسم مسار تحرري، رغم أنه رهن حيويته ومصادر بقائه بالدفاع عن حقوق البسطاء والمهمشين، علاوة على مطالبته الدائمة والرئيسية بحق الطبقة الوسطى في البقاء بعدما تلاشت تمامًا، آملا في الحفاظ على التوازن في المجتمع، هذه الملامح الملتفحة بنسمات العدالة، التي كانت تجذب إليها نظريًا الكثير من المصريين، فظهر اليسار بعيدًا تمامًا عن هذه الأفكار المثالية، ورويدًا رويدًا، أصبح أقطابه مقترنين في الوعي العام بدعم الديكتاتورية والاستبداد، بما أعاد التيار عقودًا للوراء.

لم يستطع اليسار طوال الـ30 عامًا الأخيرة على وجه التحديد، صياغة أجوبة واضحة كافية لإشباع من يريد فهم كيف يكون المصري يساريًا في زمن العولمة، وكيف تتقدم الحريات التي يدافع عنها، مع أن معظم رجال التيار يعملون جنودًا عند الطغاة، بما شكل علاقة متأزمة بين اليسار بالأساس والحرية في مفهومها العام، لدرجة أن اليسار كان على رأس التيارات المرفوضة في ثورة 25 يناير، ولم يلتفت إليه أحد ولم يتمكن غالبية رموزه ـ باستثناء قلة ـ من الظهور في ميدان التحرير وتبني أهداف الثورة ومبادئها ضد مبارك الذي حملهم على أكتافه طوال 30 عامًا.

قبل ثورة يناير وتشكيل الخريطة الحزبية في مصر من جديد، كانت أغلب الأحزاب الموجودة على الساحة بخلاف الحزب الوطني الديمقراطي الذي كان بوقًا للسلطة حتى نهاية عصر مبارك، ذات مرجعية يسارية، وظلت أحزاب التيار طوال عقود في مكاتب مقراتها، بعيدًا عن الانخراط في الأوساط الشعبية والسياسية، ولم يصل معظم قياداتها إلى مجلس النواب، إلا القليل جدًا منهم، بينما كانت جماعة بمرجعية دينية كالإخوان المسلمين، تقف ندًا بند في مواجهة شعبية السلطة وخاصة في عهد مبارك.

بعد ثورة 25 يناير، حاولت الأحزاب اليسارية العودة إلى الشارع وتأسيس موجة حزبية جديدة تزعمها حمدين صباحي المرشح الرئاسي الشهير الذي أسس تيار الكرامة بالتعاون مع حزب التحالف الشعبي الاشتراكي الذي كان تيارًا منشقًا داخل حزب التجمع، وتكون إثر الحرب التي دارت بين الموالين للأمن والسلطة، وبين الذين تمسكوا بأفكار اليسار كاملة، وكانت النتيجة طرد الأخير، والاستحواذ على الحزب كاملاً.

حاول صباحي الاستفادة من التيار المنشق عن التجمع، بعدما أحدث زخمًا ملحوظًا خلال العشر سنوات الأخيرة في عهد مبارك، ولكن كان قد سبق السيف العزل، بعدما دمرت الأحزاب القديمة لليسار سمعة التيار بأكمله لدرجة أن غالبية قياداته المعروفة في أذهان المصريين، كانوا أبواقًا للسلطة ورؤوس حربة في عمليات الاغتيال المعنوي التي طالت الجميع بما فيهم اليسار الجديد الذي حاول إعادة بناء التيار بعد ثورة يناير.

كان بعض الفتات الذي يلقي به نظام مبارك إلى قادة اليسار المعروفين بولائهم للسلطة عبر تخصيص مقاعد في مجلسي الشعب والشورى، مقابلاً معقولاً وكافيًا للغاية لتجاهل مساندة الحركات العمالية التي تأسست غالبيتها بواسطة أحزاب وتيارات اليسار منذ تدشين الحزب الشيوعي المصري في عشرينيات القرن الماضي، مرورًا بتوريث الراية لحزب التجمع الوطني، وهو ما أثر بالسلب على الأحزاب الجديدة لليسار، وعدم الثقة في الكوادر التي تنطق بنفس الخطاب المزموم سياسيًا في الشارع، بما جعل الفشل نصيب هذا التيار الذي لم ينجح في الحصول على نسبة تضاهي تاريخه في الحياة السياسية مقابل الأحزاب التي تشكلت حديثًا ونجحت في اكتساح مقاعد البرلمان.

من لليسار اليوم؟

لا يمكن القطع بأن الأمل تجدد في عودة التيار إلى قاعدته الشعبية القديمة بسبب صعود بعض الأسماء اللامعة التي نجحت في الاستحواذ على نجومية وشهرة بالغة في وقت قياسي بسبب تصديها لنظام السيسي، وعلى رأسهم المحامي خالد علي الذي انسحب من مواجهة الرئيس الحاليّ لمصر، إثر مطالبات شبابية بعد التضييق على المسار السياسي والديمقراطي وإجبار مرشحين على الخروج من الباب الضيق للانتخابات، وهو ما أكسبه شهرة إضافية.

يسعى خالد علي بجهود ذاتية لتأسيس حزب العيش والحرية الذي يحمل أفكارًا سياسة جديدة ويضم العديد من الوجوه المعروفة في العمل الاجتماعي والحقوقي، والملف الأخير وضع بعض رموز اليسار الجدد من الشباب في أفضل موقع يمكن رؤيته بالحياة السياسية خلال الخمس سنوات الماضية، في ظل انكماش جميع القوى السياسية وخوفها من فاتورة أي صدام محتمل مع السلطة، وهو ما يعطي لليسار ميزة إضافية، ولكن تتحطم على عتبة هذه الأماني، ضعف بل وانعدام القواعد الشعبية في الشارع التي ترجح وتزكي أفكار اليسار، رغم تأييد الكثير للمواقف العنترية من السلطة، بعدما أصبحت الملاذ الأخير لإبقاء نفحات ثورة 25 يناير في الوجدان الوطني.

كان المسار المتخبط للتيارات والحركات التي حازت شهرة واسعة، بسبب مشاركتها في ثورة 25 من يناير، ضيع فرصة تاريخية على حركة الاشتراكيين الثوريين و6 أبريل وغيرهم في صنع قاعدة شعبية تعيد اليسار كأفكار وعقيدة سياسية للشارع المصري بعد عقود طويلة من اختفائه، ولكن الخلافات الجذرية التي سيطرت على أطياف التيار في كيفية التعامل مع السياسة، فتح المجال للحديث من جديد عن أزمات وعُقد الفكر اليساري متعدد الأطياف المترنح بين الاشتراكية والشيوعية والناصرية، والقواعد الأخرى التي انبثقت عن التيارات الرئيسية التي تعد أكثر تعقيدًا وتطرفًا، بما يجعل التكهنات برحيل اليسار مع رحيل رموزه التاريخيين أمرًا لا يمكن استبعاده، سواء كات ذلك على المدى القريب أو البعيد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى