المثقف والسلطة .. من الإغواء والإلغاء إلى إطلاق الرصاص

“كلما سمعت كلمة ثقافة تحسست مسدسي” تلك المقولة الشهيرة للنازي جوبلز لا تعبر فقط عن توجس النازيين من الثقافة، بل تجسد مخاوف كل المتسلطين من الثقافة ومن تأثير المثقف ووعيه، وفي المقابل قال جورج أورويل: “نحن في عصر أصبح من واجب الأعمال الابداعية فيه أن تطلق الرصاص”، وفي الوطن العربي تشهد علاقة المثقف والسلطة مدا وجزرا دائمين، ينظر كل طرف من طرفيها للآخر بريبة وعدم ثقة، وهي في أحد أبعادها تجسيدا للعلاقة بين المصالح والطموحات، ذلك أن من مصلحة السلطة أحيانا احتواء المثقفين وضمهم إلى صفوفها، كما أن من المثقفين من يرى في مهادنة السلطة تحقيقا لطموحاتهم في الحصول على ما يبتغونه من جاه او مال أو اتقاء لغضب السلطة.

لذا فهي علاقة ملتبسة غالبا وشائكة دائما، شبهها الكاتب الروائي يوسف زيدان في دراسة له بأثر الفراشة، متناصا مع قصيدة محمود درويش، ورأى أن الشاعر بقوله “أثرُ الفراشةِ لا يُرى، أثرُ الفراشة لا يزولُ، وهو جاذبيةُ غامضٍ يستدرجُ المعنى ويرحل، حين يتضح السبيلُ”، كأنه يعبِّر رمزياً بسطوره الشعرية هذه، عن دور المثقف فى كل مجتمع، ويشير إلى المعاني المرتبطة بمفهوم الفعل الثقافي. بينما الحاكمُ شخصٌ استجاب لشهوة الاستعلاء على الناس، وأحبَّ أن يُدير أمورهم حسبما يرى هو، وهو يسعى دوماً لضبط حركة المجتمع، لضمان استقرار حكمه.

ونظراً لاختلاف الوسائل والغايات بين الحاكم والمثقف فقد وقع الخلافُ فى كثيرٍ من الأحيان بينهما، وهو ما أوحى بأن المثقف لابد أن يكون معارضاً سياسياً. وهذه فى واقع الأمر أغلوطة يجب الانتباه إليها، فوقوع الخلاف واشتداد الاختلاف، ليس شرطاً أساسياً لعلاقة المثقف والحاكم. لكن إذا انحرف الحاكم قام المثقف بتقويمه، وإذا استبدَّ قاومه بأثر الفراشة الذى قد يُحدث الأعاصير التي تقتلع العروش.

القوة الخفية

يرى الروائي محمد جبريل أن المثقف الحقيقي لديه رؤية نقدية للمجتمع الذي ينتمي إليه، وللمجتمع الإنساني الأوسع، بحيث لا ينغلق عن العالم، ويأخذ من التجارب المتنوعة بلا عقد ولا حساسيات، فإذا تباينت المصالح بين الحاكم والمحكوم، فإن قيمة المثقف في ابتعاده عن السلطة الحاكمة بقدر اقترابه من مواطنيه المحكومين، فالمثقف قائد للجماعة، وهو من يسعى إلى التغيير في الجماعة التي يقودها بأفكاره. إنه يوجه وينصح ويحذر، ويقدر وعي مواطنيه، ثم تأتي استجاباتهم لأقواله، وهي استجابات تذكرنا بحديث الرسول (صلى الله عليه وسلم) الذي يطلب من الناس أن يغيروا ما فسد، بدءًا بالسيف، وانتهاء بالقلب، وهو أضعف الإيمان.

ويضيف جبريل: إن أخطر ما يعانيه المثقف هو الانفصام بين الفكر والفعل، وبين الرأي والمبادرة إلى نقيضه، والحكمة اليونانية تقول: “إذا أراد الله بقوم سوءًا، جعل عشقهم الأول للسلطة السياسية”. وهذا هو المرض الذي يعاني تأثيراته معظم مثقفي الوطن العربي، فالسلطة شاغلهم، وربما توسلوا إليها بمغازلتها، بمداهنة الحاكم وتملقه، ومعاونته ـ في أحيان كثيرة ـ على القيام بأدوار سلبية في حياة شعوبهم.

وكما يقول بورديو فإن السلطة لا تحكم ولا تأمر إلا بمساعدة من تحكمهم. المثقفون في أحيان كثيرة يمثلون القوة الخفية الحقيقية في مواقع السلطة، فتبدو السلطة لملك أو سلطان أو رئيس جمهورية، لكن السلطة الفعلية تظل في أيديهم؛ حيث يمسكون بكل خيوط اللعبة، ويتحول الحاكم إلى مجرد واجهة.

كل السلطات قامعة

وتؤكد الروائية سلوى بكر أنه من الخير للمثقف أن يبتعد عن السلطة: “إن علاقة المثقف بالسلطة في العالم العربي هي علاقة ملتبسة علاقة نشأت في ظروف غير سوية، ونحن نعلم أن السلطات في مجملها هي سلطات قامعة في العالم العربي سلطات هي نتاج تركة تاريخية طويلة من القهر وعدم قبول الاختلاف وعدم احترام الرأي الآخر، والمثقف الذي تعامل مع سلطات من هذا النوع وقع دوما تحت تأثيرها سواء بالترغيب أو بالترهيب ناهيك على أن هذه السلطات دأبت على تهميش الثقافة ودور المثقف، وأيضا المثقف – وهو بدون حماية أو غطاء من أحزاب سياسية قوية معارضة – لا يستطيع أن يؤدي دوره ربما هذه هي الإشكالية، فالعلاقة بين المثقف والسلطة يجب أن نفتش عليها في طيات غياب المعارضة السياسية القوية سواء فى مصر أو فى معظم البلدان العربية”.

قدر اللاتوافق

ويقول الروائي إبراهيم عبدالمجيد: من يسأل عن علاقة المثقف بالسلطة في العادة فهو يعني كلّ المثقّفين لكن يجب أن نُفرِّق. المبدعون هم في العادة غير متوافقين مع السُلطة أبداً، لأنّ المُبدِع دائماً يرغب بما هو أحسن، لذلك نجد أفلاطون مثلاً عندما أسس “جمهوريّة أفلاطون” منع دخول الشُعراء لأنّ الشعراء لن تُعجِبهم هذه اليوتوبيا، وهذه المدينة الفاضلة. فالمبدعون الموهوبون دائماً على خِلاف مع السُلطة، أيّة سُلطة سواء سياسيّة أو دينيّة أو اجتماعيّة، ونؤكد على أن هذا الخلاف يكون بدافع جيّد وليس بدافع شرير بلّ بدافِع الخير.

أما المبدعون غير الموهوبين هؤلاء دائماً مع السُلطة وهي تروِّج لأعمالِهم، و”المُثقّف” عندنا  في مصر أنواع، فأنا أُحبّ أن أقول المُبدعين غير المتوافقين مع المُجتَمَع وهذه طبيعتي مع السلطة والمجتَمع، وطبيعتي هكذا. نجيب سرور، أمل دُنقُل، عفيفي مطر، أسماء عظيمة جداً من هذا النوع تركوا وراءهم أدبٌا عظيما، فليس كلّ المثقّفين مع السُلطة .

ويري عبدالمجيد أن المثقف المصري المبدع طوال عمره مناضل بالكتابة أو بالفعل لكن لا يوجد له دور محدد.

طرفي مغناطيس

أما الشاعر أحمد سويلم فيقول: علاقة المثقف بالسلطة تشبه طرفي مغناطيس متنافرة في أحيان كثيرة وفي الوقت ذاته هناك من ينجذب إلى مغناطيسيتها وإغراءاتها ومثل هؤلاء تجذبهم السلطة إليها، ليتحولوا إلى أبواق تدافع عن سياستها، أما أصحاب المواقف والمثقفين الحقيقيين فهم بعيدون كل البعد عن أضواء السلطة ولا ينجذبون إليها، بل يرفضونها لتمسكهم بمواقفهم الصلبة وأفكارهم التي لا يحيدون أبدا عنها أما الخانعون والخاضون الموالون فلهم الأضواء والشهرة والمال.

الاغواء والإلغاء

يقول د. سعيد اللاوندي خبير العلاقات السياسية الدولية بالأهرام: إن علاقة الاغواء والإلغاء بين المثقف والسلطة تعتبر مظهرا من مظاهر التخلف الثقافي الذي نعيشه، فالمثقف لم يعد له وجود علي الإطلاق مشيرا إلى أن المثقف كان يختلف مع زميله في قضايا فكرية لكن هذا الزميل إذا اتهم من قبل السلطة أنه تجاوز الحدود في الفكر والثقافة نجد أن خصمه يدافع عنه، وهذا ما حدث في زمن طه حسين عندما وضع كتابا في الشعر الجاهلي قامت الدنيا ولم تقعد واتهم بالزندقة والإلحاد إلا أن أحمد لطفي السيد دافع عنه، وكان رئيسا لجامعة القاهرة وهدد أنه سوف يقدم استقالته من منصبه إذا لم يكفوا عن إيذاء طه حسين وعباس العقاد .

ويشير اللاوندي إلى  أنه عندما هوجم طه حسين بسبب الفكر، وجدنا العقاد وكان نائبا في البرلمان يدافع عن طه حسين، لكن الآن، فعلاقة المثقف بالسلطة علاقة مريضة ومعتلة .

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى