الحركة الوطنية الفلسطينية : شرعية المنطلقات والتباس الممارسة (1+2)  

بعد أكثر من مائة عام من ظهور الحركة الوطنية الفلسطينية على إثر إعلان وعد بلفور والاحتلال البريطاني لفلسطين ، وبعد خمسة عقود من تأسيس المشروع الوطني الفلسطيني المعاصر منتصف الستينيات ، وبالرغم من التضحيات الجسام للشعب ومعاناته سواء داخل فلسطين أو خارجها ،وبالرغم من الجهود التي بذلتها القيادات الفلسطينية المتعاقبة منذ الحاج أمين الحسيني مرورا بأحمد الشقيري و أبو عمار حتى الرئيس أبو مازن فإن الصراع مع العدو الصهيوني ما زال متواصلا ، ودولة فلسطين المستقلة حتى على حدود ما تمنحه الشرعية الدولية ما زالت بعيدة المنال .

إن كانت موازين القوى المختلة لصالح العدو من أهم أسباب إطالة عمر الصراع وعدم تثمير النضال بما يشتهي الفلسطينيون ، إلا أنه وبالمقابل فإن الشعب الفلسطيني حقق بصموده ونضاله العسكري والسياسي وغيرها من أشكال المقاومة انجازات مهمة كـ : حماية الهوية والثقافة الوطنية واستمرار حضورهما في الوجدان الشعبي في كل أماكن شتات الشعب ، كشف الممارسات والسلوك العدواني الإرهابي لإسرائيل ، كسب دعم وتأييد غالبية دول العالم للحق الفلسطيني سواء من خلال اعتراف العالم بحق تقرير المصير للفلسطينيين أو الاعتراف بمنظمة التحرير ممثلا شرعيا وحيدا أو الاعترافات الأخيرة بحق الشعب الفلسطيني بدولة مستقلة عاصمتها مدينة القدس ؟ .

لكن ، وفي سياق مراجعة استراتيجية موضوعية فإن خللا ذاتيا صاحب المسيرة الوطنية في كل مراحلها ، ويمكن ملامسة الأخطاء أو مواطن الخلل من خلال أمور بعضها له علاقة بخصوصية والتباس تَشَكُل الحركة الوطنية بدايات القرن العشرين ثم المشروع الوطني المعاصر ، مكونات وأهداف ، كما تم التعبير عنه في انطلاقته الأولى منتصف الستينيات وما طرأ عليه من متغيرات متسارعة ، وأسباب أخرى ذات علاقة بالإستراتيجية الفلسطينية ما بعد اختيار طريق الحل السلمي للصراع ، ذلك أن استراتيجية القيادة الفلسطينية وقدرة الاستجابة أو التحدي لديها كانت وما زالت مرتبطة بتوازن تحالفات خارجية هشة وغير ثابتة ، وبوجود مجتمع فلسطيني – تجمعات فلسطينية – منفصلة وغير خاضعة لسيادة فلسطينية حيث منظمة التحرير تمارس سلطة معنوية على شعبها وليس سلطة سيادية .

وحتى لا يطول المقال بما يرهق القارئ فسنتناول في هذا الجزء من المقال إشكالات ظهور الحركة الوطنية الفلسطينية والتباسات مكوناتها على أن نتناول في المقال القادم أخطاء التعامل مع نهج التسوية السياسية وممارسة السلطة .

إشكالات ظهور الحركة الوطنية الفلسطينية والتباسات مكوناتها:

بداية نؤكد على أن الحركة الوطنية الفلسطينية سابقة في الوجود على ما اصطلح تسميته (المشروع الوطني الفلسطيني ) ، فالأولى تعود لعام 1918 عندما أسس الفلسطينيون المسلمون والمسيحيون (الجمعيات الإسلامية والمسيحية) وكانت أولى تمظهرات الوعي الوطني المستقل للشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال البريطاني والحركة الصهيونية الوليدة ، وقد انهارت الحركة الوطنية ككينونة سياسية بقيادة الحاج أمين الحسيني نتيجة النكبة والشتات ، أما المشروع الوطني المعاصر فقد ظهر بعد النكبة وخصوصا مع منظمة التحرير الفلسطينية وهو بمثابة إعادة بناء واستنهاض للحركة الوطنية الفلسطينية ولكن في ظروف وسياقات مغايرة .

إن كان المشروع الوطني يعبر عن الحقوق التاريخية الثابتة للشعب الفلسطيني إلا أنه كان متأثرا ومعبرا عن طبيعة مرحلة الخمسينيات والستينيات من حيث وجود : حالة وطنية متماسكة وصاعدة ،مد قومي ثوري عربي ، معسكر اشتراكي ومنظومة دول عدم الانحياز مساندة ، وعليه كان المشروع الوطني الأول سواء من حيث الهدف تحرير كل فلسطين أو وسيلة تحقيقه من خلال الكفاح المسلح ثم الكفاح المسلح والعمل السياسي تعبير عن إجماع وطني ومحصلة مشاريع في مشروع واحد : المشروع الوطني والمشروع القومي العربي والمشروع التحرري العالمي ، وكانت مراهنة الفلسطينيين كما تنص أدبياتهم الأولى على الحلفاء في عملية تحرير فلسطين من البحر إلى النهر أكثر من مراهنتهم على قدراتهم الذاتية ، هذا بالإضافة إلى تأجج الحالة الوطنية وتأثرها بالمناخ الثوري التحرري الذي كان يسود العالم وخصوصا الثورة الجزائرية والثورة الفيتنامية .

خلال عقدين ونصف تقريبا وهي الفترة الفاصلة ما بين انطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة في الستينيات وبداية المراهنة على التسوية السياسية بداية التسعينيات حدثت انهيارات زعزعت مرتكزات ومكونات المشروع الوطني بصيغته الأولى نذكر منها :-

1- تراجع المشروع القومي العربي بدءا من حرب 1967 ثم توقيع اتفاقية كامب ديفيد 1979 ، إلى حرب الخليج الثانية 2001 ،ولم تعد القضية الفلسطينية قضية العرب الأولى إلا لفظيا .

2- انهيار المعسكر الاشتراكي الحليف الاستراتيجي للثورة الفلسطينية ومعه تراجعت منظومة دول عدم الانحياز .

3- انزلاق الثورة الفلسطينية في عدة حروب ومواجهات مع دول عربية كأحداث الأردن 1970 والحرب الأهلية في لبنان 1975- 1982 ،واتهامها بدعم صدام حسين في حرب الخليج الثانية .

كل ذلك أضعف من قدرة الثورة الفلسطينية على مواجهة إسرائيل عسكريا ،وبقي الفلسطينيون وحيدون في الميدان ، الأمر الذي كشف الهوة الواسعة بين أهداف المشروع الوطني كما وردت في ميثاق منظمة التحرير والممكِنات الفلسطينية . حاولت القيادة الفلسطينية التكيف مع هذه الاختلالات مع الحفاظ على استقلالية القرار الفلسطيني من خلال نهج الواقعية السياسية ، واقعية الثوار المجروحين ، وإعادة النظر في أهداف النضال الفلسطيني وطرق تحقيقها .

لا نعتقد أن القيادة الفلسطينية في تلك المرحلة ارتكبت أخطاء استراتيجية كان عدم ارتكابها سيغير من مسار الأحداث لأن ما جرى كان نتيجة متغيرات عربية ودولية وليس نتيجة تقصير فلسطيني ،إلا أنه كان مطلوبا تدفيع الثورة الفلسطينية الثمن حتى يتم تمرير نهج التسوية السياسية .

لا يعني ما سبق أن الثورة الفلسطينية كانت مبرأة من كل الأخطاء بل وجدت أخطاء ولكنها لم تكن هي المحدد للمسار السياسي للأحداث ، ويمكن ذكر بعض أوجه الخلل والتقصير مثل : تغلغل المال السياسي وغياب المحاسبة للفاسدين ،ترهل بنية الفصائل ، تمركز السلطة بيد شخص واحد ، بالإضافة إلى عدم حدوث مراجعات استراتيجية بعد كل أزمة مرت بها الثورة الفلسطينية .

أن لم تنجز هذه المرحلة هدف التحرير وبقيت الفجوة كبيرة بين الأهداف الأولى وما تم تحقيقه إلا أن البراغماتية المبكرة عند قيادة منظمة التحرير والمواجهة الساخنة مع الاحتلال أديا إلى استنهاض الهوية الوطنية وفرضت على العالم التعامل مع القضية الفلسطينية كقضية تحرر وطني وليس مجرد قضية انسانية تخص اللاجئين ، والاعتراف بمنظمة التحرير ممثلا شرعيا وحيدا للشعب الفلسطيني في قمة الرباط 1974 والاعتراف بها مراقبا في الأمم المتحدة الأمر الذي أسس لاعتراف 138 دولة بفلسطين دولة مراقب في الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2012 .

الحركة الوطنية الفلسطينية : أين أخطأت القيادة الفلسطينية ؟ (2)

تواصلا مع مقالنا السابق حول سيرورة وصيرورة الحركة الوطنية الفلسطينية نُعيد التأكيد بأن أهم انجازات الشعب الفلسطيني تحققت خلال المرحلة الممتدة ما بين تأسيس المشروع الوطني منتصف الستينيات وعام 1988 حيث بدأت المراهنة عمليا على التسوية السياسية ، وكل ما تسمى انجازات سياسية حاليا هي في أغلبها استحضار وإعادة تدوير لانجازات الشعب وحركته الوطنية خلال المرحلة السابقة .

صحيح ، إن المرحلة الأولى لم تحرر أرضا ولكنها استنهضت الهوية الوطنية وعززت الكرامة الوطنية ووحدة الشعب وحافظت على الثوابت والحقوق التاريخية كاملة ، بينما في زمن التسوية السياسية وخصوصا في إطار تسوية أوسلو فقد تمت المناورة والتكتيك ليس على الجزئيات والتفاصيل بل على الثوابت والحقوق التاريخية بحيث أصبح كل شيء قابل للتفاوض وزالت أو التبست الخطوط الحمراء وكانت الحصيلة أرضا أقل وحقا أقل وكرامة أقل ، حتى وإن كان لدى بعض القيادات نوايا طيبة أو خانتهم حساباتهم .

في إطار المراجعة النقدية الداخلية لسلوك القيادة الفلسطينية منذ دخول عملية التسوية السياسية إلى الآن يمكن القول بأن حالة من الإرباك وعدم الوضوح و الأخطاء الاستراتيجية والخلل في الإدارة سادت هذه المرحلة ، ويمكن ذكر أهم هذه الأخطاء سواء كانت أخطاء مقصودة وتندرج في إطار مراهنات ثبت فشلها أو أخطاء غير مقصودة :

1- القبول بدخول عملية التسوية في مدريد وأوسلو على أساس قراري مجلس الأمن 224 و 338 فقط وتجاهل بقية قرارات الشرعية الدولية كقرار التقسيم 181 وقرار حق العودة 194 وعديد القرارات التي تتحدث عن حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني وحقه بمقاومة الاحتلال الخ . وهذا يتعارض مع إعلان قيام الدولة في الجزائر 1988 الذي قَبِل الدخول بعملية التسوية على أساس كل قرارات الشرعية الدولية . وعلى هذا الأساس فإن اتفاقية أوسلو ليست تطبيقا لإعلان الاستقلال في الجزائر ولا تتفق مع المشروع الوطني بل هي مجرد مشروع تسوية تنكرت له إسرائيل وكانت سببا في فشله ، وبالتالي لا تُلزم الاتفاقية وتوابعها الشعب الفلسطيني ولا تُمثل مرجعية وطنية ملزمة له .

2- القبول بأن تكون المفاوضات تحت رعاية الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا الاتحادية فقط دون إشراف دولي أو محاولة تشريع الاتفاقية بقرار دولي من مجلس الأمن ،الأمر الذي أسقط عن اتفاقية اوسلو صفة الاتفاقية الدولية .

3- تأجيل قضايا الوضع النهائي وهي قضايا استراتيجية ، مما جعل المفاوضات تشكل غطاء للاستيطان والتهويد في الضفة والقدس .

4- التباس صيغة الاعتراف المتبادل بين إسرائيل ومنظمة التحرير ، حيث اعترفت منظمة التحرير بحق إسرائيل بالوجود دون ذكر لحدود إسرائيل ،وكان يفترض أن يكون الاعتراف بإسرائيل في حدود ما قبل حرب حزيران 1967 مقابل اعتراف إسرائيل بدولة فلسطينية على حدود 1967 ،وكان من الأفضل أن يكون الاعتراف المتبادل كأحد مخرجات المفاوضات وبعد قيام دولة فلسطين ، وكان نتيجة هذا الخطأ أن القيادة الفلسطينية اليوم في مأزق حيث استمرار اعترافها بإسرائيل يعني قبولها بقانون القومية اليهودي .

5- القبول بالمفاوضات واستمرارها دون اشتراط وقف الاستيطان مما جعل عملية المفاوضات ووجود السلطة الفلسطينية يشكلا غطاء للاستيطان أو قبول ضمني به .

6- استمرار نفس الفريق المفاوض تقريبا واقتصاره على حركة فتح .

7- تغيير الميثاق الوطني الفلسطيني عنوان الوطنية الفلسطينية في دورة غزة 1996 .

8- عدم تحيين وتجسيد فكرة الدولة مباشرة بعد نهاية المرحلة الانتقالية مايو 1999 ، وحتى الآن ما زالت القيادة مترددة حتى بعد أن تراجعت واشنطن عن حل الدولتين ومرجعية أوسلو وبعد أن انتهكت إسرائيل كل الاتفاقات والتفاهمات السابقة .

9- المراهنة شبه الكلية على الخارج سواء تعلق الأمر بالشرعية الدولية أو الأمم المتحدة للحصول على دولة فلسطينية مستقلة . هذه المراهنة استمرت من مراهنة على الأمم المتحدة إلى مراهنة على محكمة الجنايات الدولية ، مع غياب استراتيجية واضحة في التعامل مع الشرعية الدولية ، وما جدوى قرارات دولية غير ملزمة ولا يتم تنفيذها .

10- التباعد ما بين القيادة والشعب وخصوصا في مرحلة ما بعد أبو عمار وعدم ثقة الأولى بالشعب وقدراته ولو من خلال أشكال من المقاومة السلمية . وهذا ما خلق فجوة ما بين القيادة والشعب لم تستطع الرواتب والإغراءات المالية أن تجسرها .

11- تهميش منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها سياسيا وماليا لحساب السلطة الوطنية والفشل في استنهاضها لتستوعب الكل الفلسطيني حيث أعادت الدورة الثالثة والعشرين استنساخ نفس النهج والأشخاص تقريبا .

12- التصدع حتى داخل منظمة التحرير وتعاظم الخلافات بين مكوناتها وكانت آخر فصول هذه الخلافات امتناع الجبهتين الشعبية والديمقراطية عن المشاركة في اجتماع المجلس المركزي المنعقد في رام الله يوم الأربعاء 15 أغسطس الجاري .

13- إضعاف حركة فتح سواء كحركة تحرر وطني أو كحزب سلطة ودولة ،وجعل سقفها السياسي نفس السقف السياسي للسلطة .

14- تمركز الرئاسات بيد واحدة – رئاسة الدولة ورئاسة منظمة التحرير ورئاسة السلطة ورئاسة حركة فتح .

15- قوة تأثير نخبة سياسية اقتصادية من خارج المدرسة الوطنية على عملية اتخاذ القرار وخصوصا في بطانة الرئيس .

16- استمرار التنسيق الأمني بنفس الوتيرة والضوابط التي كانت في بداية التسوية بالرغم من تنصل إسرائيل من عملية التسوية .

17- إهمال فلسطينيي الخارج .

18- عدم انجاز تقدم في ملف الانقسام و المصالحة الوطنية .

19- إصدار قرارات ذات وتيرة عالية وحمولة وطنية قوية تعبر عن مطالب شعبية ولكن دون آلية تنفيذ وربما دون إرادة تنفيذ مما يفقد المؤسسات القيادية وخصوصا المجلسين الوطني والمركزي المصداقية ويجعل هذه القرارات أقرب للبروباغندا والتلاعب بالمشاعر الوطنية للشعب .

20- الارتجالية والتفرد في اتخاذ القرارات أو الإجراءات الأخيرة حول غزة فيما يتعلق بالتخفيض من رواتب الموظفين وغيرها من الإجراءات المتخذة من السلطة تجاه غزة وعدم دراسة تداعياتها بعقلانية انطلاقا من المسؤولية الوطنية أدت لنتائج سلبية ، وكانت بالنسبة للوضع الإنساني كـ (القشة التي قصمت ظهر البعير) أو (القطرة التي أفاضت الكأس) وبدلا من أن تؤدي لتسريع إنهاء الانقسام عززت الانقسام ، بل ووظفتها واشنطن وإسرائيل وأطراف أخرى لتحويل مسار حوارات المصالحة الوطنية وكانت الأساس لكل الحوارات اللاحقة لبحث الأوضاع الإنسانية في القطاع وهو ما أدى للحوارات التي تجري الآن في القاهرة والتي تتجاوز بكثير المشاكل الإنسانية في القطاع .

وأخيرا فإن اقتصار المراجعة والنقد على الحركة الوطنية والمشروع الوطني وقيادته يندرج في سياق النقد الذاتي ، وهذا لا يُسقط المسؤولية عن إسرائيل المسئولة عن كل مصائب الشعب الفلسطيني ولا يُسقط المسؤولية عن التقصير العربي والإسلامي ، أو مسؤولية حركة حماس عن الانقسام وتداعياته بل ودورها في إضعاف المشروع الوطني والتشكيك به .

هذه الأخطاء أثرت سلبا على الخيارات والاستراتيجيات العامة ، لأن نظاما سياسيا ضعيفا داخليا لن ينجح في الانتصار على أعدائه خارجيا . في السياسات الدولية وعلى طاولة المفاوضات لا ينظر المفاوضون لعيون بعضهم بعضا ولا يستمعون لكلمات بعضهم بعضا فقط ، بل ينظر كل منهم إلى ما وراء ظهر الآخر ، إلى جبهته الداخلية وما يملك من قوة ومدى شرعيته وتمثيله ومصداقيته عند شعبه .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى