مصر عبد الناصر قلعة للإبداع الأدبي والفني والثقافة الوطنية
بقلم : زياد شليوط *
عندما تقترب أي ذكرى تتعلق بالزعيم الخالد جمال عبد الناصر، مثل عيد الثورة أو ذكرى وفاته أو ميلاده وسواهم، يشتد الهجوم الحاقد والأرعن من قبل خصومه وأعدائه عليه، وخاصة الذين أحسن معاملتهم واستفادوا من إنجازاته وسياساته، لكنهم انقلبوا عليه وانتقلوا الى مصاف الأعداء والحاقدين، ولما فشلوا طوال السنوات الماضية في النيل من سمعة وقيمة عبد الناصر وقفوا محبطين ماذا يفعلون؟ ووجدوا أن أسهل شيء يقومون به أن يقلدوا الشخصية الفكاهية خفيفة الظل جحا، لكن بأسلوبهم المقيت وثقيل الظل فكذبوا الكذبة وصدقوها، والخبثاء منهم وخاصة ممن تتلمذوا على يد الاستعماريين والامبرياليين الغربيين، وتخرجوا من مدرسة غوبلز وزير الدعاية السياسية في الدولة النازية، تبنوا نهجه ونظريته بأن يكرروا الكذبة حتى يصدقهم الناس، ولما لم يصدقهم الناس غالوا في الكذبة وأخذوا يكررونها ليل نهار ويكررونها مئات المرات، لكن هيهات أن ينالوا من عبد الناصر وسمعته واستقامته وشرفه وخاصة أن رئيس جهاز المخابرات الأمريكية، اعترف أن أحد أصعب المهام في محاربة عبد الناصر أنه لا يمكن النيل منه، فهو لا يرتكب المعاصي و أو الموبقات أو يخرج عن الأخلاق في سلوكه.
من مجموعة الأكاذيب التي يرددها ولا يمل تكرارها أعداء عبد الناصر، واحدة تقول أن عبد الناصر مارس الاستبداد وأن سجونه غصت بالكتاب والشعراء والمثقفين من المعارضين، تلك الأكذوبة التي تكذبها وتنفيها الوقائع نفيا تاما، ونفاها أكثر من شاهد على عصر عبد الناصر وانضمت اليهم أبحاث أكاديمية.
من الأبحاث الأكاديمية الجديدة في هذا المجال هو البحث الأكاديمي الذي أصدرته الباحثة في الأدب العربي الدكتورة لينا الشيخ – حشمة، والذي نالت عليه شهادة الدكتوراة في الأدب العربي من جامعة حيفا، بعنوان ” أدب السجون في مصر، سورية والعراق الحرية والرقيب”.
يستعرض الكتاب أدب السجون في ثلاث دول عربية محورية هي مصر، سورية والعراق وخاصة في ظل الأنظمة القومية التي سعت الى تحرير بلدانها من الاستعمار والعهود الملكية البائدة وأقامت نظاما جمهوريا تقدميا، تكالبت عليه قوى الاستعمار والرجعية والصهيونية، وكان طموح تلك الأنظمة في بناء دولة حديثة، لكن المؤامرات الخارجية عليها والتحديات الداخلية لم تساعدها على ذلك، مما جعلها تنزلق الى التضييق على معارضيها الداخليين، وعدم التمييز بين معارض متآمر ومتواطيء مع الأعداء، وبين معارض مبدئي مخلص يسعى الى مراحل أعلى وأسمى في بناء الدولة على أسس ديمقراطية، ارتكب من خلالها هؤلاء المعارضون أخطاء جعلت الدولة تخطيء بحقهم أيضا.
تتوقف الباحثة عند قمع الحريات وملاحقة الكتاب والمفكرين العرب في تلك البلدان، وتتحدث عن الرقيب السياسي وكذلك الديني الذي يلعب دورا كبيرا في ممارسة القمع الفكري ومصادرة الحريات تارة بالتنسيق مع النظام وطورا متفوقا ومتغلبا عليه.
في عصر عبد الناصر انتعشت الحركة الثقافية وانطلقت
واذا ما توقفنا عند مصر، يتناول البحث فترة النظام الجمهوري منذ قيام ثورة 23 يوليو عام 1952 حتى اندلاع ثورة يناير عام 2011، أي أن الدراسة تناولت أدب السجون في عهود ثلاثة رؤساء هم: جمال عبد الناصر، أنور السادات وحسني مبارك. ومن المعروف أن كل عهد يختلف عن الاخر اختلافا كبيرا، رغم أنه يعود الى نظام واحد ومرجعية واحدة. لكن لا يمكن تجاهل أن كل رئيس طبع مرحلته بطابعه الشخصي وحكم وفق قناعاته ورؤيته. ولهذا لا يمكن النظر بالتساوي لكل عهد ورئيس ولا يمكن الحكم عليه بنفس المقياس والمكيال.
ويمكن لنا أن نقول وبثقة أن ما ينطبق على الأنظمة المذكورة في الكتاب، لا ينطبق على نظام جمال عبد الناصر لعدة اعتبارات وأسس نذكرها على عجل:
- أن عبد الناصر وثورته حملا مشروعا قوميا بارزا، وقد سار في عهده وفق هذا المشروع.
- أن عبد الناصر يختلف عن سائر الحكام العرب، ولا يوجد حاكم يشبهه أو يقترب منه على الصعيد السلوك الشخصي والعام.
- أن عبد الناصر لم يقرّب أحدا من أبناء عائلته الى السلطة ولم يفكر أن ينقل الحكم لأحد أبنائه، ورفض منح أحد من أبناء عائلته وخاصة أبنائه أي امتياز عن غيره من أبناء الشعب.
- أنّ عبد الناصر كان انسانا مثقفا ونهم القراءة، لذا لا يمكنه أن يكون معاديا للكتاب وللثقافة.
- أنّ من سجنوا في عهد عبد الناصر من كتاب وصحفيين، سجنوا لمواقفهم السياسية وانتماءاتهم الحزبية، وليس منعا لهم من الابداع الأدبي، وهذا ما تعترف به الباحثة د. لينا ( انظر ص48- 49 من الكتاب). وتورد مجلة “الوطن العربي” مثالا على ذلك كتاب سيد قطب ” معالم على الطريق” الذي صدر عام 1964 وعبد الناصر يومئذ في قمة مجده.. ولم يصادر الكتاب ولم يسجن صاحبه، بل قبض عليه بعد ذلك في مؤامرة سياسية لقلب نظام الحكم مما يتفق مع ما ذكرته باحثتنا.
- الكتاب والشعراء الذين سجنهم عبد الناصر، كانوا أول من بكوا عليه بعدما سمعوا نبأ وفاته المفاجيء، وبعضهم داخل السجن (مثل أحمد فؤاد نجم) ورثوه بأجمل القصائد والكلمات (عبد الرحمن الأبنودي، أمل دنقل وغيرهما).
ورغم انتباه الباحثة الى عدم سجن البعض في فترة عبد الناصر على كتابته الابداعية انما لنشاطه السياسي وحتى قبل أن يبدأ الكتابة، الا أن الباحثة تعود وتورد بعض الأسماء وكأنهم اعتقلوا على خلفية الكتابة الأدبية، كما فعلت في ص 44-46 وتذكر الباحثة ذلك الأمر، وهذا ما يؤخذ عليها وهو اقحامها تلك الاعتقالات ضمن الاعتقالات الأدب والابداع، بينما هي جاءت لأسباب سياسية وتورد مثالا على ذلك لطفي الخولي الذي اكتشف قدراته على الكتابة الأدبية وهو في السجن (ص 47) أي لم يتم اعتقاله ككاتب انما كناشط سياسي.
وهذا ما يؤكده الكاتب والصحفي صلاح عيسى، وهو أحد المثقفين من أصحاب النظرة النقدية، في مقال عن ثورة يوليو والمثقفين نشر في مجلة “العربي” العدد 524 يوليو 2002، جاء في خلاصته ” ومن الانصاف لها (ثورة يوليو- ز. ش) أن نعترف بأن ضيقها بالحرية، لم يشمل الابداع الفني والأدبي الذي ازدهر في عهدها، لكنه اقتصر على الفكر السياسي والاجتماعي”. (ص 23)
ولم يقف عبد الناصر في وجه الابداع على أشكاله المختلفة، بل شجع الابداع من أدب وموسيقى ومسرح وفن تشكيلي، والدليل شهادات العشرات من المثقفين والمبدعين، ودور الثقافة والسينما والمسرح التي أقيمت في عهده وازدهار الحركة الفنية وانتعاش الثقافة بشكل عام.
عقاب على الحقد وليس على النقد
واذا ما التفتنا الى شهادات المثقفين والمبدعين أنفسهم، فاننا نقف على جملة شهادات طيبة وتعترف بما قدمه عبد الناصر للفكر والابداع أدبيا وفنيا، فهناك مقولة للمفكر خالد محمد خالد، يقول فيها ” إنّ عبد الناصر لا يعاقب على النقد، وإنما يعاقب على الحقد”، ويشهد أن عبد الناصر لم يتصدّ لكتاباته يوما بل أقرّ مقالا نقديا له حول دستور 1956 “وهناك شواهد على تدخل عبد الناصر لصالح حريّة التعبير كلّما عرف بتجاوزات الأجهزة. وفي حدود مفاهيم “الديمقراطية الاجتماعية” يمكن القول إنه توفر في الجمهورية العربية المتحدة مجال لحرية التعبير لم تحظ بمثله أغلب التجارب المماثلة المعاصرة لعهد الوحدة، أو تلك التي جاءت في أعقابه”.
وحين كتب عبد الرحمن الشرقاوي مسرحية “الفتى مهران” أصيبت الرقابة بالفزع لأنه كان يصف رجال الثورة بأنهم هياكل من “ورق مقوى” وكانت المسرحية ضد ذهاب الجيش المصري الى اليمن، في الوقت الذي كان يموت فيه الجنود هناك دفاعا عن الثورة، ومع هذا أمر عبد الناصر بنشرها وعرضها على خشبة المسرح القومي.
ويسرد لنا الكاتب اليساري أحمد حمروش في كتابه الشامل ” قصة ثورة 23 يوليو” وفي الجزء الثاني عن اقدام عبد الناصر على تعيين الصحافيين والكتاب الماركسيين، وبعضهم كان معتقلا في السجون، في مواقع ومناصب هامة في الاعلام كرؤساء تحرير صحف ومجلات وخلص الى القول ” وأصبح المسؤولون عن الصحف جميعا أعضاء عاملين في طليعة الاشتراكيين.. محمد حسنين هيكل مع مجموعته بالأهرام وصلاته الخاصة بعبد الناصر.. خالد محيي الدين، أحمد فؤاد، أحمد بهاء الدين، مصطفة بهجت بدوي، كاتب هذه السطور ( أحمد حمروش – ز.ش)” راجع صفحات 267-270)
ويشهد سامي شرف، مدير مكتب عبد الناصر في حواره مع الصحفي عبد الله إمام، أن عبد الناصر أجاز مقالات حذفها الرقيب ” وفي كثير من الأحيان الرئيس أجاز مقالات كان الرقيب معترضا عليها وبعض المقالات حذفها الرقيب أو طلب حذفها وصلت الرئيس.. الرئيس يتصل بالرقيب العام ويقول له المقالة الفلانية تنشر..” من كتاب “عبد الناصر كيف حكم مصر؟” (ص 244).
وهناك قصة الشاعر نزار قباني المشهورة والذي منع دخول مصر بعد نشره قصيدة ” هوامش على دفتر النكسة”، فأرسل برسالة للرئيس جمال عبد الناصر وعلى أثرها أصدر الرئيس تعليماته بالسماح للشاعر بدخول مصر بكل حفاوة ونشر القصيدة في مصر، وروى ذلك كله نزار قباني في كتابه “قصتي مع الشعر” ويمكن مراجعتها في أعمال نزار الكاملة، ج 7، ص434-441.
ويقول نزار في ذلك ” أجد أن الأمانة التاريخية تقتضيني أن أسجل للرئيس الراحل جمال عبد الناصر، موقفا لا يقفه عادة إلا عظماء النفوس، واللماحون، والموهوبون الذين انكشفت بصيرتهم، وشفّت رؤيتهم، فارتفعوا بقيادتهم وتصرفاتهم إلى أعلى مراتب الانسانية والسموّ الروحي.”
ناكرو الجميل من الأدباء والحاقدون من الاخوان يتفقون على مهاجمة عبد الناصر
يشكل نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم نموذجا لعدد من الكتاب المصريين الذين استفادوا من رعاية عبد الناصر لهم، وتمتعوا بحيز واسع للكتابة والنقد في ظل حماية عبد الناصر الشخصية لهم، وكان أولئك أول الطاعنين بعبد الناصر بعد رحيله، مثال على ذلك الكتيب البائس الذي وضعه الحكيم بعنوان ” الوعي المفقود” وما ادعاه نجيب محفوظ في مذكراته من أن نقطة الخلاف الأساسية بينه وبين ثورة 23 يوليو تتعلق بغياب الحريات، ويقول في ذلك الكاتب عوني فرسخ بأن محفوظ ” آخر من يحق له قول ذلك وهو الذي لم يصادر له كتاب أو يمنع مقال رغم معارضة الكثيرين من رجالات الحكم، والسبب كان وقوف جمال عبد الناصر الى جانبه ودعمه”.
وعن الزعم بغياب الحريات في عهد عبد الناصر يقول محمد بركات ” وفي عصر غياب الحريات كتب جميع كتاب المسرح أعمالهم التي هاجمت النظام بصراحة ووضوح”. ويخلص الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل في حواره مع الكاتب يوسف القعيد الى ” أن سجل الإنسان في مصر في وقت جمال عبد الناصر برغم كل ما يمكن أن تقوله أو أقوله، أو يقوله غيرنا، أفضل من سجلات كثيرة غيره. مع العلم أن زمن جمال عبد الناصر كان زمن معارك متواصلة ضد قوى تريد السيطرة على المنطقة، وكان جمال عبد الناصر هو العدو الرئيسي لها، كما كان العدو الأكبر لإسرائيل”. (عبد الناصر والمثقفون والثقافة، ص 414).
أما تذمر واعتراض جماعة الاخوان المسلمين على غياب الحريات في زمن عبد الناصر، أمر يدعو للسخرية والرثاء، فالاخوان هم أيضا آخر من يحق له الاعتراض وهم الذين لا يؤمنون بالديمقراطية واطلاق الحرية للابداع الفني والأدبي، بل أنهم حاربوا الابداع ومنعوا نشر عدد كبير من الأعمال الأدبية والفنية حتى وهم خارج السلطة، وذلك بممارسة تأثيرهم وتسلطهم واحتكارهم للدين تسخيرا لمصالحهم وانغلاقهم، واذا لم يتمكنوا من ذلك في عهد عبد الناصر الا من خلال مؤسسة الأزهر، فانهم صالوا وجالوا في عهد المرتد السادات، وفي هذا الصدد تقول الباحثة د. لينا الشيخ – حشمة في كتابها ” خلال الأشهر الخمسة الأولى من عام 1989 منعت الرقابة الدينية خمسة وخمسين كتابا في مصر لأنها تمس بالدين أو بالأخلاق العامة” (ص 84)، ويأتون بعد هذا ويهاجمون عبد الناصر مدعين أنه صادر كتبهم! أضف الى ذلك ملاحقتهم لعميد الأدب العربي ونتاجه الفكري وخاصة كتابه ” في الشعر الجاهلي” وكتاب ” الأيام” الذي منع من المنهاج العام، عام 2010 بضغط من شيوخ الأزهر.
إن رثاء الشاعر أحمد فؤاد نجم وهو في السجن لعبد الناصر، وكذلك الشاعر أحمد دنقل والكاتب صلاح عيسى، ينسف كل ادعاءات المغرضين والحاقدين المعادين لثورة 23 يوليو، والمروجين لأكاذيبهم المتكررة الممجوجة، ويبقى عبد الناصر علما في سمائنا يرمز للحرية والوطنية والكرامة العربية.
* (شفاعمرو/ الجليل)