نستولوجيا اليسار العربي.. احتضار الأيديولوجيا وأممية السقوط
بقلم : حسن العاصي/ الدانمرك
كيف يكون الإنسان يسارياً؟ ما الذي يعنيه الفكر اليساري تحديداً؟ من هم أهل اليسار في الألفية الثالثة؟ ما الفرق بين اليسار المتعصب والإسلام المتشدد؟
هل اليسار العربي موجود حقاً بشكل حسي ملموس، أو بشكل رمزي، أو بصورة تاريخية أم حزبية أم أيديولوجية، أو موجود بمواقف سياسية، أم كمنظومة فكرية، أم موجود بالانتماء والتحزب؟
إن مدارس ومذاهب الفكر الفلسفي والسياسي متنوعة ومتعددة. فيما يتعلق بالفكر السياسي اليساري عامة تجد تيارات اليسار الاشتراكي، اليسار الليبرالي، الشيوعي، الماركسي اللينيني، التروتسكي، الماوي، الديني واللا ديني، اليسار الإإسلامي، اليسار المسيحي.
اليسار العربي ليس استثناءً، فهو يسار ذو طيف فكري واسع، هناك اليساري الشيوعي، الاشتراكي، القومي، الماركسي اللينيني، الماوي، يسار ديني، ملحد. وتتعدد الميول لدى اليسار العربي، فهناك أحزاب يسارية عربية وأفراد يساريون يميلون لليسار، الروسي، ومنهم يميل للصيني، لأمريكا اللاتينية، للتجربة الأفريقية. وهكذا ببساطة نلاحظ التشرذم الذهني والفكري هو سمة اليسار العربي بسبب اختلاف مرجعياته النظرية، مما أدى إلى تحوله ليسار تائه متشتت لا عمق له ولا أصالة. وهو اليسار الذي لم يجد معظم قادته ومنظروه في ثقافتنا العربية التاريخية أية عناصر قوة، وبظني هنا تكمن واحدة من أبرز الأزمات الوجودية لليسار العربي عامة. فعلي الرغم من أنه يقدم نفسه على أنه يسار عربي إلا أنه يقدم أفكاراً ونظريات غريبة تماماً، بل ومتناقضة مع الموروث الاجتماعي للشعوب العربية، وصلت إلى حد تجاهل أهم عنصر ثقافي لدى شعب المنطقة وهو الدين، مما أدى إلى عزوف الناس عن كل ما يقدمه اليسار، حيث اعتبروه قادم غريب على واقعنا.
في فقه النقد
نحن نرمي الأحجار في المياه الراكدة لتحريك ما هو آسن في مستنقع الأفكار ونسعى إلى الانعتاق من ثقافة التخلف والتقوقع إلى ثقافة التميز والإبداع والتجدد. إن دق الأبواب وطرح الأسئلة وممارسة النقد والمراجعة وسياسة فتح النوافذ أمام الرؤوس، هي ممارسات تؤدي إلى تجدد الأفكار والطاقات، وإلى تدفق الإبداع والحلول التي تشكل الممر الرئيسي للتغيير المجتمعي، وأهم أسرار التفوق والتطور.
نحن نبحث عن موضع ومفاهيم الأفكار والسلوكيات اليسارية غير المنغلقة، والتحررية التي تنحاز إلى هموم الناس البسطاء وتطلعاتهم، وتعمل إلى إيجاد حلول لمشكلاتهم، اليسار الذي يؤمن بالحرية والتطور، وعن اليساري المنفتح الذي يتبنى قيم العدالة والمساواة ويحارب الظلم، وليس عن اليسار الفوقي والنخبوي، ولا عن الأفكار اليسارية المتزمتة التي ترفض التجدد، ولا عن اليساريين الذين يقفون بجانب الطغاة ويدافعون عنهم.
موطن اليسار الجديد
معظم اليساريين العرب أصبحوا أشبه للسلفية الدينية فيما يرتبط بأسلوب فهمهم وقراءتهم للأحداث، فهم متمسكين بنظريات وشعارات فقدت كل صلتها بالواقع المعاش منذ سنين. والكثير منهم لم يكلف نفسه للآن عناء تفقد ما يجري حوله، إذ ظل أسير رؤية لم يعد يربطنا بها شيء في عالمنا المتسارع بالتحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
إن فاجعة الفكر اليساري في العالم العربي أن أحزاب هذا الفكر وقادته غاب عنهم أن مُنظري هذا الفكر الكبار في الغرب كانوا يحذرون من أن مجمل الحركة اليسارية العالمية قد بدأت تنزلق نحو مستنقع الجمود، حتى قبل انهيار الاتحاد السوفيتي بوقت طويل، وحذروا كذلك من النتائج الكارثية لقيام الفكر اليساري في تكفير جميع المذاهب الفلسفية، بحجة أن الفلسفة الماركسية قد ألغت ما قبلها. وهذا تماماً ما يفعله الفكر السلفي الديني الذي يحاول فرض موروث فكري على واقع مغاير.
إذ تُعتبر الأيديولوجيا عند الفكر اليساري بمثابة مسلمة لا جدال فيها، وهي قادرة على تفسير كل شيء. بهذا تصبح الأيديولوجيا دين جديد بامتياز، فهي تتبنى فكرة مسلمات إيمانية تجمع حولها عصبية طائفية من معتنقي هذه الأفكار، وتتدعي أنها أفكاراً واقعية. وبهذه الصورة يتم تبنّي الأيديولوجية اليسارية من قبل اليساريين العرب وأحزابهم، بعد فصل الأفكار عن سياقها التاريخي.
تتمحور الفكرة اليسارية حول الفكرة الشيوعية التي تعتبر أن الطبقة العاملة هي الطبقة القائدة في المجتمع ومكلّفة عبر الفلسفة المادية بإنقاذ العالم، وأن جميع الطبقات والشرائح الاجتماعية الأخرى عليها أن تتبعهم. حسناً، ألا يذكركم هذا بالفكر الفاشي الذي يؤمن بأن خلاص البشرية مرهون بالعرق الآري حصرياً، وأن جميع الأعراق الأخرى هي أعراق أدنى وعليها الخضوع لهم.
وكذلك حال أصحاب الأيديولوجية الدينية السلفية المتشددة التي تصيغ رؤيتها للعالم على أساس أنهم المنقذون للناس.
السؤال الأكثر إلحاحاً الآن هو: هل يمكن لليساريين العرب أن يستوعبوا الحقائق البديهية بأننا أصبحنا نعيش في عصر العولمة والتكتلات الاقتصادية عبرة للقارات، وعصر التطور السريع في التكنولوجيا ووسائل التواصل، وأنه لا يمكن مع هذا التطور التمسك بأفكار وعقلية القرن التاسع عشر، ولا حتى القرن العشرين؟ هذا ببساطة لأن الكثير من النظريات والمسلمات قد تجاوزتها التطورات التي حدثت في عمق المجتمعات البشرية. هل حقاً أصيب معظم اليساريين العرب بتصلب في الرؤية يمنعهم من قراءة كتاباً واحداً في الفكر أو الفلسفة الحديثة؟ أم أن شدّة العصبية الفكرية والأيديولوجية والحزبية جعلتهم ينغمسون فيما يظنون أنه نضال ضد الامبريالية العالمية، فيما هو في حقيقته مرض عضال اسمه ” وهم إعادة عقارب الساعة إلى الوراء” وهو مرض لا شفاء منه كما تعلمون.
أهم الحقائق التي على اليسار العربي أن يتوقف أمامها أن هناك واقعاً جديداً فرضه طغيان العولمة وتطور وسائل الاتصالات، وأن هناك أدوات جديدة للتواصل بين البشر ومخاطبتهم أهم كثيراً من كافة الشعارات التي يرفعها هذا اليسار وأخطر، وعلى الجميع أن يتعامل مع هذه المعطيات الجديدة بما فيه اليساريين أينما وجدوا بكل وعي ومسؤولية.
من جهة أخرى على اليسار إدراك أن قضية تحقيق المهام المصيرية الكبرى للشعوب والأمم لم تعد مناطة بطبقة “البروليتاريا” وأحزابها. ومع احترامنا وتقديرنا الكبير للطبقة العاملة، إلا أن التطورات والمتغيرات التاريخية التي أصابت المجتمعات البشرية أفقدت العمال دورهم الطليعي كطبقة سوف مقدر لها أن تقود التغيير الاجتماعي والاقتصادي والسياسي العالمي.
ثم من بالغ الأهمية القول بأن على ما بقي من اليسار العربي أن يقوم بمقاربات جديدة للواقع، تبدأ في طرح الأسئلة الأساسية، وإرجاع الإشكاليات إلى جذورها، ثم إعادة صياغة الأهداف والتطلعات بما يتلاءم مع التحولات التي شهدتها – وما تزال- المنطقة، والقيام بابتداع صيغ مختلفة لمقاومة الاستبداد الأيديولوجي والسياسي والديني في البلدان العربية، وانتزاع الحقوق المدنية للشعوب العربية في العيش بكرامة وحرية، وبناء مجتمعات مدنية تضمن حقوق متساوية لجميع المواطنين بغض النظر عن العرق أو الدين أو المذهب أو الطائفة.
وحتى نكون غير مجحفين، نقول إن هناك عدد محدود من المثقفين اليساريين معظمهم كتّاباً وأكاديميين الذين حظوا بالتقدير لأدوارهم في مسيرة ونضال الشعوب العربية لنيل حريتها وبناء الدولة المدنية.
إشكالية اليسار أم المثقفين
لكن هل هذا الحال يشير إلى أزمة المثقفين العرب، وإلى هشاشة وضعف المثقف العربي – اليساري خاصة- أم إنها فعلاً أزمة اليسار العربي الذي حاول قراءة واقع العالم العربي بمقاربات أيديولوجية مثالية وطوباوية ما بعد الاستعمارية.
غالباً اليساريين في فلسطين، لبنان، المغرب والسودان بدرجة أقل كانوا فاعلية ونشاطاً أكثر من سواهم في بقية الدول العربية، في ربما لأسباب تعود إلى الهوامش الفكرية المريحة التي يوفرها المجتمع في تلك البلدان.
وفي المقابل هناك سيل من جيش اليسار فشلوا كلياً والبعض القليل – جزئياً- في تحقيق الشعارات التي رفعوها وآمنوا بها عبر عقود طويلة، بل أن بعض اليساريين أصيب بالانهيار الفكري، ومنهم من تحول إلى العبودية التي تفرضها معظم الأنظمة السياسية العربية.
هي إشكالية مزدوجة فكرية وثقافية لا تقتصر مفاعيلها فقط على اليسار، إنما يتم تسليط الضوء على أزمة اليسار بسبب الخيبات التي أصيبت بها الجماهير نتيجة عجز هذا اليسار- في معظمه- وسقوطه فكرياً وسياسياً وأخلاقياً.
المثقف العربي مطالب باستعادة دوره التنويري التحرري ومكانته المجتمعية، بعد أن أصيبت الشعوب باليأس من واقعها السياسي، وبعد أن تدنت مكانة الثقافة وانحسر بالتالي معها دور المثقف. المثقف العربي هو الجهة الوحيدة التي يمكن لها من إعادة الروح لجسد الأمة المتخشب.
يسار ما بعد الاستعمار
اليسار ما بعد الكولونيالي الذي شكل كتاب المفكر إدوارد سعيد “الاستشراق” الأساس الفكري له، حيث تم التأسيس النظري لظهور مصطلحات “المركزية الغربية” و “غرب/شرق”، “علماني/إسلامي” وغيرها من الثنائيات كالحداثة في مواجهة التراث، وقد انتقلت هذه المقاربات إلى كافة فروع العلوم الإنسانية.
فبعد حوالي سبعة عقود من الظلم والقهر والاستبداد والتغوّل في الواقع العربي مارسته معظم الأنظمة العربية، لم يتمكن المثقفين اليساريين من فهم وإدراك ديناميكية الواقع المحلي وحركته، وعجزوا عن ملامسة المصالح الحقيقية للناس ومعرفة تطلعات شعوب المنطقة. لذلك لم يكن مفاجئاً موقف اليساريين العرب من عموم الحراك الجماهيري في الكثير من البلدان العربية، ومن التغيرات السياسية، إذ أنهم توصلوا إلى تحليل – يساري- أن ما يحصل في المنطقة هو لعبة جيو-سياسية ومؤامرة غربية امبريالية ضد مصالح المنطقة وشعوبها.
إن هذا التحليل السطحي للتفاعلات والتحولات المجتمعية في العالم العربي يضع الكثير من المثقفين -اليساريين- وسواهم بطبيعة الحال إلى جانب الديكتاتوريات العربية القمعية، بحجة أن القوى العربية المعارضة الناشئة ترتبط بالغرب الاستعماري، وأنها متآمرة مع الخارج لإلحاق الضرر بمجتمعاتها، وأياً كانت هذه المعارضات تحررية تقدمية مدنية أو كانت إسلامية وسلفية، فإن التهمة جاهزة عند هؤلاء المناضلين اليساريين لإلصاقها بكل من لا يتوافق مع الأيديولوجية التي يعتنقونها، وبهذا فهم البوق الذي يبرر للطاغية والجلاد العربي سياسة القمع والتعسف والاضطهاد والاستبداد والقهر والاعتقالات وتكميم الأفواه والقتل الذي يمارسها بحق كل معارضيه.
هذا اليسار الذي أخفق في قراءة واقعه، أخفق في تحقيق شعاراته، أخفق في علاقاته مع الجماهير، أخفق في أنجاز مهام مرحلة التحرر الوطني وأهمها قضيته الأولى فلسطين، هو اليسار العربي الذي يبرر ويجيز تدخل بعض القوى الأجنبية في الشأن العربي، ويجرم و يهاجم تدخل قوى امبريالية أخرى، هو اليسار نفسه الذي يتجاهل اليوم كافة التطورات والتغيرات الاجتماعية والفكرية والاقتصادية في أكثر من مكان بالوطن العربي، وأثبتت الأحداث أنه يسار لا يمتلك قدرة على تفسير وتحليل ما يجري في العالم ومقاربته مع الواقع العربي، مثلما غابت عنهم فهم التحولات التي حصلت – وما تزال- في أماكن أخرى مجاورة كالقارة الافريقية مثلا ومجتمعات أخرى.
واقع اليسار العربي وأحزابه وتجمعاته وأطره المختلفة يشير إلى أنهم وقعوا في فخ تلاوة التاريخ بشكل أصم وتقليدي، بدلاً من التعامل معه وفق المناهج التحليلية النقدية الحديثة، وأنهم اكتفوا بترديد خطابات وشعارات رائجة على شكل عظات، حتى تتخيل أن قائلها اجترح المستحيل.
يسار يكيل بمكيالين ولديه معايير مزدوجة تجاه قضايا المنطقة. يسار فشل في فهم التناقضات التاريخية لـلأزمة الرأسمالية المستمرة العابرة للقارات، وكذلك عجز هذا اليسار عن معالجة الانسداد التاريخي في عدد من الدول العربية القمعية القهرية والتي فاق الاستبداد فيها تأثير القوى الغربية الاستعمارية على شعوبها وعلى المنطقة.
ويمكن للمهتمين العودة إلى كتاب مهدي عامل “ماركس في استشراق إدوارد سعيد، هل القلب للشرق والعقل للغرب؟” وكذلك كتاب صادق جلال العظم “الاستشراق والاستشراق معكوساً” لدحض أفكار روّج لها بعض المفكرين اليساريين الذين يدعون إلى استلهام المعرفة من الأصول غير الغربية، متجاهلين أن المشكلة الأساسية في القوى السياسية والأنظمة الغربية التي تقف وراء هذه العلوم الاجتماعية، وليس في المعرفة بحد ذاتها ولا في فروع العلوم الغربية.
تفكيك الفكر اليساري
إن توجيهنا النقد لليسار العربي ليس الغاية منه الإساءة إلى الكثيرين من المناضلين اليساريين، ولا الغاية منه التقليل من شأن دور الفكر اليساري الذي لعب دوراً مهماً في مرحلة تاريخية معينة في إنارة العقل البشري، عبر استخدام الأساليب النقدية لتقويم الخلل المتأصل في كثير من المجتمعات العربية.
بل أن ما نقوم به هو دعوة لتفكيك بعض مكونات الفكر الفلسفي والسياسي اليساري العربي. وهذا النقد لا يعني بأي حال من الأحوال أن بقية التيارات الفكرية العربية الأخرى بخير وفي وضع نموذجي.
إن مختلف التيارات الفكرية في المنطقة العربية فشلت في إنهاء معاناة الإنسان العربي، وتحقيق تطلعاته في العدالة والحرية والعيش بكرامة دون ذل الاستدانة، ناهيك عن فشلها أيضاً في تحقيق أي إنجاز يذكر مرتبط بالأهداف الاستراتيجية الكبرى، مثل تحقيق الاكتفاء، وبناء دولة المؤسسات الحديثة، ومشروع التكامل العربي، أما عن قضية العرب الكبرى فلسطين فلم يعد أحد يتحدث عنها وعن معاناة شعبها سوى عدد قليل جداً من الأنظمة العربية، وتحولت لدى آخرين مادة للمزايدات السياسية، والبعض الآخر يجاهر دون خجل بأن القضية الفلسطينية أصبحت عبئاً على مقدرات بلده، ومنهم من يتآمر لتصفيتها.
نحن نحتاج إلى إعادة توصيف المفاهيم والمصطلحات التي تولّدت عبر علم الاجتماع اليساري، وكذلك تحليل خطاب اليساريين العرب الفكري والسياسي، ومحاولة إقناعهم أنهم ليسوا المتحدثين باسم الأمة العربية وشعوبها. ثم مباشرة النقد المعرفي للأيديولوجيات الإثنية والعقائد الغربية في الواقع العربي.
اختلط اليسار باليمين
هل تذكرون يوماً كان يوجد فيه يساريين عرباً يهتفون في شوارع العواصم العربية للحرية والعدالة ومحاربة الظلم والاضطهاد، وينادون بحكم الشعب، ويدعون إلى إسقاط أنظمة الاستبداد العربية؟
نعم هم اليساريين أنفسهم الآن تحولوا إلى ألد أعداء الشعوب العربية التي تحركت لتطالب باستعادة حقوقها وكرامتها التي أهدرتها بعض الأنظمة العربية. إن مثل هذه المفارقات لدى اليسار العربي أحزاباً وأفراداً يعني غياب المصداقية في رفع الشعارات، ويعني ازدواجية المفاهيم، وعدم وجود الرابط بين الأقوال والأفعال، وبالتالي هو نوع واضح وجلي من النفاق الفكري والسياسي، مارسه هذا اليسار العربي الخادع والمخدوع، بنفسه وعلى نفسه أولاً وعلى الجماهير العربية ثانياً عبر عقود متتالية.
غاب عن اليسار العربي مسلمة أنه لا توجد مناطق محايدة في مواجهة الظلم وإنصاف الشعوب، وتحقيق العدالة وهي جوهر الفكر اليساري. وإذا ما ظلت الديناميكية الفكرية شأناً بعيد المنال عن أصحاب هذا الفكر فإنهم سوف يتحولون رويداً رويداُ – وإنهم يتحولون- إلى صف الاستبداد المعادي لتطلعات وحقوق الجماهير العربية.
إننا نحتاج إلى غربلة الأفكار للتخلص من بعضها وتحديث الآخر، والقيام بعملية تحليل جدلي نقدية، وليس بالضرورة أن يكون هذا النقد نقداً مادياً راديكالياً يدمّر الأفكار الأخرى ويسحقها، حتى لا نكون في وضع يصبح فيه الفكر شمولياً لا شريك له. بل ما يجب هو أن يكون النقد جدلي يأخذ في الحسبان جملة المفاهيم والأفكار الأخرى السائدة في مجتمعاتنا وأبرزها موضوع الدين، وهو ما يعني قبول وتفاعل متبادل يساهم في تحقيق السلام الاجتماعي.
ربما لا نظلم أحداً بقولنا إن أزمة اليسار العربي ليست فقط أزمة بنيوية وأزمة مرجعيات، إنما أيضاً أزمة قيادات تسلقت اليسار كي تصل إلى موقع الحكم والقيادة. معظم هذه القيادات تم تلقينها بعض الأفكار وبعض المبادئ اليسارية النظرية، لذلك هم أصحاب ثقافة سطحية، وهم مصيبتنا الكبرى. إن الكثيرين من القادة اليساريين العرب لم يضيفوا شيئاً يذكر على الصعيد النظري والفكري، بل أن بعضهم قام بنقل النظريات بصورة سطحية لا تسمح بفك ألغازها، وبالتالي عدم تمكن هذه الأفكار من التكيّف مع بيئتنا الحاضنة.
كلمة ليست أخيرة
إن التحولات والتغيرات الاقتصادية والسياسية التي شهدها العالم ومن ضمنه منطقتنا العربية خلال ربع القرن الأخير، قد غيّرت طابعنا الاجتماعي وأفرزت واقعاً جديداً لا نرى فيه اليوم أي دور لليسار العربي. رغم أن الفكر اليساري فكراً ثورياً في مضمونه، ورغم أن الأحزاب اليسارية العربية والعالمية تمتلك تجربة غنية، إلا أنها لن تنجح في العودة إلى ساحة الفعل والتأثير في الأحداث ما لم تتغير بنيتها وخطابها وأدواتها.
من البلاهة بمكان الاستمرار على ذات المنهاج القديم وكأننا لا نرى الانهيارات حولنا. اليساريين العرب لا يلاحظون تأخرهم عن مواكبة العصر الراهن، هذا التأخر أخذ صفة التراكمية، الأمر الذي يعيق أية محاولات للتصويب وتصحيح المسار يوماً بعد آخر. الكارثة أن مجرد النقد كان وظل محرماً لدي الأحزاب اليسارية العربية، فهم وحدهم على صواب، والآخرون في خطأ يقبعون، على الرغم من أن الأحزاب الوحيدة التي تداعت مثل هيكل كرتوني هي الأحزاب اليسارية.
يتم في هذه المرحلة إعادة تأسيس وتقنين النظام الرأسمالي العالمي على اكتاف مليارات البشر من الطبقة الوسطى والطبقات والشعوب الفقيرة من دافعي الضرائب ليزداد الفقراء فقرا وتتغوّل الرأسمالية وازداد ثراء أكثر.
فهل يعي اليساريين حقائق العصر بأن البشرية تمر بمرحلة جديدة بعد تفكك وانهيار الاشتراكية السوفياتية، وبروز تناقضات جديدة أوجدت واقعاً جديداً غيّر وجه العالم؟ أم إننا سوف نعزي رفاق الأمس باليسار العزيز وندعو له الثبات في سؤال القبر؟