رَفْعُ السّريّة عن ( النّظام العلويّ !!! ) .. و لكن على الطّريقة الوطنيّة
بقلم : د . بهجت سليمان

1▪ عندما لا يخرج الفكر السّياسيّ ، الظّرفيّ منه و الاستراتيجيّ ، من هذه الحرب القذرة التي انضمت فيها قوى اجتماعيّة و سياسيّة و ثقافيّة سورية ، وتعاضدت مع قوى إعلاميّة و ثقافيّة و سياسيّة و ماليّة خارجية ، انضمت إلى دول وقوى إقليميّة و عالمية ..
عندما لا يخرج الفكر السياسي بنتائج حقيقيّة مثبتة بالبراهين الواقعية و العملية اليومية ، فإنّنا لا نكون أمام فكرٍ تاريخيّ مُستفادٍ على مستوى هذا الحدث التّاريخي الذي زلزل سورية و المنطقة معها و العالم كلّه.
2▪ و عندما يكتفي الكثيرون من المثقّفين و السّياسيين و الأكاديميين السّوريين ، بخاصّة ، بوصف قشرة الأحداث و ظاهرها المضلّل ، فإنّهم يكونون قد سلكوا طريق العميان في الظّلام . و هذا فعلاً ما حدث في الأوساط المثّقفة السّوريّة عندما لم تتمكّن نُخبتهم ، لأسباب عديدة ، من تجاوز الوصف السّطحي للأحداث بأسبابها و وقائعها بمحفوظاتها الاستقطابية العَنِتَة ، و ذلك في كلّ مستويات و مفاصل هذه الحرب ، فعوقِبُوا ، لغبائهم التّقليديّ المُزمن و محدوديّتهم البنيويّة ، من جهة.. بأن كانوا – كما ساهموا هم بذلك – ضحيّة للثقافات الإعلاميّة العابرة للدول التي وصلتهم فارغة حتّى من قيمتها الثّقافيّة الأصليّة ، من جهة أخرى ؛ فاعتمدوها ميكانيكيّاً و بنوا عليها في الكثير من المناسبات و في العديد من ” مراكز البحوث ” المزعومة و التي لا تعدو أن تكون ” دكاكين ” ثقافيّة شاهدنا منها ، أو من شبيهاتها ، الكثير في التاريخ المعاصر في سورية و المنطقة المجاورة ؛ فكانوا بذلك أن تراجعوا عن مواكبة الّلحظة السّياسيّة المعاصرة بقدْرِ ما تجاوزتهم طبيعة الحرب و دروسها ، التي هي بقدّر ما فتحت آفاقاً جديدة للمعرفة ، فإنّها أيضاً لخّصت تاريخاً لسورية المعاصرة ، كانوا هم أحوج إلى إدراكه ، في ما لم يُدركوه و لم يستطيعوا تجاوز عصابيّتهم الثّقافيّة الفئويّة و الطّائفيّة الانقساميّة التي تأسسوا عليها في انقطاعات شاملة عن التّجربة السّياسيّة المعاصرة للدّولة في سورية.
3▪ نقول عادةً – و هذه مناسبة لنعود إلى القول – إنّ الدّولة في سورية تجاوزت كثيراً منذ عام 1963 ، التّركيبة الثقافيّة الاجتماعيّة المنغلقة التي استعادها و يستعيدها المثقّفون السّوريّون في كلّ مناسبة تاريخية تطرح تحدّيات معالجة ما يُسمّى بعلاقة السّلطة ( أو الدولة ) بالمعرفة.
4▪ حاول زعماء عصابات هذه الحرب ، في المستوى الدّاخليّ ، أن يُقدّموها على أنّها ثورةُ مواجهاتٍ شعبيّة ضدّ دولة شموليّة ، كما يُحب المثّقفون المزيّفون أن يقولوا.
ولم يكن لهذا التّوصيف أن يصبح مألوفاً في الدّعاية السّياسيّة للحرب ، لو لم يكن قد سبقه تاريخ من الأسس الثّقافيّة العُصابيّة الرّاديكاليّة و ” العنصريّة ” ، التي أسست لهذا الخطاب جذوراً و منطلقات كافية ، ليكون على هذا القدر الكافي من المحدوديّة و الحقد السّياسيين الّلذين واجهناهما في ثنايا الحركة الاجتماعيّة السّياسيّة للمجتمع السّوريّ المُصادَر ، بواسطة مقتضيات ذلك الخطاب التّاريخانيّ للمعارضة الوضيعة ، و المجزوء من سياقه التّاريخيّ.
5▪ يقودنا هذا الحديث إلى وصلٍ تاريخيّ بين الأسباب و المسبّبات التي كان لها الدّور الأكبر في تأجيج صراعٍ دامٍ ، دفعت سورية ثمنه و ستدفعه – ربّما – لعقود عديدة قادمة.
هذه تقديراتٌ متنوّعةُ و متفاوتةُ المصادر الحسابيّة ، و لكنّ الواقع يُصادق على مؤشّراتهابوضوح ، و بالتّأكيد.
ولا تزال حتى هذه اللحظة تنظيرات بائسة للمعارضات السّياسيّة و الاجتماعيّة ، المعلنة منها و المضمرة ، تشي بنفسها في الإيحاءات و التّعليقات الأخلاقية ” الحكيمة ” (!) و التي تربط ، جميعها ، تاريخ حدث هذه الحرب على سورية ، بطبيعة ” النّظام ” السّياسيّ في سورية منذ السّتينيات ، و تركيبته ” العقائديّة ” و ” الحزبيّة ” و ” الطّائفيّة ” (!) المزعومة.
6▪ صار اليومَ من الّلازم ” رفع السّريّة ” السّياسيّة و التّاريخيّة عن ” الخطاب ” السّياسييّ الموتور الذي عرفته سورية منذ أكثر من ستين عاماً أو يكاد..
وبالعكس فإنّ الصّمت عليه اليوم سيشكّل استمراراً للمهزلة الثقافيّة ذات الاتّجاه الواحد ، التي عرفتها سورية في أدبيّات المعارضة المنافقة و العميلة ، و التي تسري بتعفيسٍ (!) و وقاحة ، دون أن يكون لها ما يناسبها من المواجهة في المعرفة التي تتحدّى الثّقافات الاتّفاقيّة الكاذبة.
7▪ و عندما لا يجد الفكر السّياسيّ الهزيل بديلاً عن ممارسة حقده التّاريخيّ ضدّ ” المجتمع ” ، فإنّه يعزو جميع الأسباب التّاريخيّة الاجتماعيّة و الاقتصاديّة و الثقافيّة و التّاريخانيّة و القبليّة و الموضوعيّة بخاصّة منها ، يعزوها إلى اقتضاب غير أخلاقيّ في التّعليل و التنظير السّياسيين حول دولة ” طائفيّة ” و ” شموليّة ” ، مع أنّ خطاباً محدوداً كهذا لا ينطلق إلّا من الأسباب و المنطلقات التي ، هو بدوره ، ينسبها ، زوراً ، إلى ” الدّولة ” في سورية و ” النّظام “!
8▪ تفشى الخطاب الرّاديكاليّ الموتور ضدّ المجتمع السوريّ ممثّلاً بالدّولة الوطنيّة في سورية ، مبكّراً منذ أوائل ستينيات القرن الماضي ، بعد تفكّك السّلطات التاريخيّة الاقطاعيّة المبطّنة بالدّين ، و البورجوازيّة الطّرفيّة الكولونياليّة ( الكومبرادوريّة ) ، و شعورها بالهزيمة التاريخيّة الأبديّة و يقينها بغيابها التاريخيّ عن المسرح الاجتماعيّ و الاقتصاديّ و السّياسيّ في سورية.
كان ذلك الخطاب أن صَدَرَعلى ألسنة طبقة من ” المثقّفين ” و ” المنظّرين ” السّياسيين الذي ناصَبوا مباشرة ، لأسبابهم المفهومة ، الدّولة ” البعثيّة ” المُبكّرة ، العداءَ ، بعد أن تماهى ( الخطاب ) مع وعي ” اجتماعيّ” انعزاليّ مؤسَّسٍ على خرافات دينيّة – سياسية في نصوص دول الخلافات الإسلاميّة البائدة ، العربيّة منها و غير العربية ( كان أوضح من مثّلها ” الإخوان المسلمين “) مرتبط بمعاداة الحرّيّة التّاريخيّة التي تتمتّع بها القوى القادرة على الإندماج في التّاريخ السّياسيّ العالميّ و التّفاعل مع حضارته الشّاملة.
9▪ لقد شاهدنا في الحرب الكونية القائمة على سورية ، منذ أكثر من سبع سنوات حتى اليوم ، النّمط الأمثل للخطاب السّياسيّ الانعزاليّ الرّجعيّ الحاقد و الّلئيم الذي حاول دغدغة الكوامن المرضيّة في وعي الفئات الاجتماعيّة الرّثّة ، و التي استطاع هذا النّمط من تجييشها الأحمق ، لتدفع الثّمن الأكبر في مواجهة دمويّة خاسرة ، أثبتت الأحداث الجارية و نتائجها ، عجزها التاريخيّ عن إحداث المكافئ الواقعيّ لذلك الخطاب السّياسيّ الخائن و الخادع و المأجور و المزيّف.
10▪ كان جوهر الخطاب الانتقاميّ و الثّأريّ – و من دون تقيّة أو حياء سياسيَين ، الآن! – يتمثّل بالتّهويل و التّخويف الطّائفيّ الذي يزعم بأنّ ” الدّولة ” و ” النّظام ” هما مصدرا أسبابه و خطره الموجّه إلى ” المجتمع “.
من الطّبيعيّ أن تصل سويّة خطاب ” الثّورة المضادّة ” إلى هذا المستوى الثّقافيّ و السّياسيّ البذيء ، عندما لا تجد لها خطاباً واقعياً في برنامج سياسي عمليّ و ديموقراطيّ حقيقيّ قادرٍ على تسويغ ارتهانها و ارتزاقها للأخر المتمثّل بالأعداء السّياسيين و التّاريخيين لسورية.
الحقيقيّ في الأمر أنّ ” ثقافة ” سياسيّة ، كهذه التي عمّمتها ” الثّورة ” المضادّة على الجاهلين ، و يُمثّلها ” إسلاميّون ” راديكاليّون و مثقفون رجعيون و بورجوازيون صغار و أكاديميّون متشرنقون في الأمّيّة السّياسيّة و الثقافيّة ، على مختلف طُرُزِهم الانعزاليّة الجهاديّة و التّكفيريّة و الثّأريّة و الانتقاميّة ؛ لا يمكن إلّا أن تدّعي لها ” عدوّاً ” يناسب خطابها ” الدّينيّ ” الموهوم.
هذا تفسير أوليّ لخطاب الحرب ، ” الطّائفيّ ” ، الذي غزا ثقافة الصّراع في الحرب على سورية و امتدّ إلى الكثير من الشّرائح الاجتماعيّة ذات المصلحة بالانغلاق التّاريخيّ لمجتمع مغلق مؤهّلٍ ” ثقافيّاً ” لخطاب من هذا القبيل.
11 ▪لقد أثبتت الوقائع زيف هذا ” الخطاب ” السّياسيّ الدّينيّ ..
ومع ذلك فإن مراكز التفكير العالمية ، وبيوتات الإستخبارات المتواشجة معها ، في حركة دائمة ودائبة لا تهدأ ، لإصدار الدراسات والبحوث والمؤلفات التي تقارب بلدان العالم الثالث ، مقاربات استشراقية ، طائفية ودينية ومذهبية ، وتزويد الفئات الداخلية المرتبطة بها والسائرة في فلكها ، وخاصة القوى التي تسمي نفسها ” معارضة ” ، بتلك الرؤى والقراءات الخبيثة ..
وذلك على عكس المقاربات التي تقوم بها تجاه بلدانها في الغرب الأمريكي والأوروبي ، و التي تركز على الجوانب السياسية والثقافية والفكرية بشكل أساسي .
وعلى رغم ذلك فإنّ علينا ، دائما ، تشريح مضمون هذا ” الخطاب ” الملغوم والمسموم ، و بخاصّة الآن ، لإثبات الخيانة السّياسيّة التاريخيّة ل” المعارضة ” التي وجهّتها إلى الشّعب السّوريّ ، و ما كلّفه ذلك غالياً من التّخلّف التّاريخيّ و الدّماء و الموت.
12▪ إنّ مسألة ” إعادة إعمار ” المجتمع لا تقف على ” العمران ” و البُنية الماديّة و الاقتصاديّة ، فحسب ، بل هي بالأحرى أكثر أهميّة “هناك” ، و أعني في إعمار البِنْيَةِ النّفسيّة للمجتمع ، حداثيّاً ، في علاقاته و مفاصله البِنيويّة من جديد.
و لايُمكن للبناء السّيكولوجيّ و السّوسيولوجيّ أن يكون هدفاً واقعيّاً و عمليّاً ، ما لم يتأسس أوّلاً على نقدٍ معمّق للكثير من جوانب و أوجه الخطاب ” التّاريخانيّ ” الذي اعتمدتهُ ثقافة الحرب.
13▪ إنّ موضوعة ” الطّائفيّة ” و الّلعب على مفرداتها السّياسيّة في نخر ” المجتمع ” و ” الدّولة ” و ” النّظام السّياسيّ “، تستحقّ منّا وقفة أوّليّة ، على الأقلّ ، لتفنيد مضامينها التّاريخيّة ، مرّةً أو أكثر ، على الأقلّ.
لا يمكننا التّقدم أو التّطوّر إلى مجتمع ” مفتوح ” بثقافة منغلقة تُبيّتُ في ثناياها الكثير من خرافات ” المظلوميّة ” السّياسيّة المبنيّة على ” حِقدٍ ” اجتماعيّ تقليدي بأبعاد ثقافيّة طائفيّة و ” عنصريّة “.
14▪ بدأ الخطاب السّياسيّ – الدّينيّ – الطّائفيّ ، المعاصر و الحيّ ، مُبكّراً مع الحركات الدّينيّة الرّاديكاليّة و الثقافة الإقطاعيّة الصّلبة ، منذ منتصف عقد ستّينيات القرن العشرين الماضي ، عندما واجهت الرّجعيّة التاريخيّة السّوريّة و معها حركة ” خوان المسلمين ” ، الدّولة الوطنيّة الناشئة ، بسلوكٍ دمويّ مجرم لسنا في صدد العودة إلى وقائعه و تفاصيله و يوميّاته المعروفة لجميع المعاصرين في المجتمع في سورية و في الدّولة السّورية المعاصرة ( لم تألُ تلك المواجهات جهداً منذ 1963 و 1964 و 1965 و 1966 و 1967 و 1968 و 1970 و 1975 و 1980 و 1982 و حتّى عام 2011 و استمرار هذه المواجهة المعاصرة ).
و كلّ حيّ راشدٍ يذكر هذا التّاريخ القريب الذي صار جزءاً من المِخيال السّياسيّ السّوريّ.
15▪ في منتصف سبعينيات القرن الماضي ، ثمّ بخاصّة في أوائل ثمانينياته ، انضمّ إلى هؤلاء الرّاديكاليين الدّينيين المُجرمين ، طائفة جديدة من القوى السّياسيّة التي كانت تعتبر نفسها حاملة للواء التّقدّم و الماركسيّة و الاشتراكيّة و القوميّة العربيّة.. و ما إلى ذلك.
وجميعنا يذكر ذلك ” الحلف الأسود ” بين زمرة واسعة من الشّيوعيين ( فرع المكتب السّياسيّ للحزب الشيوعي السّوري ” رياض الترك ” ، و حزب العمل الشّيوعيّ أو ما كان في حينها يُسمّى برابطة العمل الشّيوعيّ ) و ” البعثيين ” الموتورين ( الشّباطيين ) ، في أواخر سبعينيات القرن العشرين ، و الذي (” الحلف “) واجه الدّولة السّوريّة ، جذرياً بخطابٍ طائفيّ لئيمٍ يتّهم فيه الدّولة و النّظام السّياسيّ بالطّائفيّة ” العلويّة “.. !!؟
لسنا أيضاً هنا بصدد الوقوف على الوقائع اليوميّة للجرائم التي اقترفها هؤلاء بحق الأبرياء من المجتمع السّوريّ.
16▪ و أخيراً ، و مع ” ثورة ” الحرب الرّجعيّة العالميّة الشّاملة على سورية ، اعتباراً من 18 آذار 2011م ، تركّز الخطاب ” الطّائفيّ ” و تكاثف في التّصريحات و الشّعارات ” الثورية ” و الإعلام المرافق لهذا و ذاك.
ومن المعروف لكلّ صاحب عقل و بصيرة ، أنّه ليس للدّولة ( أيّة دولة ) أن تكون دولة ” طائفيّة ” فيما هي تتوجّه إلى شعب كامل و مجتمع متنوّع و متعدّد ، يُسوّغ لها وجودَها كدولة.
ومن مقوّمات الدّولة التّكوينيّة وعناصرها المؤلّفة ، أن تكون حاكمة على شعب ومجتمع بمؤسسات اجتماعيّة مباشرة ، تعبّر عن مصالح المجتمع كلّه ، و ليس عن مصالح طائفة واحدة ، و تعملُ بالضّرورة بكامل طاقات الشّعب ، من أجل مردوديّة العمل الأعلى على المجتمع.
يعني أنّه بقدر ما تستطيع الدّولة أن تُشارك العدد الأكبر من الفئات و القوى الاجتماعيّة ، فإنّها بالقدر نفسه تضع سياقات تطوّرها مباشرة على سكّة التّنمية الشّاملةالتي لا يُمكن أن تكون حكراً لطائفة أو على طائفة دون طائفة ، بحكم تعريفها في علم الإدارة و السّياسة ، من أنّها النّمو العام ذو المعدّلات المتعارف عليها في تقويم و دراسة نتائج العمل الوطني و الاقتصاد القوميّ في الموازنة الشّاملة.
وهذه بديهيّات لكل ” متعلّم ” تجاوز أمّيّته السّياسيّة ، ناهيك عن كونها اختصاصات مدروسة في تحليل النّاتج الاجتماعيّ أو النّاتج القوميّ العامّ.
17▪ يبدو زيف ” الخطاب ” الطّائفيّ صريحاً و واضحاً في ” القاموس ” السّياسيّ ، و لو أنّه مازال يوظّف توظيفاتٍ مُضلّلة أكاديميّة و سياسيّة ، كما يلاقي له – بكلّ أسف – أدمغة صاغية!
ويجري غالباً ، في الدّراسات و الأبحاث و السّياسات و الإعلام البذيء ، الخلط المقصود بين حضور الفئات و الأقليّات الاجتماعيّة التي كانت مهمّشة تاريخيّاً – لأسباب معروفة عند الجميع بمن فيهم المكابرون و المعاندون و المتعنّتون – و التي استعادت لياقة اندماجها العام في المجتمع السّوريّ و في علاقات التّبادل و المبادلة العامّة ، بعد وصول ” حزب البعث ” إلى الحُكم في سورية ؛ و بين توصيف دورهم السياسيّ في الظاهرة التاريخيّة الموضوعيّة و الحتميّة ، بصيغة طائفيّة يُراد خُبثها من أجل التّضليل و التّحريض ضدّ الدّولة الوطنيّة في سورية و تبخيس إنجازاتها الاجتماعيّة ، على صعيد الاندماج الوطنيّ و الوحدة السّياسيّة الوطنيّة.
18▪ و مع أنّ هؤلاء ” الأقلّيّات ” هم من فئات و طوائف متعدّدة كالمسيحيين و العلويين و الإسماعيليين و الدّروز و الشّيعة الإماميّة ، و من الأكراد و الشركس و الأرمن و التّركمان.. إلخ ، إلّا أنّه يجري عادةً بخبث سياسيّ و موتوريّة دينيّة – تاريخيّة ، وصف الدّولة في سورية بـ ” النّظام العلويّ “.
ومن الواضح أنّه يجري اعتماد مؤدّى هذا ” الخطاب ” بسهولة و يُسرٍ ، انطلاقاً من دافع الحقد السّياسيّ و الطّائفيّ و الدّينيّ للمعارضات السّوريّة المبتذلة ، نتيجة أنّ رأس الدّولة و النّظام السياسي هو مسلم ” عَلَوِيّ”، أو من أصولٍ ” عَلَوِيَّة ” .
19▪ في الآونة الأخيرة تعمل الدّراسات ” المنهجيّة ” – العالميّة المزيّفة ، أيضاً ، على تكريس هذا ” الخطأ ” المقصود ، لتكون متعاضدةً مع المرضى السّياسيينَ بالطّائفيّة و الحقد الطّائفيّ ، في سورية ، و لتأدية دورها التّوجيهيّ نحو المزيد من تجهيل أبناء المجتمع السّوريّ.
ومع أن بعض هؤلاء ” الإستشراقيّين ” المزعومين يتبجّح بمنهج ( ابن خلدون ) و غيره ، فهذا ليس إلّا لإضفاء ” الموضوعيّة ” ( الكاذبة طبعاً ) على ” البحث ” ، و ترسيخ منطلق الإقناع المبدئيّ على الدّراسات التّافهة.
– و أبرز ما صدر في هذا المجال ، لكتاب غربيين ، مؤلَفٍ يناهز ( 400 ) صفحة ، يدّعي ” الأكاديميّة ” بعنوان :
( دائرة الخوف – العلويون السوريون في الحرب والسلم )
[ صادرٍ عن ” الدّار العربيّة للعلوم – ناشرون” ، من تأليف ” الباحث ” ( ليون. ت. غولد سميث ) النّيُوزيلانديّ ، و ترجمة ( د. عامر شيخوني ) و ” مراجعة و تحريرة” ( مركز التّعريب و البرمجة ) ]
– ويضاف إليه كتاب جديد بعنوان : ” تدمير وطن : الحرب الأهلية في سوريا ) للسفير الهولندي المستشرق ( نيكولاس فان دام ) .. صادر مترجما إلى العربية عام 2018 ، عن( دار جنى تامر للدراسات والنشر – بيروت – لبنان ”
وهذا الكتاب يدور في الإتجاه ذاته الذي يدور فيه الكتاب السابق ، ويخدم الغرض المشبوه نفسه في مقاربة الأمور مقاربة طائفية .. رغم الحرص الشديد لمؤلفه على ادعاء الموضوعية!!.
في هذا الكتاب – أو الكتابين – يقوم المؤلّف – أو المؤلفان – بتزويد الرّاديكاليّة الدّينيّة السّياسيّة في سورية ، بكل ما عجز عنه منظّرو ” المعارضات ” السّوريّة الهزيلون .. فهما يعملان على مدار اللحظة المطلق على تعميق مفهوم ” الطّائفيّة ” السّوريّة ، في اتّهام ” العلويين ” بأنّهم ” الفئة الحاكمة ” عملاً بعصبيّتهم ” الخلدونيّة ” للحفاظ على ” المستقبل ” ، و ذلك ” خوفاً ” ( لخوف العلويين !! ) من الحاضر الذي يغزوه الماضي.
20▪ و يقوم مؤلّف الكتاب الأول – الذي يدور حديثنا في هذا البحث حوله – بمسخ منهج ( ابن خلدون ) حول دولة ” العصبيّة ” و كيفيّات زوالها في صعودها و مرورها و انحدارها في ” أدوار “..
مع أن منهج ( ابن خلدون ) صار معروفاً لكلّ مثقّف أو باحث في ” علم الاجتماع “.
و إذا كان ( ابن خلدون ) في زمنه ( القرن الرابع عشر الميلادي ) يصف ” واقع ” بعض الدّول أو الدّويلات العربيّة الإسلاميّة من مشاهداته في المغرب العربيّ و مشرقه حيث نشأ و انتقل و عاش و عاصر ” البدوَ ” و ” الحضَر ” و ” عصبيّات ” نشوء و تكوّن الدّول ؛ فإنّه لم يتحدّث على ” عصبيّة ” الدّولة ” الطّائفيّة “..
( ابن خلدون ) يتكلم على ” المعاش البشري ” بشكله الاجتماعيّ العام و على ” البدو ” و ” الحضر ” و ” العمران ” و ” الإجتماع “..
[ انظر ” مقدّمة ابن خلدون ” ؛ و بخاصّة الفصل الثاني و الثالث من الكتاب الأوّل ]..
21▪ و لا يتهافت الكتاب والكاتب المذكور إلى التّنظير ” المباشر ” (!) بالطائفيّة ، أو بما يُساعد أيّ منهج وصفيّ – تاريخيّ هزيل ، اعتماده على ” الخوف الطّائفيّ ” في شرح تاريخ السّياسة و العالم!
على العكس يقوم الكاتب المذكور بإضافةٍ عسفيّة للمنهج الخلدونيّ إلى دراسته ، ليصلَ إلى أنّ ” العلويين ” قد حكموا سورية منذ ( 1970 ) بالعصبيّة الدّينيّة للطّائفة الخائفة ، بعد أن استمرّوا في جميع تاريخهم ( منذ منتصف القرن التاسع الميلاديّ ، على ذمّة المؤلّف الذي تعوزهُ الذّمّة على أيّ حال! ) نتيجة عصبيّتهم ” الخائفة “.. !!؟
22▪ هذا ليس رأياً واحداً للمؤلّف ، و إنّما هو نموذج من التّزوير الثقافيّ التّاريخيّ المقصود ، و هو ” سائد ” بين فصائل المعارضة السورية الرّثّة و بين جميع من يتبعون هؤلاء بسياسة و ثقافة الجهل و التّجهيل ..
الذي يُهمَلُ عن قصدٍ و عمدٍ و استهتار بالعقول ، في هذا ” الكتاب ” ، واقع أنّ سياسة سورية المستقرّة و المتنامية في معضلة المواجهة و المُكافَأَة ( التّكافؤ ) مع المستحقّات الاجتماعيّة و التنمويّة و الاقتصادية و العسكرية و السياسيّة و الثّقافيّة و التّعليميّة و الأكاديميّة ، لم تكن قابلة للإنجاز في إطار حكم سياسيّ ” فئويّ ” مهما كانت طبيعته أو مهما كان نوعه ، لو لم يكن قائماً على أسس وطنيّة شاملة و جامعة ، و ليس على أساس ممارسات انغلاقيّة طائفيّة أو دينيّة أو ما شابه.
23▪ يتعلّل الجهلة ، عادة ، بواقع اتجاه ” العلويين ” نحو الانتماء إلى القوّات المسلّحة السّوريّة ، مبكّراً ، الأمر الذي جعل منهم ” ظاهرة ” و طنيّة واضحة في القوات المسلحة.
و لكن الذي يتجاهله هؤلاء الجَهلة ( نعم ! جهلة و يتجاهلون ! ) ، هو ذلك الواقع و تلك الظّروف التي دفعت بهؤلاء الفقراء و المعدمين إلى الانتماء إلى صفوف القوات المسلّحة ، و ذلك قبل أن يُصبح انتماء ” العلويين ” إلى القوات المسلحة تقليداً وطنيّاً تدخل في عداده أيضا ” أقلّيّات ” دينيّة أخرى معروفة في مجتمعنا السّوريّ.
و هذا ليس رأياً واحداً نقول به الآن ، و إنّما هو رأي قديم بتقليد علميّ سياسيّ و أكاديميّ و اجتماعيّ ، سلكه الكثيرون من البحّاثة و الدّارسين و المؤرّخين المختصّين بدراسة تحولات المجتمع السوري منذ السّتينيات من القرن الماضي و حتّى اليوم.
و من الخطأ ، بالتّالي ، أن نستشهد هنا بشواهد على هذه الحقيقة ، كما أنّه ، أيضاً ، من الخطأ تجاوز الأمر على أنّه بديهيّة اجتماعيّة و سياسيّة ( و هو فعلاً كذلك ) ، و بخاصّة بالنّسبة إلى غير المُطّلعين و الدّارسين.
24▪ على كل حال و كما أنّ ثمّة صنفاً من الرّأي الطّائفيّ العُصابيّ المُضلّل و الموتور ، كما رأينا أعلاه ، فإنّ بالمقابل ثمّة طيفاً واسعا من الثّقافة المقابلة و النّقيضة ، يتبنّاه بحّاثة و مفكرون و ساسة موضوعيّون.
و من قبيل المثال المعاصر ، ففي كتابه الأكاديميّ التّاريخيّ الموسوعيّ..
[ ” سورية في التاريخ – منذ أقدم العصور حتّى 2016م – المكتبة الشّرقيّة – سنّ الفيل- لبنان- بيروت- الطبعة الأولى- 2017م ” ] ..
يتوسّع الباحث و الدّارس للتاريخ ( د . كمال ديب ) [ أستاذ جامعي كَنَدِيّ لبناني ، دكتور في الاقتصاد ] في التأريخ الواقعيّ لسورية متناولاً جميع الجزئيّات الديموغرافية و الاجتماعية السورية بالتّوثيق الدّقيق؛ يقول:
” لم تختلف تركيبة سورية الاحتماعيّة و السياسيّة عن تلك التي نمَت في لبنان في القرن العشرين ، من حيث تعدّد الطوائف الدّينيّة و الفوارق المناطقيّة و طغيان العائليّة و القبليّة ، إضافة إلى تنوّع الأحزاب السياسية ، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.
و لكنّ سورية افترقت عن لبنان سياسيّاً منذ عام 1949م (…) و اقتصادياً (… )؛ و لذلك أدّى الجيش في سورية دوراً ثابتاً منذ تلك الفترة و حتّى اليوم ، في ضبط الإيقاع الدّاخليّ في سورية ، في حين كانت الأزمات تتوالى في لبنان ، فما إن ينجح اللبنانيّون في إطفاء أزمة حتّى تنفجر أخرى” (ص.ص 388- 389).
ويؤكّد الكاتب ، ممّا يؤكّده ، أنّ ” الجيش السوري ” قد قام بقمع ” البورجوازية المدينية المتحالفة مع الإقطاع الرّيفيّ و كبار ملّاكي الأراضي.. ” (ص 389).
و يقول : لقد ” حافظ البعث على الحكم بعد انقلابه عام 1963، لأنّه استطاع قمع انتفاضات ذات منحى طائفيّ أو دينيّ في 1963 و 1964 و 1965 و 1967 ” : (ص 392).
25▪ و يقول ( د . كمال ديب) : ” إنّ وصف تحول سورية منذ السّتينات بأنّه كان نحو التّطييف (…. ) يعترف بأنّ الطائفية من طبيعة هذه المجتمعات و لا تُفرضُ فرضاً ، و لكنّه لا يذهب بعيداً لفهم الواقع ” (ص 393).
” و إذا كان أحد امتحانات الديموقراطية هو الإجابة على السؤال ، كيف تتعامل الدولة مع الأقليّات ؟ فإنّ صعود الأقلّيّات في الأحوال العادية في أي بلد هو ظاهرة صحيّة للدّيموقراطيّة ، تؤدّي مع الوقت إلى زوال الطّائفيّة. و إنّ وصول شخص غير سنّيّ هو حافظ الأسد إلى منصب رئيس الجمهوريّة عام 1971 ، و هو أمر لم يجرؤ عليه صلاح جديد من قبل ، كان يجب أن يُنظر إليه كتطور في الاتجاه االصّحيح في ظل مؤسسات ديموقراطية و دستورية ، و بأن سورية لم تكن دولة إسلامية متشدّدة بل مجتمع يتسامح مع أقلّيّاته ، كانتخاب رئيس أسود في أميركا ” : (ص 394).
26▪ و عندما يتناول ( د . كمال ديب ) الظروف التي سبقت قيام ” الحركة التّصحيحيّة ” عام 1970 و دور ” اللجنة العسكرية ” البعثية السّريّة [ خليّة سرّيّة أسّسسهاعام 1960 ، في مصر أثناء سنوات الوحدة، عدد من الضّباط السوريين المنقولين إلى مصر ، و هم خمسة ضباط شبّانة، ثلاثة علويّون هم محمد عمران و صلاح جديد و حافظ الأسد ، و إثنان من الإسماعيليين هما عبد الكريم الجندي و أحمد المير ، فيما انضمّ إليهم فيما بعد ضابط درزيّ هو حمد عبيد ] في صفوف القوات المسلّحة ، و التي كان لها دور كبير في التّطورات السّياسيّة في سورية بعد ” الإنفصال ” ، و دورها في ” النّشاط التثقيفيّ ” في ” الجيش “، يقول :
” استدعت اللجنة العسكرية ضباط احتياط بعثيين أو تربطهم باللجنة العسكريّة و ضباطها الموثوقين علاقات قربى ، أو ينتمون إلى طوائف الأقليّات (…) لا لشيء سوى لأنّ التّطوّر التاريخيّ لعضوية حزب البعث جاء من هذه الطوائف ، كما أنّ التّطور التاريخيّ للجيش السوريّ منذ الانتداب الفرنسيّ تركّز في تجنيد أبناء الأرياف حيث تُقيم مذاهب الأقلّيّات” (ص 324).
تُفسّر ” الإقتباسات ” أعلاه حقيقة تاريخيّة صادرة عن جهة ” محايدة ” في التّموضع السّياسيّ ، تعمل على ، و تنطلق من ، و تهدف إلى ، توثيقٍ أكاديميّ عالٍ و عالميّ ، لتاريخ سورية الشّامل ، القديم و الحديث و المعاصر.
27▪ كان الصّمت الوطنيّ الذي تبنّته قوى بعثيّة و وطنيّة مسؤولة تاريخيّاً ، عن الخوض في التّاريخ الجزئيّ للطوائف في سورية ، مبدأً سياسيّاً متطوّراً انتهجه ” البعث ” ، و معه شرفاء هذا الوطن ، منذ بداياته التّأسيسيّة حتّى حين.. و زاد في تكريس هذا ” المبدأ ” السّياسيّ ما يُحيط بسورية من ظرف إقليميّ و تحدٍّ صهيونيّ عالميّ مباشر للقضاء على عروبة المنطقة ، في مشروع سياسيّ معروف و مفضوح.
و عندما يصبح اليوم من الضّروريّ بحث التاريخ المعاصر لسورية بحثاً تشريحيّاً موضوعيّاً و صريحاً ، فذلك لأنّ خطاب ” التّحريض ” الإجتماعي و السّياسيّ الطّائفيّ في سورية ، و الذي تبنّته قوة العطالة التاريخية و الرّجعيّة العربيّة و المعارضات الثّقافيّة الطّفوليّة – الولّاديّة – الصّبيانيّة ، و معها قوى الغرب الصّهيونيّة ؛ قد جاوز كلّ حدود ” الأدب السّياسيّ ” ( ثمّة آداب للسّياسة عند السّاسة ، أيضاً! ) التي تواضع عليها ” الفكر السّياسيّ ” الحديث ، منذ عصر الأنوار و ” الثورة الفرنسيّة و” و حتّى اليوم.
28▪ و تندرج هذه الضّرورة المعرفيّة التّاريخيّة ، التي نتوجه إليها الآن ، في مجمل الضّرورات الموضوعيّة التي يحتاجها الصّراع العالميّ اليوم ما بين قوى العنف العالميّة ، و قوة المعرفة في الخطاب السّياسيّ المواجه.
إنّ تفنيد تخرّصات أولئكَ العصابيّين السّياسيّين ، و معهم مراكز الأبحاث العالمية الملغومة ، هو أمر غدا في هذه اللحظة التاريخيّة ، واجباً سياسيّاً وطنيّاً يحتاجه العامّة و الخاصّة من السياسيين و المثقفين ، كما يحتاجه ” القرار “.
يبني البعضُ على أوهام و أكاذيب و وقاحات و لؤم تاريخيّ صريح .. و تنشدّ إلى ذلك فئات اجتماعيّة متباينة التّحصيل العلمي و الأكاديميّ من الأميين السّياسيين و حتّى القادة السّياسيين المتوّجين في أروقة العمالة و الخيانة و العدوان.
29▪ و أمام هذه الحقيقة ، في الحرب و السّلم ، بات من الواجب علينا ، هنا ، الدّخول إلى منطقة ” غير المَقُول ” سياسيّاً.. منطقة ” الخطاب ” التي حَرَّمْنَاهَا على ” ثقافتنا ” القوميّة العربيّة في سورية تحريماً بدوافع أخلاقيّة و سياسيّة وطنيّة ، أو كانت بسبب ذلك من ” المحرّمات “.
30▪ و ليس من باب ” رفع السّريّة ” عن مضامين الخطاب الطّائفيّ ” المختَلَطَة ” ، أن نُساهم بما قلناه ، فحسب ، و إنّما أيضاً من باب المسؤوليّة التّاريخيّة التي تقضي بواجبات التّحسّبِ للتّقصير الثقافيّ – السّياسيّ الحاليّ و المستقبليّ ، أمام قوى سياسيّة.. عدوّة تاريخيّاً لا يردعها رادعٌ من وطنيّة أو صدق أو أخلاق أو حياء .