انقــــــلابيـــــــة البعـــــــــــث
بقلم : صلاح المختار
(إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) – قرأن كريم
من بين اول ما قرأت قبل عام 1958 وهو عام انتمائي للبعث مقالتان تلخصان اهم مبادئ البعث كتبهما القائد المؤسس الرفيق احمد ميشيل عفلق رحمه الله احداهما عنوانها ( انقلابيتنا ) والثانية ( في ذكرى الرسول العربي ) ،ولكن مقالة ( انقلابيتنا ) تركت في نفسي الاثر الاعمق ،لان عائلتي ربتني على مبادئ واضحة منذ الصغر وابرزها ان اكون صادقا امينا مخلصا وشجاعا ومحبا للناس …الخ من قيم العائلة العراقية وهي مماثلة لقيم الانقلابية البعثية .عندما قرات انقلابيتنا وجدت انها تعبر عما في نفسي فقد كنت اتطلع لعالم خال من الانانية ولا تنكر فيه حقوق الناس واستحقاقاتهم ،يخلو من الكذب وتختفي منه الوجوه التي تصافحك بيد وتخفي الخنجر خلف ظهرها لطعنك ما ان تتاح لها الفرصة.
ماذا تعني الانقلابية البعثية ؟
1-في تلك المقالة وغيرها يوضح الرفيق عفلق فكرة جوهرية تتحكم بمنظومة البعث الفكرية وهي ان المناضل البعثي كي يقضي على الواقع الفاسد والمتخلف عليه اولا ان يقضي على عيوبه وممارساته الخاطئة وكل سلوك وطريقة تفكير تتعارض مع الهدف النبيل وهو بناء مجتمع خال من الظلم والاستغلال والتمييز بين البشر ويضمن لهم حياة حرة كريمة . اذ كيف يمكن للبعثي ان يكسب احترام وثقة الناس به كي يقودهم نحو تحقيق اهداف الامة اذا لم يكن مستقيما ومتوازنا وصادقا وامينا ويرفض كافة اشكال الظلم ؟ فالانقلابية في جوهرها هي اعادة بناء الانسان وتطهيره من اخطاء وخطايا وانحرافات المجتمع وكلما زاد طهره الاخلاقي تعززت طليعيته وتعمقت ثقة الناس به وهو ما يقرب الحزب من النصر .
وهذه النظرة الواقعية كانت تستهدي بقائد البعث الاول النبي محمد ( ص ) والذي بدأ بنفسه فسمي بالامين والصادق وكسب حب الناس قبل دعوته للاسلام وابتدأ دعوته بكسب الطليعة الضرورية لنشر الدعوة الاسلامية وهم الذين نسميهم الصحابة الان ، فكان الصحابة هم حزب البعث الاول ، وكان البعث يترجم على انه بعث الروح والقيم الانسانية والاخلاقية والايمانية وهذا هو جوهر عقيدة البعث الثاني .
2-وفي بيئة هذه التربية العائلية اولا والحزبية ثانيا نشأت اجيال البعث الاول والثاني والثالث في العراق متشربة بتربية حزبية صارمة وعمق اخلاقي ثابت وروح ايمانية راسخة بالله ، وهذه التربية كانت تعزز الخجل الذي تربينا عليه وهو خجل كان يعبر عن طهرنا وهو صفة ثورية كانت تمنعنا من التدخين او الضحك اثناء الاجتماع وامام الاكبر منا سنا ،ونقف خاشعين عندما نردد شعار الحزب في اول كل اجتماع حزبي .
3-فالانقلابية باختصار هي عملية اعادة بناء الانسان من قبل الحزب على اسس اخلاقية تزيح العادات السلبية وتنظف سلوك الانسان من الانانية والكذب والازدواجية – النفاق- وتجعله مستحقا للاحترام من العدو قبل الصديق وهذا هو الشرط المسبق كي يقود وينتصر وهو محاط بالناس .
4- قبل عام 1963 ولكي يحرق النصير مراحل الوصول الى العضوية الصعبة المنال في العراق كان البعض المقتدر ماليا يسافر الى بيروت للدراسة وينقل حزبيا الى تنظيمات لبنان فينال العضوية خلال فترة قصيرة جدا ويترك الدراسة ويعود للعراق عضوا بينما رفاقه في نفس حلقته يبقون انصارا وربما يصبح هو مسؤولهم .وهذه الحقيقة تمثل احد اهم الفوارق في التربية الحزبية بين البعثي العراقي قبل ثورة 1968 والبعثي خارج العراق ، ودلالة ذلك هي ان الانقلابية في البعثي العراقي اعمق وارسخ واكثر تأثيرا خصوصا ردع ممارسة اساليب ما قبل الانقلابية .
5- اثناء الازمة التي وقعت داخل الحزب في عام 1963 اثناء المؤتمر القومي السادس وظهور بدايات انشقاق مجموعة المرحوم علي صالح السعدي امين سر القطر العراقي وعضو القيادة القومية ،وجهت اتهامات خطيرة للحزب ،منها وجود تيارين في الحزب يميني ويساري،فكان الرد الحكيم من القائد عفلق مقولته الشهيرة : ( انها ازمة اخلاق وليست ازمة يمين ويسار ) . ورد المرحوم عفلق يجسد الفرق بين الانقلابية التي عبر عنها الرفيق عفلق والنزعات الذاتية التي تتخفى بشعارات غير صحيحة كوجود يمين ويسار في الحزب استخدمت للانفراد بالسيطرة على الحزب بعد الدفعة المعنوية القوية التي نشأت لدى قادة عراقيين نتيجة نجاحهم التاريخي في اسقاط الديكتاتورية.واثبت الزمن انها كانت فعلا ازمة اخلاق وليس ازمة يمين ويسار .
في تلك الازمة ظهرت الاثار الكامنة للتربية الاجتماعية السلبية والتي اخفيت طوال نضال الذين قاموا بالانشقاق لانهم انقلبوا على ذواتهم عند الانتماء للحزب ولكن الانقلاب على تربية اجتماعية راسخة يحتاج لاجيال كي تزول وتحل محلها الطبيعة الثانية الجديدة وهي التربية الانقلابية ،ولهذا عندما شعر من اراد الانفراد بقيادة الحزب بان عليه العثور على وسيلة تغطي هدفه الاناني لفق فكرة اليمين واليسار ، وهذا هو حال كل من يفكر او يعد للانشقاق!
وما حصل اكد على ان الانقلابية كي تغير الانسان تحتاج لشرطين: الشرط الاول هو مرور اجيال تتربى على الانقلاب الذاتي وتتشرب بقيمه ، والشرط الثاني منع الردة لحالة ما قبل الانقلابية بالطريقة الوحيدة التي تضمن ذلك وهي القيادة الجماعية وحرية الرأي داخل المؤسسة الحزبية والتي تقوم على الاعتراف الكامل بان اي قائد ومهما كان متمكنا ومقتدرا ناقص القدرات لانه انسان ومعرض للخطأ وتحكّم الذات الانانية فيه لهذا فوجود قيادة جماعية تتمتع بصلاحيات فعالة هو ضمانة منع الردة .
وهنا نرى دقة وصف القائد المؤسس لما حصل فالذي حصل هو انفلات من اخلاقية الانقلابية البعثية التي تقوم على الصدق والغيرية بتوكأ من انشق على الكذب وتلفيق التهم الباطلة لرفاقه خصوصا للرفيق القائد المؤسس، ولو كان من انشق متمسكا باخلاقيات البعث الانقلابية لما تجرأ على توجيه اتهامات باطلة.
هل بقيت الانقلابية كما كانت ؟ ذكرت الاجيال البعثية الثلاثة الاولى من البعثيين في العراق كي اتطرق للاجيال الحزبية التي انتمت للحزب بعد استلام الحكم في العراق في عام 1968 فقد حدث تغير سلبي كبير ترك بصماته على مسيرة الحزب وممارساته ، فاستلام السلطة خصوصا بعد تأميم النفط استفز ليس اعداء العراق والامة العربية فقط بل استفز ايضا قوى واحزاب وشخصيات ونظم عراقية وعربية بعضها مخلص ودفعها للعمل الجدي ضد نظام البعث وتلاقت هذه الخطط مع خطط قوى الاستعمار وجيران العراق الطامعين فيه والمعادية له وللامة العربية . من هذه الحقيقة نرى السبب الذي جعل قيادة الحزب ترتكب واحدا من اكبر الاخطاء التنظيمية والعقائدية وهو عدم التشدد في قبول الحزبيين وفقا لمبدأ كان ثابتا وصارما وتحكم في انخراط الاجيال البعثية الثلاثة الاولى قبل استلام الحكم وهو مبدأ ( النوعية وليس الكمية ) واستبدل عمليا بمبدأ اخر سلبي هو ( الكمية باكبر قدر ممكن ) !
فانخرط في صفوف الحزب اكثر من خمسة ملايين حزبي – ولا اقول بعثي- وهي حالة اضعفت في الحزب احدى اهم سماته الاساسية وهي تطبيق الانقلابية فكثير من المنتمين لم يربى بصورة صحيحة حزبيا وبقيت كافة امراض المجتمع متحكمة فيه وجلبها الى داخل الحزب فظهرت عناصر تكذب على قيادة الحزب خصوصا عند التعبئة الوطنية ،وتكذب اثناء الانتخابات وتلفق الاكاذيب لاسقاط المنافس لها وتمارس العلاقات المدانة مثل العشائرية والطائفية والمناطقية لاجل تسلق المواقع في الحزب والدولة .
ضعفت طليعية البعث بنظر بعض الناس رغم تعاظم امكانياته العددية ، فالناس اخذوا يرون فيه الطليعي الحقيقي المنقلب على الذات الامارة بالسوء والى جانبه الطليعي المزيف الممارس لكافة اشكال الانانية وابرزها الكذب السلوكي المتجسد في النفاق والتملق والازدواجية واستغلال الموقع الحزبي ،فتغيرت نظرة بعض الناس للحزب . لم حصل ذلك ؟ اولا وقبل كل شييء كان التأمر واسعا جدا وتشارك فيه قوى وانظمة واحزاب لايربطها قاسم مشترك سوى معادة البعث فوجد البعث انه يحتاج للعدد في مواجهة هذا التأمر غير المسبوق على اي نظام في العراق،ولكن وبدلا من اختيار الاسلوب السليم وهو تعبئة الناس في منظمات شعبية كالنقابات العمالية والفلاحية والطلابية وتنظيم الناس بها وعدم تحويل الحزب الى بيت لهذه الملايين غير المتربية على الانقلابية فتحت ابواب الحزب للملايين التي اغرقته في انهر من الممارسات السلبية التي الحقت به اضرارا واضحة .
والان ونحن محاطون باعداء اكثر وبتحديات اوسع ونخوض نضالا سريا معقدا جدا وبنفس الوقت نرى الملايين تعود لدعمنا في العراق وترى فينا المنقذ لها بعد سقوط وفشل الخيارات الاخرى منذ الغزو وحتى الان نستعيد بفخر معاني ( انقلابيتنا ) ونرى فيها الشرط المسبق لانتصار البعث وتوفر القدرة لديه لانقاذ العراق والامة من الكوارث ،فما لم نتمسك بمضامين الانقلابية وابرزها الصدق مع الذات ومع الاخرين فلن نتمكن من كسب المعارك القادمة حتى لو حققنا بعض التقدم الاولي فالناس تراقبنا كما تراقب غيرنا وهي لا تمنح ثقتها بلا شروط بل هي مشروطة ولهذا علينا الان ان نعزز مضامين الانقلابية في انفسنا اولا ثم في تنظيماتنا وابرزها الصدق والوفاء بالوعد وبالامان .
الرحمة للقائد المؤسس احمد ميشيل عفلق ،وتحية للرفيق القائد عزة ابراهيم وهو يخوض معركة العودة للاصالة البعثية وفي مقدمتها التمسك بالانقلابية، وتحية للبعثيين من الاجيال السابقة لنا والتي تربت على ( انقلابيتنا ) وعلمتنا معاني الاخلاق والقيم العليا وفي مقدمتها الصدق والوفاء للحزب ولرفاق البعث .