بن بيللا وأحمد سعيد .. هكذا ولدت الثورة الجزائرية
بقلم : عبدالله السناوي / القاهرة
دخل شاب وسيم ومجهول لا يعرف أحدا ولا يعرفه أحد إذاعة «صوت العرب» فى مقرها القديم.
طلب مقابلة مديرها «أحمد سعيد» متأثرا بدعمها المفتوح لثورة الشعب المغربى ضد الاحتلال الفرنسى، إثر عزل الملك «محمد الخامس».
قال إن اسمه «مسعود مزيانى»، وقد جاء إلى القاهرة باسم مجموعة من الشبان الجزائريين لكسر حاجز الصمت عن قضية استقلال الجزائر.
بدا متحفظا فى ردوده عن إمكانية اندلاع ثورة فى الجزائر مثل ثورة المغرب، ومنضبطا فى حركاته وإيماءاته وقيامه وجلوسه كصاحب خبرة عسكرية، كما استنتج مدير «صوت العرب» فى اللقاء الأول.
لم يكن مع «مزيانى» أى ملابس غير ما يرتديه، فهو قادم مباشرة من الإسكندرية التى وصلها عن طريق البحر خفضا للنفقات، وما معه من مال ــ ألفا فرنك ــ يكاد يكفى إقامته فى بنسيون متواضع قرب الإذاعة واحتياجات الطعام والحركة فى أضيق الحدود.
كان ذلك يوم الأحد (٢٥) أكتوبر (١٩٥٣)..
شاءت أقدار الشاب القادم من خلف البحار أن يحيا دائما فى قلب الخطر، كان هذا اختياره، واختيار جيل جديد من القادة الجزائريين، لم تقنعهم سياسات الأحزاب التقليدية، قرروا أن يخرجوا من اللعبة بأسرها، التى تكاد تضيع هوية الجزائر العربية والأمل فى استقلالها، انشقوا عن «حزب الشعب» الذى يتزعمه «مصالى الحاج» بحثا عن طريق جديد بعد أن تاهت الخطى.
عندما وصل القاهرة لأول مرة كانت مهمته توفير السلاح والمال رهانا على ثورة «يوليو» لبناء جيش التحرير الجزائرى.
تحدث عن السلاح المتوافر وأغلبه بنادق صيد إيطالية، ومستويات التدريب الأولية وطلبات محددة يطلبها المجاهدون لإطلاق حرب التحرير.
فى البداية استدعت شخصيته الغامضة سؤالا لم يكن منه مفر: «ماذا وراء ذلك الشاب من أسرار؟».
فى مقهى بشارع جانبى متفرع من الموسكى جلس إلى شاب جزائرى آخر يدرس بجامعة الأزهر اسمه «بوخروبة محمد» لدقائق معدودة، قبل أن ينصرف كل منهما فى طريق.
كانا أهم شخصيتين فى التاريخ الجزائرى الحديث وقد تعاقبا على رئاسة بلديهما.
أولهما اسمه حركى وعرفه العالم بعد ذلك باسمه الحقيقى: «أحمد بن بيللا».
وثانيهما اسمه حقيقى وعرفه العالم بعد ذلك باسمه الحركى: «هوارى بو مدين».
فى ذلك الوقت المبكر من ثورة «يوليو» كان التفكير الاستراتيجى المصرى يعمل على فتح الجبهة الجزائرية فى موقع القلب من الشمال الإفريقى، لتوجيه ضربة قاضية للاستعمار الفرنسى الذى سيجد قواته مطالبة بمواجهة واسعة على ساحة الشمال الإفريقى كله، يرغمه أن يخفف ثقل قواته على الجناحين الآخرين تونس ومراكش.
… هكذا بدأت «صوت العرب» أعظم معاركها.
تحول «صندوق أحمد سعيد» إلى أيقونة الثورة وصوته واصل إلى كل بيوت الصفيح وفوق جبال «الأوراس».
كان يوم الجمعة الثانى من يوليو فى نفس العام (١٩٥٤) أول إطلالة للزعيم الجزائرى «أحمد بن بيللا» على أثير «صوت العرب».
«أخ جزائرى فى حديث من العقل والقلب إلى الضمير والوجدان».
لم يكن أحد يعرف اسم قائد الثورة التى توشك أن تعلن حتى نطق اسمه.
«دم الثوار تعرفه فرنسا.. ونعرف أنه نور وحق
فصحت نحن مختلفون دارا.. ولكن كلنا فى الهم شرق».
كانت تلك مقدمة غنائية بصوت «محمد عبدالوهاب» وكلمات أمير الشعراء «أحمد شوقى» لخطاب «أحمد بن بيللا» الأول.
جرت كتابة ذلك الخطاب بالفرنسية وشارك فى ترجمته إلى العربية أربعة رجال: «محمد خيضر» و«حسين آية أحمد» من قيادات الثورة الجزائرية و«فتحى الديب» و«أحمد سعيد» من مصر.
وقد أعيدت كتابته مرة أخرى بحروف لاتينية كبيرة حتى يتمكن «بن بيللا» من قراءته للجمهور العربى.
«OHADISACOMــMENــSAWTــALARABــMENــALKAHIRAــMADINATOــALAZHARــALSHARIF«
«أحدثكم من صوت العرب من القاهرة مدينة الأزهر الشريف».. وهكذا
كانت نهاية الخطاب عميقة ومؤثرة وقد حرص على تكرارها باللغة الفرنسية: «كان الفرنسيون يقولون فى أعماقهم دون صوت أيام بطش الاحتلال النازى فرنسا للفرنسيين.. فليردد كل الجزائريين ولو بصوت أخرس صباح مساء كلما رأوا فرنسيا جنديا أو مستوطنا الجزائر للجزائريين».
لم يكن الأمر سهلا على «بن بيللا»، وكان قاسيا على مشاعره، «تصبب عرقا وخجلا من أنه لا يستطيع أن يتحدث بلغة بلاده وقرآن دينه».
لأكثر من مرة قطع التسجيل لاعنا «الفرنسة» التى فرضتها سلطات الاحتلال.
وقد أتقن العربية بصورة كاملة أثناء سنوات سجنه فى باريس بعد اختطاف طائرة تقله مع أربعة قيادات تاريخية أخرى.
فى يوليو (١٩٦٢) ألقى خطابا ثانيا عبر «صوت العرب» من الجزائر المستقلة بلغة عربية متمكنة.
فى حوارات القاهرة أبلغ «بن بيللا» السلطات المصرية أن الرصاصة الأولى سوف تطلق فى الساعة الواحدة من صباح السبت (٣٠) أكتوبر (١٩٥٤).
أعدت مواد إعلامية ووثائقية وتعبوية وأنتجت أناشيد ومسلسلات ترفع مستوى الوعى العام بحقائق التاريخ وهوية الجزائر وحقها فى طلب الاستقلال.
بدأ البث الإذاعى بتمهيد دون إيضاح يذكر ببطولات التاريخ الجزائرى.
كان من ضمن الاستعداد الاتفاق على نظام شفرى تتضمنه كلمات «أحمد سعيد» موجهة إلى الداخل الجزائرى عن القتال تتبعه إشارات تتغير بنظام «مورس».
يجىء صباح الأحد ويحل نصف النهار دون أن تكون هناك أى أخبار من الجزائر.
جرت اتصالات ومحادثات وتساؤلات: ما الذى حدث؟
«نحن مجبرون» كانت تلك أول إشارة تصل من «بن بيللا» مكتوبة بالفرنسية.
لأسباب ميدانية تأجلت العمليات المسلحة، التى شملت أنحاء واسعة من الجزائر إلى الأول من نوفمبر.
فى معركة استقلال الجزائر تأكد الدور المصرى فى عالمه العربى بلا مَن أو ادعاء.
القاهرة تابعت أدوارها من الرصاصة الأولى فى نوفمبر (١٩٥٤) حتى استقلت الجزائر فى يوليو (١٩٦٢) حاضرة فى قلب الخطط السياسية والعسكرية وفى شحنات السلاح التى هربت إلى جبال الجزائر عبر البحار أو الحدود الليبية. «هوارى بو مدين» نفسه جرى تهريبه إلى داخل الجزائر على متن يخت مصرى عليه شحنات سلاح.
«صوت العرب من القاهرة
أيها الإخوة فى كل مكان
نزف إليكم بدء ثورة تحرير واستقلال الجزائر
إليكم بيان جبهة التحرير الوطنى.. اللجنة الثورية للوحدة والعمل
وتم توزيعه اليوم فى جميع أنحاء التراب الجزائرى».
كانت تلك أعظم دقائق إرسال «صوت العرب» وأكثرها شهرة وتميزا وخلودا تاريخيا، كما سجل «أحمد سعيد» فى مذكراته غير المنشورة.