وداعا أحمد سعيد ..مؤسس “صوت العرب” الذي أقلق بصوته الاستعمار والرجعية العربية

حين انطلقت إذاعة صوت العرب يوم 4 يوليو/تموز 1953 ،بعد نحو عام من ثورة 23 يوليو/تموز، كان هدف المخابرات المصرية التي كلفت ضابطها فتحي الديب بتأسيسها أن تكون أداة الثورة الإعلامية ، ومنبرا لحركات التحرر العربية بمساعدة مصر ،وذلك في وقت كانت الإذاعة هي الوسيلة الإعلامية الأكثر انتشارا وتأثيرا علي مستوي العالم.

كان ضمان نجاح صوت العرب في تحقيق هدفها يأتي من القيادة الإعلامية التي ستتصدي لهذه المهمة ،وحين تم إسناد هذه المهمة في البداية إلي الشاعر صالح جودت لم ينجح فيها ، ففيما كانت تأديتها تتطلب حماسا وتحريضا وتعبئة للجماهير العربية،كانت طبيعة صوت “جودت ” الإذاعية هادئة مما يستدعي التثاؤب والنوم ،وبعد شهور قليلة آلت المهمة إلي أحمد سعيد الذي رحل عن دنيانا مؤخراً عن عمر يناهر ال93 عاما ““.

كان أحمد سعيد على مقاس المهمة المطلوبة بكل كفاءة ونبل ، وانطلق ليصبح أشهر مذيع في المنطقة العربية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي،والأكثر تأثيرا في المستمع العربي من المحيط إلي الخليج ،وبلغ حد التأثير درجة أن مستمعين في دول عربية كانوا يسألون قبل شراء  راديو ” الترانزستور ” عما إذا كانت يذيع “أحمد سعيد ” أم لا ، ويؤكد  محمود رياض وزير خارجية مصر في الستينيات وأمين عام جامعة الدول العربية في السبعينيات ،في مذكراته ، أنه بالفعل وجد تلك الحالة في اليمن حين زارها مع وفد يمثل ثورة يوليو برئاسة صلاح سالم عام 1954 ،وينقل أحد تلاميذ الراحل الكبير وهو الكاتب والإعلامي وكبير مترجمي الأمم المتحدة محمد الخولي ،عن الصحفي الإنجليزي “ويلتون وين ” في دراسته عن دور الإذاعة المصرية وصوت العرب بالذات خلال سنوات الخمسينيات والستينيات :”كان العربي البدوي يقصد المتجر المتواضع في المدينة الصغيرة ثم يخاطب التاجر قائلا في عفوية مشهودة :” أخي :أبغي صندوق أحمد سعيد ” ، وترجمتها بالطبع “من فضلك أريد شراء جهاز راديو أسمع من خلاله صوت العرب من القاهرة “.

هكذا ارتبط أحمد سعيد بوجدان الإنسان العربي في مرحلة كانت البلدان العربية تناضل فيها من أجل حريتها واستقلالها من الاستعمار،ونجح بجدارة عبر الإذاعة أن يكون الصوت القادر علي تعبئة الجماهير كما حدث  في معارك عديدة أبرزها ،طرد الجنرال جلوب الإنجليزي الذي كان قائد للجيش الأردني، ومعركة عودة العاهل المغربي محمد الخامس إلي عرشه بعد خلعه ونفيه إلي مدغشقر بقرار من الاستعمار الفرنسي،ومعركة الثورة الجزائرية وكان من أوائل من عرفوا قائدها أحمد بن بيللا ،ومعركة العدوان الثلاثي علي مصر عام 1956 ، ثم الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958 ،وثورات العراق .

كان “سعيد ” يؤدي دوره بجدارة مهنية تناسب مرحلتها ،وتتوافق مع متطلبات حشد الجماهير العربية نحو مطالب استقلالها وتحررها ،وأدي دوره بضمير وطني رائع ولأن هذا الدور كان وطنيا وقوميا وتحرريا في مقاصده وأهدافه ، وجه المتضررون منه الانتقادات الظالمة إليه ، واختصروا دوره في إذاعته للبلاغات الكاذبة في نكسة 5 يونيو/حزيران 1967 ،بالرغم من أنه كان ناقلا لها وليس مخترعها، وبالرغم من أنه كان الأداة الإعلامية التي ساهمت في رفرفة أعلام الاستقلال علي كل شبر عربي .

رحم الله أحمد سعيد ، الذي اقتربت منه لسنوات منذ عام 2000 ،وعرفته  ،نبيلا، معطاء للخير ، ناكرا للذات،لم يجعل من دوره الوطني مادة للتربح بالرغم من مغريات كثيرة وأعرف بعضها تم تقديمها إليه،وكان لي شرف تحريضه علي كتابة مذكراته الشخصية  ،ولما بدأ في إنجازها منحني شرف قراءتها ومراجعتها ، وتبادل الرأي معه فيها ، وهي تحتوي علي الكثير من الأسرار المهمة عن سنوات النضال الوطني والقومي العربي التي قادته مصر في خمسينيات وستينيات القرن الماضي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى