نظرة عمليّة، من “الماضي” القريب، إلى “مستقبل” (سورية) الجديدة 

بقلم : د . بهجت سليمان

 يُقاس خلود الأفكار و الأشخاص بحجم التّأثير الذي تتركه الأفكار و بقيمة الأثر الذي يتركه الأشخاص بعد رحيلهم عن هذا العالم .

كانت العقود الثّلاثة الأخيرة من القرن العشرين ، الماضي ، في سورية ، عصراً من العصور النّادرة في تاريخ سورية و العرب ، إذشكّلت المسافة الزّمنيّة الفاصلة بين غياب سورية عن خارطة المنطقة و العالم ، و بين حضورها البارز على مستوى الإقليم و بين دول العالم المعاصر ؛ و ذلك ما جسّده فكر (حافظ الأسد) و سياساته و شخصيّته الاستثنائيّة التي صنعت لها خلوداً وطنيّاً و قوميّاً ، بما كان له من فكر سياسيّ و أفق ذاتيّ تجاوز الكثير من “موضوعيّات” الآخرين .

في الماضي القريب كانت سورية تترنّح كدمية تتقاذفها المشاريع و الدّول و تسخّرها كوسيلة هامشيّة من لوازم سياسات الآخرين في المنطقة و الإقليم ، و ألعوبة تتهدّدها المشاريع الأجنبيّة و التّبعيّات و الإلحاقات بالخارج و سياساته الاستعماريّة .

كان (حافظ الأسد) مشروعاً حداثيّاً لسورية ، صنع لها فيه القرار السّياسيّ و الاقتصاديّ السّوريّ المستقل ، بعد إنجازه نقلات شاسعة على صعيد السّياسات الاجتماعيّة و بنية الدّولة و المجتمع .

 كان من الآثار العظيمة لحافظ الأسد أنّه اشتغل ، ببراعة ، في تحديد التّخوم ما بين “الاجتماعيّ” و “السّياسيّ” ، بنجاح كبير ، بحيث عمل على جملة من الإزاحات البنيويّة ما بينهما في واقع مركّب من الثّقافات و الاتّجاهات و القبَليّات و التّيارات و المشاريع و السّلطات الاجتماعيّة ، و الاستراتيجيّات المختلفة .

هكذا مارسَ (حافظ الأسد) سياسة مركّبة مع الواقع الاجتماعيّ الرّكيك و المتحجّر ، فأطلق ، مُحفِّزاً ، قوى ساكنة تاريخيّاً ، هامشيّة و مسحوقة ، فيما عمل ، كابتاً ، على “كفّ” قوى تقليديّة كانت قد شكّلت واجهة المشهد الاجتماعيّ و السّياسيّ على مدى أكثر من نصف قرن من الزّمان .

امتدّ أفقه إلى أقصى حدود المجتمع الجغرافيّة و الدّيموغرافيّة و السّياسيّة ، و اشتغل على الواقع “الثّقافيّ” المريض للمجتمع السّوريّ ، فأطلق مؤسّسات التّربية و التّعليم الإلزاميّة و المجانيّة ، حتّى أنّ عدد المدارس ، بمراحلها المختلفة ، قد تضاعف عشرات المرّات عمّا كان عليه قبل عام (1970م) .

و توسّعت المؤسّسات الأكاديميّة ، فانتشرت “الجامعات” بخدماتها المجانيّة في مراكز المدن الكبرى ، الدّاخليّة و النّائية ، بعد أن كانت توجد جامعتان سوريّتان ، واحدة ، فقط ، في (دمشق) والثانية في ( حلب ) .

و ارتفع معدّل الخرّيجين من الأطباء و المهندسين و الاقتصاديين و الحقوقيين إلى نسب اجتماعيّة غير مسبوقة في (سورية) أو في دول الجوار .

في الإطار الدّاخليّ للمؤسّسات الأكاديميّة ، أَولى (حافظ الأسد) مؤسّسات البحث العلميّ أهمّيّة كبيرة ، و قامت لأوّل مرّة في تاريخ (سورية) المراكز المتخصّصة للبحوث العلميّة للأغراض المدنيّة و العسكريّة ، في آن معاً .

كان المواطن ، قبل (حافظ الأسد) يحلم بالاستشفاء المجانيّ ، و كانت نسبة الأمراض السّارية ، كشلل الأطفال و غيره ، تحصد هناء المواطن السّوريّ ، و تمكّن المواطن السّوريّ من الطّبابة المجانيّة أينما كان في (سورية) من اٌقصاها إلى أدناها ؛ كما انتعشت الحياة المعيشيّة و الخدميّة العامّة للفرد في سورية ، بالتّوازي مع ارتفاع الدّخول القوميّة للمواطنين ؛ و ترافق كلّ ذلك مع نهوض بالاقتصاد الوطنيّ ، و تحقيق نسب عالية من الدّخل القوميّ في إطار تحقيق ربحيّة ماليّة عالية في نظام المدفوعات، استطاع الاقتصاد السّوريّ في ظلّ هذا النّظام من إعدام المديونيّة الماليّة القوميّة ، و تحقيق الاكتفاء الاقتصاديّ الذّاتيّ ، لأوّل مرّة في تاريخ (سورية) .

 في مقاييس وطنيّة تُعتبر هذه الوقائع من أهمّ المؤشّرات الحضاريّة على الدّيموقراطيّة الاجتماعيّة و النّظام الاجتماعيّ ، و ذلك باقترانها بالدّيموقراطيّة السّياسيّة التي من أهمّ معالمها تلك الدّيموقراطيّة الاجتماعيّة في نظم الخدمات و الدّخل و المعيشة و التّعليم و الصّحّة و البحث العلميّ ؛ كلّ هذا و ذاك تحقّق في سورية – حافظ الأسد في غضون العقد الأوّل من عهده السّياسيّ العظيم .

 عمل (حافظ الأسد) على بناء المؤسّسة العسكريّة و تطوير التّدريب العسكريّ بالنّسبة إلى مختلف الرّتب العسكريّة من أفراد هذه المؤسّسة ، بما في ذلك الاستفادة من خبرات الدّول الصّديقة المتقدّمة في هذا المضمار ، و على رأسها “الاتّحاد السّوفييتيّ” ؛ كما عمل على تسليحها بأحدث الأسلحة العصريّة ، و كان من نتائج ذلك “انتصار (تشرين)” عام (1973م) .

 في الجانب الاجتماعيّ توصّل (حافظ الأسد) إلى صيغة اجتماعيّة “علمانيّة” في العلاقة مع “المؤسّسة الدّينيّة” ، مع عدم القطع معها ، حيث أدرك أهمّيّة “الدّين” في مجتمع لا يمكن مطلقاً ولا يجوز التفكير بالتّخلّي فيه عن “الدّين” ، نتيجة تاريخ معقّد و طويل لا يمكن تجاهله بقرار سياسيّ ؛ فلم يكن للمؤسّسة الدّينيّة أيّ دور في القرارات السّياسيّة الاستراتيجيّة ، و بهذا كان ثمّة نوع من “المهادنة” الإجباريّة (الموضوعيّة) مع “الدّين” (الأديان) ، مع عدم تدخّلها في الشّأن السّياسيّ على الإطلاق .

 في مستوى “النّظريّة السّياسيّة” و قيادة الدّولة و المجتمع ، تمّ انتخاب “مجلس الشّعب” فكان (حافظ الأسد) حريصاً على تمثيل هذا المجلس لكافّة شرائح المجتمع و بخاصّة الطّبقات العاملة من عمال و فلاحين و صغار كسبة ، و ضمّ إليه هذا “المجلس” باقي الفعاليّات الاقتصاديّة و الاجتماعيّة و السّياسيّة ، فكان جامعاً للجميع .

طوّر (حافظ الأسد) صيغة قياديّة سياسيّة للتّعبير عن أهمّ السّلطات السّياسيّة في “المجتمع” ، فأنشأ “الجبهة الوطنيّة التّقدّميّة” التي ضمّت إليها أحزاباً وطنيّة و قوميّة و اجتماعيّة بقيادة “حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ” ، و عبّرت عن أوسع تمثيل سياسيّ للأحزاب العلمانيّة و التّقدّميّة و الوطنيّة .

فرض (حافظ الأسد) صيغة موضوعيّة من “عقد اجتماعيّ” فعليّ في الممارسة السّياسيّة ، على الجميع ، بحيث أنّ طرفاً من الأطراف المتشاركين في الحياة الاجتماعيّة السّياسيّة في (سورية) ، لم يكن له أيّ أساس منفرد للعزلة الوطنيّة و الانعزال في المصلحة الاجتماعيّة و السّياسيّة ، فكان وجود و تفاعل “الجميع” مشروطاً بوجود و تفاعل و مشاركة “الجميع” ؛ و هكذا نشأت صيغة عمليّة في المصلحة العامّة ، كانت أن شكّلت الشّكل الممكن و الوحيد لانتعاش جميع المتشاركين في بناء الدّولة و المجتمع .

في ظلّ سياسة (حافظ الأسد) تمّ القضاء السّياسيّ ، بنجاح ، على آثار الفصام “العنصريّ” السّوريّ ، الإقليميّ و الطّائفيّ و المذهبيّ و الطّبقيّ و الفئويّ ، الذي خلّفته قرونٌ من الثّقافة الانفصاليّة و الرّجعيّة ، الاجتماعيّة و السّياسيّة ، في (سورية) ، من عهود “الاحتلال العثمانيّ” و “الاستعمار الفرنسيّ” و “الحكومات السّوريّة المتواليّة منذ “الاستقلال” و حتّى عام (1970م) ، و التي كانت قد عمّقت الشّرخ الاجتماعيّ و الثّقافيّ بين “فئات” الشّعب السّوريّ ، و دكّت أسس “المجتمع” السّوريّ .

هكذا تمّ القضاء على “ثقافة” الأقليّات و الأكثريّات ، في (سورية) ، بما حملته من مشاعر وهميّة على التّفوّق النّوعيّ التّاريخيّ ، الثّقافيّ و الاجتماعيّ ، و ممارسات حدّيّة مريضة و فصامات وطنيّة ، بحيث عاش “المجتمع” السّوريّ ، لأوّل مرّة في تاريخه الطّويل ، انقلاباً على الموروث التّاريخيّ الرّديء الذي يُخفي وراءه أسلحة الإقصاء الاجتماعيّة و التّفوّق الفارغ الخادع و المخادع و المدمّر للحمة المجتمع .

 انتعشت في ظلّ سياسة (حافظ الأسد) جميع الفئات الاجتماعيّة ، انتعاشاً اقتصاديّاً و حضاريّاً ، فضاقت الهوّة بين “الطّبقات” و الفئات الاقتصاديّة ، من جهة ؛ و بين “الرّيف” و “المدينة” ، من جهة أخرى ؛ و ذلك في إطار سياسات اقتصاديّة و تنمويّة و خدميّة طالت “المجتمع” السّوريّ حتّى أقصى جغرافية “الجمهوريّة العربيّة السّوريّة” ، بما في ذلك “البدو الرّحّل” الذين دخلوا في دائرة الخطط الاقتصاديّة و التّنمويّة ، و هو ما عكس تطوّراً في مفهوم “الاقتصاد القوميّ” و “الموازنات العامّة” و “الميزانيّات الماليّة” ؛ بحيث انعكس هذا “الواقع” على متانة الشّعور الوطنيّ بالانتماء ، و ردم الأخاديد التّاريخيّة المتغلغلة في الشّعور الاجتماعيّ و المتعلّقة بالشّعور بالحيف التّاريخيّ و الغبن الاجتماعيّ ، و إطلاق مبادرات المشاركات العامّة المؤسّسة على أحاسيس و مشاعر جمعيّة بالرّضى العامّ و انفتاح الآفاق و تكافؤ فرص الطّموح .

لقد وجد ذلك ، كلّه ، تعبيره الصّريح في اقتصاد “القطاع العامّ” الذي أضفى الطّمأنينة الاجتماعيّة على العمل و الدّخل و التّوزيع ؛ إضافةً إلى اجتهادات اقتصاديّة تُضفي المزيد من الشّعور بالمشاركة الوطنيّة ، و هو ما تمثّل في صيغة “الاقتصاد المشترك” الذي يستفيد في وقت واحد من مزايا “القطاع العامّ” في أسعار صرف العملات المموِّلة للتّجارة و الصّناعة ، و سعر الضّريبة المقرّرة على “الاستيراد” و “الإنتاج” و “التّسويق” ؛ و في فرص “القطاع الخاصّ” في شكل التّسهيلات الائتمانيّة الممنوحة من “الدّولة” على الواردات .

و في هذه الظّروف المتسارعة كان من الطّبيعيّ أن تظهر طبقة طفيليّة اجتماعيّة – سياسيّة ، أهليّة و رسميّة ، من شأنها أن تقتات على ظروف “التّطوّر” الاجتماعيّ – الاقتصاديّ ؛ و كان من الطّبيعيّ أن تكون هذه “الطّبقة” مقصودة في ذاتها نتيجة “الخدمات” ( المأجورة ) و التّسهيلات المختلفة التي تقوم بها ؛ و هذا ما هي عليه جميع “اقتصادات” العالم المعاصر في فلسفات النّموّ المتسارع و الذي يخلق ، في ما يخلق ، أمراضه العضويّة الطّبيعيّة و الموضوعيّة ، لكنْ و التي تساهم بدفع العمليّة الاقتصاديّة في حركتها عند منعطفات التّرهّل و الاختناق .

 في مجال ممارسة “النّظريّة السّياسيّة” لحزب البعث العربيّ الإشتراكيّ ، سلك (حافظ الأسد) سلوكاً نموذجيّاً في المرونة السّياسيّة ، حيث أجرى تطويرات عمليّة عميقة على أفكار “البعث” و لو أنّها لم يُرافقها تطويرات على مستوى “النّظريّة” ؛
و عندما كان لا بدّ من المقارنة بين “النّظريّة” و “الممارسة” ، كانت الكفّة السّياسيّة ترحج لصالح الممارسة في حدود أطر قصوى لا تتخلّى عن الهم القوميّ الذي يُعبّر عنه “البعث” في نظريّته العروبيّة ؛ 
فكانت أفكار (حافظ الأسد) ، السّياسيّة ، مشروطة بالدّافع القوميّ العربيّ ، و هذا ما بدا صريحاً في التّحالفات العربيّة (جبهة الصّمود و التّصدّي) التي أقامها كبديلٍ عن “وحدة قوميّة” ، ليس لها قابليّات للتّطبيق في ظلّ تهافت النّظام السّياسيّ العربيّ على “مكتسبات” القطريّة الخادعة و أنانيّات العزلة و الانعزال الرّجعيين ، الّلذين عبّرا عن واقع الأزمة القوميّة التي عاشها “العرب” في القرن العشرين .

لقد عمل (حافظ الأسد) على إشراك ما أمكن من أطراف و دول و ممالك و إمارات “النّظام الرّسميّ العربيّ” ، فوضع الجميع أمام مسؤوليّاتهم القوميّة التّاريخيّة ، في ظروف إقليميّة و دوليّة كان فيها الخروج السّافر على مصالح “الأمّة” يشكّل خيانة قوميّة و أخلاقيّة لم يكن الزّمن قد أتاحها عمليّاً ، بعدُ ، أمام النّظم العربيّة الأكثر رجعيّة من إمارات و ممالك و دول “العرب” .

9 – بين الماضي .. و المستقبل ، يقف حاضرٌ سوريّ عزيز مضمّخ بدماء الشّهداء الأبطال الذين صانوا قدسيّة التّراب الوطنيّ السّوريّ و مستقبل سورية و “العروبة” في مشهد تاريخيّ ، من هذه الحرب ، لم يكن ليكتمل لولا أنّ هذا الحاضر يستمدّ عنفوانه من ماضٍ قريبٍ و يُرسل بأنواره السّاطعة إلى مستقبل سوريّ حيّ قادم و وشيك ..

ويقف على رأس هذه الإنجازات الأسطورية في الصمود والتّصدّي والشموخ والتحدّي ، أسد بلاد الشام ” الأسد بشّار ” الذي كان له الدور الحاسم في الحفاظ على سورية وفِي منع المنطقة من الإنهيار .

وقد أصبح ” الأسد بشار ” مَحَطّ آمال السوريين ، بأغلبيتهم الساحقة ، في العودة بسورية ، إلى حالةٍ ستكون عليها أَفْضَل بكثيرٌ ممّا كانت عليه في السابق .

من الطّبيعيّ أن تستوقفنا هذه البطولات النّادرة في تاريخ الأوطان و الشّعوب ، و من الطّبيعيّ أن نتعلّل بها في زمن عربيّ و إسلاميّ مؤسف و شريد ، و لم يكن لنا أن نتوقّع خلاف ذلك المشهد التّحريريّ إذا أخذنا بعين الاعتبار ثقتنا المطلقة بالبنيان الذي أسّس له (حافظ الأسد) ، و الذي عمل و يعمل عليه ( الأسد بشّار ) وصانه وحماه وصَلّبَهُ و قَوّاه ، في إطار تجذير المكتسبات ، وإضافتها إلى قاعدة وطنيّة منسجمة و متينة تحتّمها على (سورية) ظروف العالم المعاصر و فلسفاته الاستعماريّة الكيديّة و الانتقاميّة و الثّأريّة من ماضٍ سوريّ قريب .

10 – و في اختلاف الظّروف السّياسيّة العالميّة و تنامي الأيديولوجيا الاستعماريّة في أدوات و ممارسات مبتكرة و جديدة و مؤثّرة و مخيفة ، بات على الخيارات السّوريّة أن تكون على مستوى هذه “المواجهة” العالميّة الفريدة كما اتّضحت في مثالٍ ، و حسب ، في هذه الحرب القرصنيّة التي تُشنّ على (سورية) الأسد .

يختلف و يتعدّد مفهوم “المواجهة” السّوريّة المعاصرة للظّروف العالميّة القاهرة ، المعقّدة و المتشابكة ، الذي يُمكن أن يشكّل “مأمناً” نظريّاً و عمليّاً ، وطنيّاً و قوميّاً ، من الخراب و الزّوال الّلذين يهدّدان واقع الوطن ، اليوم ، في تحدّيات سافرة و لا تحتاج إلى التّأويل .

نعاصر اليوم عالَماً من التّحوّلات الجوهريّة و العميقة التي طرأت على فلسفات السّياسة و الاقتصاد ، و التي تناولت “ثوابت” تقليديّة ، بالخلخلة و التّفكيك ، بحيث لم تنجُ منها حتّى مفاهيم من مثل “الأحزاب القوميّة” بأيديولوجيّاتها التّقليديّة .

لقد طرأت ، و على مستوى العالم ، إقحاماتٌ جدّيّة و نهائيّة على ركائز أيديولوجيّة تاريخيّة كانت من مفرزات نضالات الشّعوب في “القرن العشرين” ، الماضي ، فلم تعد تدخل في باب “الثّوابت” الفكريّة و الأيديولوجيّة ، و هذا هو دأب الأفكار الإنسانيّة التي تُنجز ما يمكن لها من مهمّاتها في ظروف زمانيّة و مكانيّة ، لِتُخلي ساحة المعتقدات السّياسيّة لأفكار و تصوّرات و مشاريع فكريّة و سياسيّة جديدة ، تستطيع مواكبة التّغيّرات العالميّة و الوضوح السّياسيّ العالميّ ، الذي يجرف في طريقه رغبات الماضي و آمال الغابرين .

يفرض علينا العالم بتغيّراته الجوهريّة اليوم على مستوى الخطاب السّياسيّ ، أفكاراً هي أقرب إلى “العمليّانيّة” منها إلى “النّظريّات” التي تحتاج إلى اختبارات و تجريب .

11 – يدخل العالم ، في هذه الأثناء ، في انكماشات كميّة و كيفيّة ، سياسيّة و اقتصاديّة و فكريّة ، بحيث أنّ الفكرة الواحدة تتعمّم ، بطريقة فريدة و موضوعيّة ، على سائر الشّعوب و المجتمعات و الأمم و الدّول ، و بخاصّة منها تلك التي تقع في أطراف “النّظام العالميّ” الواحديّ المعاصر .

ففي واقعيّة عقلانيّة تبدو على (سورية) ، و بخاصّة مع هذه الحرب ، تأثّرات انفعاليّة موضوعيّة ، يكون من الوهم معاندتها و الاشتغال بعكس تياراتها الجارفة ؛ و لكنّه يُعتبر من المستحيل تاريخيّاً أن لا تستطيع (سورية) الحاضر الامتثال إلى دروسها المفهومة على ما يجب أن يكون .

لقد ولّت ، و إلى الأبد ، و انقرضت الدّروس النّظريّة و العمليّة السّياسيّة لمفهوم “الحزب الواحد” ، و مفاهيم “الاشتراكيّة الثّوريّة” ، و ما الدّرس “الكوريّ الشّماليّ” ، الآن ، إلّا نتيجة من نتائج هذا الانقراض ؛ على أنّ المثال الآخر الأهمّ يأتينا من (الصّين) ، حيث لم يتبقَّ ، على الصعيد الإقتصادي ، من ذكريات “الحزب الشّيوعيّ الصّينيّ” سوى أحرف في الإسم و العنوان ، على حين أنّ كلّ شيءٍ على الأرض يؤكّد انتهاج (الصّين) لفلسفة اقتصاد السّوق الرّأسماليّة ، و الولوج عميقاً في اقتصادات “العالم الحرّ” !

و لمّا كانت (سورية) من الدّول الأطراف في هذا العالم المعاصر ، كان الحريّ بنا ، نحن السّوريين ، أن نتدارك مخاطر التّحوّلات العالميّة علينا كنهج اقتصاديّ و سياسيّ ، في تلمّس حاجاتنا الأكثر إلحاحاً لتبديل “فلسفات” الاقتصاد و الحاكميّة السّياسيّة ، مع احتفاظنا بما يمكن لنا أن نحتفظ به من المجرّبات الممكنات و التي لن ينازعنا عليها العالم ، و بخاصّة شكل و هيكليّة “القطاع العامّ” الاقتصاديّ الذي أدّى دوراً هائلاً في “العدالة” الاجتماعيّة – الاقتصاديّة – السّياسيّة ، عل مستوى معيشة المواطن السّوريّ ، و ما زال ، حتّى الآن ، قادراً على أداء هذا الدّور الاجتماعيّ – الإنسانيّ في مجتمع فقير المداخيل ، و كاد أن يكون معظمه على حافّة خط الفقر العالمي .

12 – يُحتّم علينا التّاريخ ، في (سورية) ، أن نعي حجم المفارقات العالميّة و التّهديدات التي تحملها إلى الشّعوب التي تتخلّف عن الرّكب “الحضاريّ” .

لقد أدّى “حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ” دوراً تاريخيّاً مفصليّاً في (سورية) المعاصرة ؛ و بالمقارنة مع الظّروف العالميّة ، فلقد أنهى البعث” دوره التّاريخيّ ، من حيث “الأيديولوجيا” الاشتراكيّة التي كانت مَعْلَماً بارزاً في كثير من حيوات و سياسات الأحزاب الثّوريّة العالميّة و أطرها في الدّول التي تألّقت ، على أساس ذلك ، في القرن العشرين .

13 – إنّ السّياسات المعاصرة في إطار النّظام العالميّ المعاصر ، وفق طبعته الأخيرة ، توحي بضرورات التّوجّه المباشر إلى فلسفة “الواحديّة الكونيّة” التي لن تسمح ، بعدُ ، للمشاريع السّياسيّة “الصّغيرة” ، على مستوى الحجم العالميّ ، بالاستمرار على طريقتها التّقليديّة ؛ فالعاصفة العالميّة هي أقوى و أعتى من أن يقف في وجهها مشاريع سياسيّة تقليديّة تنتمي إلى عصر “الحرب الباردة” السابقة ، قبل أكثر من نصف قرن من الزّمان .

و في ظلّ ترهّل الأفكار الأيديولوجيّة العالميّة ، و في إطار النّزعة العالميّة إلى الانكماشات السّياسيّة الحدوديّة و تقلّص الحرّيّات السّياسيّة الوطنيّة و القوميّة و مشاريعها المراوحة و الرّكيكة ؛ فإنّ ما يُحتّمه العصر من “لغة” ، هو ما يُكتشف في “الممارسة” ؛ و لقد أثبتت “الممارسة” العالميّة ، في الشرق و الغرب ، في هذه الحرب على (سورية) ، أنّ الدّول المنعزلة و المتقوقعة في إطار “النّظام” فقط ، إنّما هي دول تتّجه إلى حافّة الانهيار و الانقراض ! حتّى الدّول الأكثر رجعيّة و جموداً في هذا العالم تكاد تكون قد استوعبت الدّرس العالميّ المعاصر ، في أنّ ما يُنقذها كدول و حكومات ، هو المزيد من الانخراط و الاندماج في الّلغة العالميّة ، لغة القوّة و العنف .

و إذا كان لا بدّ لأيّة دولة في العالم من أن تقوم ، دوماً ، على حامل أيديولوجيّ ، في الدّاخل و في الخارج ، فإنّ الأيديولوجيّات المعاصرة ، تبدو جميعها متّفقة على أيديولوجيا الفلسفات البرغماتيّة المتنوّعة و التي تتيح لِ”السّياسيّ” ، باستمرار ، هامشاً واسعاً من التّحرّك و التّفاعل مع المستجدّات ، بمرونة و حيويّة “وضعيّة” معاصرة تعصمها مجانيّات السّقوط .

يتعلّق الأمر كلّه بقدرة “الدّولة” على توسيع إطار المشاركات الاقتصاديّة و الاجتماعيّة و السّياسيّة ، بحيث تستكمل تجربة (حافظ الأسد) السّابقة لعصرها في التّوسّع بالمشاركة و جعل “الجميع” شركاء و مسؤولين عن تجربتهم المشتركة في إطار انضباط “أمنيّ” و ضبط “أمنيّ” للفعاليّات و المشاركات و الاجتهادات ؛ و هذا ما هو معمول به في كلّ دول العالم من دون استثناء .

14 – إذا كان لنا أن نستفيد من تجربة الحرب في ظلّ هذه الظّروف العالميّة على ما فصّلناه أعلاه ، فإنّ الدّرس الأهم ، في نظرنا ، هو العمل على ضرورة التّوسّع في “لنّظريّة” و “التّنظير”، اللّذَيْنُ لا بأخوان حقّهما من الإهتمام .

يُحتّم الأمر ، على هذه الشّاكلة ، اعتماد مؤسّسات كاملة للتّنظير و التّخطيط الاستراتيجيّ الاجتماعيّ و الاقتصاديّ و الإداريّ و السّياسيّ ، الواقعيّ و العقلانيّ و الموجّه “سياديّاً” و “أمنيّاً” .. بحسب الحاجة و الظّروف و المعلومات المتوفّرة على اتّجاهات الفعل و التّطوّر الوطنيَّينِ و العالميَّينِ ، و لو تفوّق ، و يجب أن يتفوّق ، التّنظير المخطّط على “العمل” في حجمه و كوادره ؛ فهذا أفضل من “العمل” الأعشى الذي يسير و لا يسير في وقت واحد ، في فوضى يُحسِن استثمارها أعداء الوطن ، و ذلك لفقدان سمته و غرضه و غايته ، إذ طالما كانت الغايات مستترة في “العمل” على العاملين ، لا يُظهرها سوى “النّظريّة” القياديّة المواكبة للعمل ، من حيث هي أفق و استشراف لانحرافات العمل و مستقبله و نتائجه المخطّطة .

يشترط هذا التّصوّر العمليّ مقدّمات تحتيّة سابقة و مواكبة للعمل المخطّط إداريّاً و سياسيّاً ، كانتهاج السّبل الاقتصاديّة القويّة و المتينة و التي توحي آفاقها بالعدالات الاجتماعيّة و المحاسن السّياسيّة المترتّبة عليها و التي تزيد من منعة الدّولة و استقرار المجتمع ، عن طريق العمل الدائب على طريق اقتصاد الاكتفاء الذّاتيّ و الاقتصاد “الطّبيعيّ”(!) و لو كان هذا مكلفاً بالنّسبة إلى الطّبقة الاقتصاديّة – السّياسيّة التي أدمنت عيش التّرف و البذخ و البطر و الاستهلاك .

من بلد زراعيّ مستعمَر و بسيط ، نال استقلاله عام (1957م) ، إلى واحد من أكبر البلدان التّكنولوجيّة الزّراعيّة العالميّة ، في غضون سنوات قليلة بعد الاستقلال ، ثمّ إلى واحد من أغنى و أعقد اقتصادات العالم بالتّنوّع و التّركيب و التّكامل .. ؛ هكذا خطت (المملكة الماليزيّة) مع “رئيس وزرائها” (مهاتير محمّد) ، من الجهل و التّخلف و الخنوع للاستعمار ، إلى دولة اقتصاديّة عالميّة على خارطة الاقتصادات المتطوّرة في عالم اليوم ، بعدد سكانٍ لا يتجاوز حتّى اليوم (30) مليوناً من البشر ..

إنّ انتهاج السّياسات الجادّة في التّخطيط انطلاقاً من القدرات الذّاتيّة و دراسة و توزيع المسؤوليّات و تطوير نظم الرّقابة و المحاسبة ، و التّجربة و الإخفاق و إعادة التّجربة و النّجاح .. ؛ هذه هي التّحدّيات المتوقّعة و المقبولة أمام (سورية) المعاصرة ، اليوم ؛ على أنّ كلّ ذلك سيكون ممكناً و واقعيّاً و عمليّاً ، مع توافر الإرادة السّياسيّة الكاملة و تَقَحُّمِ الخطوات الأولى من التّجربة ، التي ستبدو ، بطبيعة الحال ، من أعقد الإنجازات .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى