وقائع وإشكالات في مستقبل المشروع القوميّ العربيّ

بقلم :  د . بهجت سليمان

إنّ أيّ حديث عن مستقبل “العروبة” أو مستقبل “القوميّة العربيّة” بقضاياها العديدة المؤجّلة أو المعوَّقة ، تاريخيّاً ، لا يمكن أن يبدو حديثاً متّزناً ، ما لم يجر الانطلاق من المحدّدات التّاريخيّة ، القريبة ، على الأقلّ ، للواقع العربيّ ، السّياسيّ والفكريّ ، المعاصر الهزيل .

ومن الملاحظ أنّ “المشروع العربيّ” ، بوصفه مشروعاً قوميّاً تحرّريّاً ، يتحرّك في بيئة عربيّة وعرة ، وظروف عالميّة تزداد تعقيداً في توضّع شكل “النّظام العالميّ” في المرحلة الرّاهنة ؛ مع العلم أنّه لم يكن ، سابقاً ، في حالٍ أفضل ، إذ فرضت سياسة العالم على “المنطقة” حوكمة صلبة انطلاقاً من معطيات شبه نهائيّة في إطار الانهيار الأخلاقيّ السّياسيّ العالميّ الذي خضع ، نهائيّاً ، للضّرورات الإقليميّة الإرغاميّة و التّهافت الدّوليّ أمام المعطيّات السّياسيّة الرّاغمة ، نتيجة تسطيح المقولات النّضاليّة العربيّة و العمل على تمييعها ، ضماناً لأمن “الكيان الصّهيونيّ” الذي اعتبره “العالم” ، بقواه المتضامنة و المتواطئة و العاجزة ، قدراً سياسيّاً للمنطقة الإقليميّة و المحيط العربيّ الذي جرى تصنيعه السّياسيّ الهزيل بما يضمن “استقرار (“إسرائيل”)” .

وفي الأصل ، جرى تصنيع نموذج الدّولة القطريّة “العربيّة” على أساس نموذج “إجباريّ” هو ، في جوهره ، النّموذج السّياسيّ “الغربيّ” الملحق بالغرب ، في واقع اجتماعيّ عربيّ متخلّف جدّاً عن مجتمعات “الغرب” ، تخلّفاً تنمويّاً و ثقافيّاً ، ما جعل “النّظام” الرّسميّ العربيّ يعيش في عزلة عن المجتمعات ، أدّت إلى انعزالات اجتماعيّة ، جرى استثمارها السّياسيّ المحليّ و العالميّ بجملة من المشاريع السّياسيّة الاجتماعيّة و الحزبيّة الدّينيّة ، التي تمّ تكليفها من “الغرب” ليدخل “المكان” في صراعات باترة لأيّ ثقافة قوميّة تحرّريّة ، عندما واجهها المشروع “الغربيّ” كنقيضٍ جرى العمل على تسخيره ، لصالح الحكومات القطريّة العربيّة.. وهو ما جعل النّظام الرّسميّ العربيّ منفصلاً انفصالاً عضويّاً عن المجتمع العربيّ ، بحيث أن المجتمعات العربيّة نفسها قد تعايشت مع واقعها الانفصاليّ عن المشروع القوميّ العربيّ التّحرّريّ ، في شبه قناعة يائسة من التّغيير .

من جانب آخر عمل نموذج الدّولة القطريّة على امتصاص المصالح السّياسيّة ذات الجوهر النّضاليّ الاجتماعيّ ، فالتقى مع المشاريع الحزبيّة الدّينيّة ، و تعاضد معها في عمليّة من عمليّات التّواطؤ التّاريخيّ بين “النّظام” السّياسيّ القطريّ ، على الطريقة الغربيّة – ناقصاً منها مسوّغ الأمّة في “الغرب” – و الرّجعيّة الاجتماعيّة الدّينيّة ؛ وهذا ما شكّل عامل امتصاص و إجهاض لمختلف الطّاقات الفكريّة والسّياسيّة التي حاولت ، عاجزة ، وما زالت ، أن تنجز مشروعهاالقوميّ التّنمويّ التّحرّريّ وسط أدغال “النّظام” الرّسميّ العربيّ المتواطئ والذّليل .

في هذا الإطار يمكن أن ننظر إلى “الدّولة” العربيّة نفسها ، كما إلى القوى الاجتماعيّة التّحرّريّة ، أنّهما ، كليهما ، شكلان للخضوع و العجز االتّاريخيّ و عدم استقلال “مشروعيهما” كنتيجة لعدم إمكانيّة إنضاج كلّ من المشروعين ، و لآسباب مختلفة و متناقضة ، بطبيعة الحال .

يمكن أن ننظرَ إلى علاقة الدّولة القطريّة العربيّة بالمجتمعات العربيّة ، على أنّها فقدت مبكّراً طابع التّمايز بين الدّولة و الشّعب ، بحيث أنّ كلا الطّرفين قد فقدا استقلالهما المبكّر ، ما يُفسّر تلك الظّاهرة التّاريخيّة في السّياسة و الفكر السّياسيّ العربيين ، و هي ما يمكن أن نعبّر عنه بالميوعة الفكريّة و الثّقافيّة و السّياسيّة ، عند الشّعوب و الأنظمة العربيّة ، و بغياب الفارق النّوعيّ الدّقيق و النّهائيّ للأنظمة السّياسيّة و الشّعوب ، و هو الأمر الذي انعكس جليّاً في غياب “العامّ” و “الخاصّ” ، أي في عدم نضوج هويّة جميع “الأطراف” السّياسيّة التي من المفترض أن تكون مكلَّفة ، تاريخيّاً ، بحسم اتجاهات التّطوّر السّياسيّ الوطنيّ و القوميّ ، بما في ذلك قضايا “التّحرّر” و “التّحرير” .

المهمّ ، أنّه لم تقم “الدّولة” العربيّة الواقعيّة ، على رغم تقليدها النّموذج السّياسيّ الغربيّ ، في ظاهرها ، كما لم يقم “المجتمع” العربيّ ، إذ أنّه عانى ، معاً ، من أمراضه التّاريخيّة البنيويّة و الأخلاقيّة ، كما عانى من حاضره السّياسيّ الوهميّ والمتواطئ ، أيضاً ، مع الخلاعة القطريّة العربيّة الاقتصاديّة و السّياسيّة ، بظهور “طبقة” وظيفيّة – أهليّة ، اجتماعيّة ماكرة ، مخادعة و خائنة طبقيّاً و اجتماعيّاً ، تتجذّر في الدّولة و تتجذّر في الشّعب ، في وقت واحد ، بحيث أنّها كانت الوسيط الانتهازيّ التّاريخيّ بين العامّ و الخاصّ .

تركَ هذا الواقع أثراً مباشراً ، في التّربية و التّعليم و التّثقيف و التّعبئة التّاريخيّة ، على تنشئة أجيال متوالية ، خليعة و لا منتمية في قِسْمٍ كبيرٍ منها ، و هذا ما أرخى بثقل مباشر على القناعات و المفاهيم الاجتماعيّة المرتبطة بدوافع التّنمية و التّحرّر الوطنيّ و القوميّ ، بحيث كانت النّتيجة “تغريباً” و “اغتراباً” كاملين ، عن الواقع و المستقبل ، في آن معاً .

طبعاً لن ندخل هنا في الظّروف و الكيفيّات المفتعلة و المقحمة إقحاماً “غربيّاً” ، كولونياليّاً و استعماريّاً مباشراً ، التي صنعت من واقع “الدّولة القطريّة المعاصرة ، بعد الحرب العالميّة الأولى ، بخاصّة ، في ترسيخ جديد لواقع الهيمنة الاستعماريّة العثمانيّة التي صعقت تاريخنا القوميّ لمدّة قرون أربعة ، ما شكّل الأرضيّة الخصيبة لواقع التّبعيّة السّياسيّة العربيّة المعاصر ، و خلق كيانات قطريّة “وظيفيّة” لخدمة المشروع الاستيطانيّ “الصّهيونيّ” ، و ظروف الكبح التي رافقته ، لكلّ آفاق التّحرّر العربيّ و التّنمية الاقتصاديّة و الحضاريّة .

في ظلّ الظروف الاستعماريّة الغربيّة ، عملت قوى تحطيم “المشروع القوميّ” على تغذية الولاءات المذهبيّة و الطّائفيّة ، في مجتمعات كانت مهيّأة لهذا الفصام نتيجة التّاريخ المذهبيّ العنصريّ الطّويل الذي صنعته الإمبراطوريّة العثمانيّة ، و الذي تلقّاه “الغرب” الاستعماريّ كعامل أوّل و جوهريّ لترسيخ الانقسامات الثّقافيّة و الدّينيّة و توجيهها وجهة سياسيّة ..

كانت السّبب الجوهريّ في رسم هذه الصّورة المعاصرة للولاءات الخيانيّة في وجه الولاء القوميّ و الحضاريّ ، و هذا ما لم ينجُ منه كبارٌ من المثقّفين و المفكرين و السّياسيّن العرب ، و المشتغلين بالشّأن العام .

عملت “الدّولة” القطريّة العربيّة ، في ظلّ النّظام الرّسميّ العربيّ ، على قلب الأمكنة الاجتماعيّة و السّياسيّة ، و تزويرها للقوى النّاهضة تاريخيّاً ، و التي استبدلت بها قوى مشكوكاً في أصالتها في الانتماء “العربيّ” و “الإسلاميّ” ، بحيث تمّ تظهير هذه “القوى” الهامشيّة في التّاريخ ، والمشبوهة الأصول ، بتصنيع “غربيّ” مرافق ؛ إلى أن تولّت هذه “القوى” الدّخيلة على المشروع العربيّ –الإسلاميّ ، “قيادة” المجتمعات و الطّبقات و الجماعات و الفئات ، فشكّلت أكبر عامل تزوير تاريخيّ للنّسيج الاجتماعيّ و الثّقافيّ و السّياسيّ ، العربيّ و الإسلاميّ ، في أحطّ صيغة من صيغ التّمثيل “الرّسميّ” للقوى التّاريخيّة العربيّة المعاصرة .

المفارقة الأخطر والأهمّ ، هي في أنّ هذا التّزوير في التّصنيع “القوميّ” العربيّ المعاصر ، كان يجري في ظلّ منطقة إقليميّة مرهونة بمشاريع دوليّة و تاريخيّة ، محيطة بالمشروع العربيّ ، و أعني بها “الدّول” الإقليميّة المطوّقة للنّهضة القوميّة العربيّة ، الثّلاث ، (“إسرائيل”) و (تركيا) و (إيران الشاه ) ، و طبعاً مع الفوارق العميقة التي تجعل منها ثلاثة مشاريع مستقلّة ، على كلّ ما توحي به العلاقة التّركيّة – الإسرائيليّة من اندماج ظاهريّ و تواطؤ داخليّ مرهون بالأفق السّياسيّ “الإسرائيليّ” ، بوصف (“إسرائيل”) دولة إقليميّة لها مشروعها العقائديّ الذي يتجاوز الدّولتين الأخريين ، كما يستغرق كلّ المنطقة المشرقيّة العربيّة .

إنّ ما تقدّم هو صورة غير وافية ، بالتّأكيد ، عن واقع أكثر تعقيداً ، على رغم أنّها واقع يؤطّر المشهد العربيّ ، بمشروعه الوطنيّ و القوميّ ، و يشترط مستقبل العمل العربيّ ، إلى عقود طويلة ، في الحقيقة ، و بخاصّة في ظلّ عالم يكاد يبدو مسخّراً من أجل الكيان الصّهيونيّ و أمنه ، على الأقلّ ؛

و هذا ما يجعل أيّة تنمية عربيّة ، وطنيّة و قوميّة ، مرهونة بزوال الاحتلال و آثاره ، و بالتّحرّر القوميّ العربيّ من ربقة هذا الكابوس “الموضوعيّ” العالميّ و التّاريخيّ المهين ، و المتمثّل بالدّولة الدّينيّة العبريّة في (فلسطين) .

و عندما نتحدّث على “المستقبل” العربيّ ، لا يمكننا إلّا أن نقف طويلاً عند الظّروف الموضوعيّة و الذّاتيّة التي تعتبر الطّريق المباشر إلى هذا “المستقبل” ، و هذا ما يعني التّحليل الفكريّ السّياسيّ لظروف الواقع ، اليوم ، التي ترتهن بها أيّة محاولة عربيّة للمقاومة و التّحرير .

يُنبئنا تاريخ العالم أنّ مقاومة “الشّعوب” ضدّ الاحتلال و الاستعمار ، هي عمليّة أكيدة النّتائج التّحرّريّة ، و لو نظريّاً ، على الأقلّ ، و بخاصّة في ظلّ نظام عالميّ ، اليوم ، يكاد يكون مسخّراً لخدمة و أمن (“إسرائيل”) .

غير أنّ “مقاومة” واحدة في التّاريخ السّياسيّ الذي تمتلئ به الذّاكرة العالميّة ، من (أميركا الّلاتينيّة) إلى أقصى شرق (آسيا) ، مروراً بالنّضالات “الأفريقيّة” ؛ لم تكن لتبدأ ، ناهيك عن انتصارها و تحقيق أهدافها ، إلّا على أساس فكر سياسيّ ثوريّ تحرّريّ .

حتّى هذه الّلحظة التّاريخيّة ، لا يبدو لنا أنّ فكراً سياسيّاً وطنيّاً – قوميّاً عربيّاً ، مقاوماً ، قد تبلور أو نشأ أو هو قيد الإنشاء ؛غير ناسين ولا متجاهلين نضالات المقاومة “الإسلاميّة” الوطنيّة ، في (لبنان) و (فلسطين) ؛ و لكنّه ، بالمقابل ، هو ما نعتبره ، حتّى اليوم ، نقطة ضعف في المقاومة الوطنيّة – القوميّة العربيّة ؛ تلك “المقاومة” الإسلاميّة الوطنيّة التي صادف تاريخها و تاريخنا أنّها “احتكرت” شرف النّضالات العربيّة و المقاومة الوطنيّة المعاصرة ، ما أحالها ، في كثير من الأوقات إلى مَعَامل و مصانع نضالات مجانيّة و مؤسفة ، و بخاصّة منها نضالات شعبنا العربيّ الفلسطينيّ ، في وجه أعتى قوّة دوليّة و عالميّة للإرهاب الصّهيونيّ – الإسرائيليّ .

و على خطورة هذا الحديث ، التي ندركها قبل أن نكون محلّ نقد ، غير مسوّغ و لا مشروع ، للمزايدين من بعض المثقّفين ، ضدّنا في هذا الكلام ؛ إلّا أنّ الواقع الذي لا يمكن إنكاره ، يفرض علينا قول “الحقيقة” ، قبل أن نكون ملهاة أخرى جديدة للتّاريخ .

الآن ، فقط ، يمكن أن نصل إلى المشهد المقبل للمشروع الوطنيّ –القوميّ العربيّ ، كما يمكننا التّحدّث بواقعيّة سياسيّة ثوريّة .

لا ينتظرنا في المستقبل القريب ذلك التّفاؤل الصّبيانيّ الذي درج عليه الإعلام الرّسميّ العربيّ ، حتّى يُخيّل إلى المرء أن التّحرير سيبدأ من وسائل الإعلام و مزايدات بعض السّياسيين الفارغة .

و مع تقديرنا و تبجيلنا لمحور “المقاومة” ، اليوم ، بإنجازاته الأخلاقيّة العظيمة في (سورية) و كلّ المكان العربيّ المجاور ؛

إلّا أنّه محور مهدّد بالمفاجآت ، و ذلك لأنّه لا يستوفي “شرطه الكافي” ، مع أنّه استوفى ، بجدارة و شرف ، “شرطه الّلازم” الذي تبدو نتائجه وشيكة و نهائيّة في المنطقة و الإقليم .

إنّ حديثنا مُدَعَّمٌ بواقعة سياسيّة جديدة و معاصرة ، و هو هذا الاختراق الذي جرى لمحور المقاومة في “العراق” ، مع مجيء “كتلة الصّدر” إلى واجهة السّياسة و الدّولة في (العراق) .

كان لنا حديث سابق على “الصّدر” و دوره في المنطقة من جديد ، ما بين (العراق) و (السّعوديّة) و (تركيا) و (إيران) .. ، إلخ ؛ و إذا كان لنا ، هنا ، أن نذكّر بما قلناه عنه ، فبذلك الدّور “الوسيطيّ” الذي نزعمه ، نحن ، للصّدر (مع انضمام “العبادي” إلى كتلة “الصّدر”) ، ما بين الدّول الإقليميّة (تركيا) و (إيران) من جهة ، و بين (السّعوديّة) ، من جهة أخرى ؛ وهذا ما قد لا يجرؤ إلاّ قِلَّةٌ على تصوّره ، بعد !

دعونا نَكُنْ أكثر واقعيّةً من واقعيّة الدّعيين و الانتهازيين . .

ما ننظر إليه في مستقبل العمل الوطنيّ – القوميّ العربيّ ، لإنجاز مشروع التّحرّر القوميّ ، هو أنّه لا يمكن أن نقول ببداية لهذا “المشروع” ، ما لم يسبقه مشروع فكريّ سياسيّ و ثقافيّ ، و تعبويّ ، مقاوم ، على مستوى المجتمعات العربيّة ، التي يبدو ، حتّى الآن ، أنّها قد استقالت من الفكر السّياسيّ الوطنيّ و القوميّ .. ؛ و مستوى “الدّولة” القطريّة الوحيدة المرشّحة ، اليوم ، لحمل مشعل المقاومة العربيّة التّحرّريّة و هي (سورية) الأسد .

طريق النّضال طويل ، و هو لا يضم ، بالتّأكيد ، أولئك العَجِلين في تحقيق أهداف تفني فيها الأمم عشرات الأجيال لتحقيقها ؛ و هذا الطّريق هو ما يجب أن يبدأ ، كما قلنا ، بنظريّة قوميّة عربيّة على “المقاومة” ، تخرج من إسارها “الدّينيّ” إلى فضائها القوميّ الرّحب العريض ، و ذلك مهما كانت النّوايا حسنة !

عندما يجري الحديث في “الفكر” ، فينبغي أن يكون هدفنا “الصّدق” العقلانيّ و “الصّدق الفلسفيّ” ، و لهذا فإنّ الكثير من الاعتبارات “الأخرى” ، يجب أن “ترفع” من الحديث ، و لو “رفعاً سقراطيّاً” (الإيبوخي) من باب المعترضات في التّأجيل .. !!؟

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى