المائة عام الأخيرة .. صعود وسقوط وعودة العرب

بقلم : د. لبيب قمحاوي

إذا كان مفهوم الدولة الدستورية في العالم العربي قد شَاَرَفَ على الإنهيار الكامل لصالح الدولة الأمنية ومن ثم دولة الاستبداد والفساد والتعسف ، فإن ذلك لا يعني ، ولا يجب أن يعني ، أن هذه هي طبيعة الأمور وأن هذا ما يجب أن تكون عليه الأوضاع في كل الدول العربية .

تؤشر التطورات الأخيرة في العالم العربي على بداية التغيير الايجابي . فَمـِنْ وَسَطْ أكوام العَفـَنْ السياسي والأخلاقي ورواسب الفساد ودموية الإستبداد وإذلال الشعوب بدأنا نشاهد الآن بوادر التغيير الايجابي تطل بوجهها المبتسم الخجول ولكن الصارم وإن كان لأسباب مختلفة وبصور متباينة في كل مِنْ العراق ولبنان وفلسطين وتونس والأردن والكويت مُبشِرَةً  بإبتداء حقبة جديدة وقرب الإنتهاء من مسيرة الفساد المالي والانحلال السياسي العربي والإستبداد والظلم حيث وصل الجميع إلى مرحلة الحسـم ، مما يُحَتـِّم على الأنظمة العربية الآن الكشف عن حقيقتها وأين تقف بالتالي من قضايا أمتها وشعوبها خصوصاً وأن الخيارات الآن تحدد مستقبل الأوطان . فالعديد من الدول العربية أصبح وجودها وإستمرارها في مهب الريح وعليها التشبث بهويتها الوطنية ومسارها الدستوري الديموقراطي وانتماءها القومي حتى تحمي وجودها . إن وضع النقاط على الحروف أصبح أمراً في غاية الأهمية حتى تعرف الشعوب أين يقف كل نظام من قضاياها المصيرية ، وحتى تنتهي حقبة الكَذِبْ والدَجَلْ السياسي التي عصفت بآمال وطموحات شعوب الأمة العربية لما يزيد عن خمسة عقود .

الأنظمة العربية ومنها السلطة الفلسطينية ، أمام استحقاقات خطيرة تتطلب منها الإعلان وبوضوح كامل عن موقفها من قضايا شعوبها وأهمها الحرية والديموقراطية والشفافية ومحاربة الفساد ، وعن موقفها من عدو العرب الأكبر والأهم وهو إسرائيل. من يرغب من الأنظمة العربية في الإستمرار في قمع شعبه وفي الإلتصاق بمسار الإستبداد والفساد عليه أن يكون مستعداً لدفع الثمن . ومن يرغب منهم في إعتبار إسرائيل صديقاً أو حليفاً عليه أن يمتلك الشجاعة لأن يعلن ذلك على الملأ دون الحاجة إلى تبرير تلك الخيانة من خلال شتم الفلسطينيين واتهامهم بإغتصاب فلسطين من أصحابها اليهود ، أو التآمر عليهم والتضامن مع الإسرائيليين والأمريكان في حصار وتجويع الشعب الفلسطيني ، أوالمساعدة في البدء بإغلاق المؤسسات الدولية التي تـُكـَرِّس وتعترف بوضع اللجوء الفلسطيني مثل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأنروا) من خلال حجب المساعدات عنها ، ناهيك عن التعامل الفوقي واللامبالي مع حقوق الفلسطينيين ومع عمليات القتل والبطش والتنكيل والمصادرة التي يتعرضون لها بإستمرار .

التمهيد للتصالح والتحالف مع إسرائيل ولقبول ما يُدعى “بصفقة القرن” الهادفة إلى إغلاق الملف الفلسطيني وليس حل القضية الفلسطينية ، هو محور السياسة العربية الحالية المعلنة وغير المعلنة . إن إعلان الرئيس الأمريكي ترمب عن الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ، ذلك الاعتراف الذي لم يكن ممكناً لولا الموافقة الخفية اللئيمة لبعض الأنظمة العربية ، وبغض النظر عن حجم الكارثة السياسية والمعنوية التي نتجت عن ذلك الاعتراف ، فإن مثل ذلك الإعتراف والذي قوبل برفض بطولي فلسطيني قد تم إستعماله كمدخل لطرح أفكار “صفقة القرن” الهادفة إلى تصفية القضية الفلسطينية . وما تَسَرَّبَ حتى الآن عن “صفقة القرن” يؤكد أن الأفكار الأمريكية مرنة وما زالت قيد التشكيل وأن مدى سوء هذه الصفقة يرتبط مباشرة بموقف القيادة الفلسطينية والأنظمة العربية ومدى إستعدادهم للقبول بالتنازلات كون “صفقة القرن” تتعلق بحجم الخسائر الفلسطينية ولا مكاسب من ورائها في كل الأحوال .

هنالك محاولة أمريكية وإسرائيلية واضحة لإستغلال حالة الضعف الفلسطيني والتشتت والفرقة العربية ، وتولي الحكم في بعض الدول العربية من قبل جيل جديد من الحكام اللذين لا يؤمنون ، على ما يبدو ، بأية روابط عربية سوى مصلحتهم الآنية الخاصة ، مما وضع المقدرات العربية في أيدي ما لا يؤمن بالعروبة ولا يقبل بالالتزامات المترتبة على تلك الرابطة . والأخطر من ذلك هو إستبدال تلك الرابطة القومية الحقيقية والتاريخية بعلاقات آثمة متغيرة مع إسرائيل أو مع دول غربية لها مطامع واضحة تتعارض ومصالح الشعوب العربية وتهدد مستقبلهم .

إن تلاعب تلك الأنظمة العربية ومجموعة الحكام العرب الجدد بالمصلحة العربية القومية وتصنيفها بأنها رابطة تخلو من أي معنى ولا أهمية لها ، قد خلق وضعاً ساهم بالمزيد من الضعف العربي وزاد من سطوة الأعداء إلى الحد الذي لم يُبْقِيِ لتلك الأنظمة من حليف إقليمي مُحْتـَمل سوى إسرائيل . فمعاداة إيران وتركيا والإلتصاق بأمريكا يشير إلى أن خيارات تلك الأنظمة إفتقدت إلى الحصافة والرؤيا السليمة لأن منطق الأمور يفترض بأن عدو عدوي هو صديقي . وإذا كان عداء إيران وتركيا لإسرائيل وأمريكا لا يتناسب ورؤيا تلك الأنظمة ، فهذا يَعْكـِسْ بؤس خياراتهم . وإذا كان هنالك من خلاف مع تركيا وإيران فهذا يجب أن لا يأتي في أهميته و أولويته على العداء لإسرائيل وخطرها الداهم على دول الإقليم العربية .

وفي هذا السياق ، فإن دفع بلد عربي مثل الأردن مثلاً إلى حافة الهاوية الإقتصادية دون أي إعتبار لدوره العربي ولمصالح شعبه ، ودون أي تغطية سياسية وأمنية أمراً لا يتسم بالذكاء السياسي بل بعنتريات عقلية البداوة ومفهوم الغزو والخضـوع والإخضـاع . وإذا كان لأولئك الأعراب وأنظمتهم مِنْ إعتراض على الفساد المالي وسرقة أموال المساعدات فقد كان من الواجب تبيان ذلك ووضع الشروط اللازمة للإنفاق السليم لتلك المساعدات ، عوضاً عن إستعمالِهِ كعذر لوقفها . إن الخلافات العائلية للأسر الحاكمة يجب أن لا تمتد لتشمل الدول والشعوب ، مع أن الأمر في حقيقته يبقى انعكاساً للرغبة الخفية في التبعية والإلحاق السياسي وليس أي شئ آخر . وما حدث ويحدث في سوريا ولسوريا وفي اليمن ولليمن وعمليات إبتزاز لبنان ، وما يحدث لثوابت القضية الفلسطينية ومنها عروبة القدس ، تشكل في مجموعها إنتهاكات واضحة للعلاقـة القـومية ولمبـدأ الحـوار العـربـي – العربي ناهيك عن التآمر مع العدو الإسرائيلي والاقتتال العربي – العربي خدمة لمصالح أنانية ضيقة أو رؤيا سياسية سقيمة .

جاءت الانتخابات البرلمانية الأخيرة في العراق ولبنان مؤشراً على بدء عودة البوصلة السياسية الجماهيرية العربية إلى وضعها الطبيعي . لقد جاء تصويت الأكثرية في العراق واضحاً مع عروبة العراق ووحدته ومع الهوية العراقية العربية والمواطنة الناجزة وضد التبعية لأي جهة خارجية بما في ذلك أمريكا وإيران .

أما الانتخابات اللبنانية فجاءت منحازة لعروبة لبنان ولمعسكر المقاومة بالرغم من كل المحاولات ، وخرج حزب الله وحلفاءه من الانتخابات بنسبة نجاح مثيرة عكست رفض اللبنانيين لسياسة أمريكا وإسرائيل في لبنان تجاه حزب الله تحديداً . لقد أثبتت تلك الانتخابات أن الجماهير العربية مازالت تتمتع بعقل سياسي واعٍ وأنها قادرة على التصويت بما يعكس مصالحها ورؤيتها ومصالح أوطانها .

ولم يقف الأمر عند العراق ولبنان ، فالانتخابات التونسية عكست مزاجاً شعبياً واضحاً بإلغاء التفويض السياسي لأي جهة كانت ، وأصبحت الأغلبية مُقـَيدَّة وبشكل لا يسمح لها أن تفعل ما تريد وبشكل قد يهدد الأمن والسلم الاجتماعي . فالتونسيون صوتوا لصالح التفاهم المبني على الحوار الديموقراطي ولم يعطوا أحداً التفويض لفعل ما يريد .

أما الكويت فقد استعادت دورها العروبي التقليدي المميز والمستقل بهدوء بعيداً عن التعقيدات الجديدة في السياسة الخليجية . إن مواقف الكويت بالنسبة لفلسطين وقطر واليمن وسوريا بقيت خالية من التآمر وهي مواقف غير صدامية وتبقى متميزة عن السعودية وحلفائها خصوصاً في مواضيع ضميرية ووجدانية وقومية مثل فلسطين والحرب على اليمن والخلاف مع قطر والتآمر على سوريا ووحدة أراضيها  .

وفي الأردن ، جاء احتجاج الأردنيين مؤخراً وإضرابهم الوطني العام ضد الظلم والتعسف الحكومي وإنتهاك الحقوق الدستورية للمواطن الأردني ليصبح علامة فارقة في تاريخ الأردن السياسي الحديث ومؤشراً على بداية حقبة جديدة من النضال السلمي ضد التعسف والاستبداد والظلم والفساد والتفرد بالسلطة .

أما بالنسبة لفلسطين فمن الواضح أن القيادة الفلسطينية قد وصلت إلى مراحلها النهائية في السقوط ، وردَّ فعل الشعب الفلسطيني المناضل تحت الاحتلال يشكل بداية الانبعاث الجديد للنضال الفلسطيني . الفلسطينيون تحت الإحتلال إبتدؤا في رفض وتجاوز التبعات السلبية المُدَمِّرة للسياسة الاستسلامية للسلطة الفلسطينية ، والإنفصام بَدا  واضحاً وفي ازدياد ملحوظ بين الجماهير الفلسطينية وقيادتها المفروضة والمتمثلة في السلطة الفلسطينية إلى الحد الذي بدا فيه واضحاً أن تلك السلطة لا تمثل المزاج السياسي للفلسطينيين ولا تملك القدرة على حشد أي تأييد جماهيري لسياساتها مهما كانت تلك السياسات نظراً لإنعدام الثقة الشعبية بها أصلاً .

إن مقاليد الأمور إبتدأت تتركز تدريجياً بيد الشارع الفلسطيني الذي ابتدأ يعيد بناء دوره السياسي الفاعل كما هو متمثل في الرفض الجماهيري الفلسطيني لمحاولة إسرائيل حصار المسجد الأقصى ومن ثم الرفض الجماهيري للإعتراف الأمريكي بالقدس عاصمة لإسرائيل . إن استمرار مسيرات العودة الاسبوعية وإنطلاقها من قطاع غزة هي مؤشر آخر على انتقال الزمام من القيادة الفاشلة للسلطة الفلسطينية إلى الشارع الفلسطيني . وهكذا يصبح إعادة انبعاث النضال الجماهيري الفلسطيني تحت الاحتلال وبالرغم عن السياسات القمعية الابتزازية للسلطة الفلسطينية مؤشراً آخراً على عودة النبض إلى الجماهير العربية وعلى أن الأمة لم تمت كما تريد أمريكا وإسرائيل وحلفاءهما من الأنظمة العربية وغير العربية ، بل إن بوادر النهوض الحقيقي المنبعث من إرادة الجماهير الحرة وليس إرادة الحاكم الفرد المستبد ، قد ابتدأت تطفو إلى السطح وتؤشر على بداية التغيير الحقيقي . وهذه عملية طويلة ومستمرة تتطلب المثابرة والنفس الطويل والايمان بحتمية إنتصار الشعوب وقضاياها .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى