رحيل مديحة يسري سمراء النيل التي دوخت الاديب عباس العقاد

توفيت الممثلة المصرية مديحة يسري الملقبة بـ”سمراء النيل” مساء امس الاول الثلاثاء عن عمر ناهز 97 عاما بعد رحلة عطاء استمرت لأكثر من ستة عقود، وقضت الممثلة المخضرمة سنوات عمرها الأخيرة تتنقل فوق كرسي متحرك إلى أن ضعفت صحتها ولزمت فراش المرض ثم توفيت في مستشفى المعادي العسكري.

شيعت جنازة الفنانة المصرية مديحة يسري، ظهر امس الأربعاء في القاهرة، بعد رحلة عطاء فني مثلت فيها نموذجا للفنانة المثقفة الواعية المتسقة مع قضايا الحاضر.

ورغم مشاركة محدودة لبعض الفنانين، مثل سمير صبري ونجلاء فتحي ولبلبة وليلى علوي في الصلاة على الراحلة بمسجد السيدة نفيسة، لم يبد الناس انزعاجا لرحيل الفنانة لغيابها المتعمد نحو عشرين عاما عن ساحة الفن والمجتمع والإعلام عقب مرضها.

تحت قبة المجلس

كان آخر عمل سينمائي ظهرت فيه الراحلة هو فيلم “الإرهابي” مع الفنان عادل إمام وصلاح ذو الفقار وشيرين عام 1994، ثُم شاركت بعد ذلك في مسلسل “هوانم جاردن سيتي” عام 1996 مع حسين فهمي وصفية العمري.

وعينت مديحة يسري عضوا بمجلس الشورى، وكان حبها للسينما دافعا لاهتمامها بها وهي تحت قبة المجلس الذي تم حله عقب قيام ثورة 25 كانون ثاني 2011. وبخلاف قضايا الطفولة والأمومة، قدّمت الراحلة عددا من المشروعات التي لم تؤخذ في الاعتبار لتطوّر الصناعة، منها ما اقترحته على وزير الثقافة الأسبق فاروق حسني بتأسيس متحف للسينما المصرية يستعرض تاريخها والمراحل التي مرت بها، وأن تستثمر الحكومة أموالها في بنك للسينما برأس مال 300 مليون جنيه يكون مهمته دعم المنتجين السينمائيين وتوفير أموال قروض لهم للإنتاج السينمائي، لكنها جميعا لم يُحقّق منها شيء على أرض الواقع.

وبعد ذلك فرضت على نفسها حالة من العزلة بعد تدهور حالتها الصحية ورفضها إجراء حوارات أو التصوير، ثم عادت للأضواء قبل أسبوعين في تصريحات شكت فيها وحدتها وصعوبة الحياة وعدم قدرتها على توفير مصاريف العلاج، بعدها اتصل بها الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، وجرى الاهتمام بها من مؤسسات رسمية كثيرة والتكفل بعلاجها.

وبرحيل مديحة يسري فإن زمنا جميلا يُتمم أفوله، كان فيه الفن قيمة إبداعية متوازية مع الثقافة وقضايا المجتمع، وكانت الراحلة آخر تلاميذ المفكر المصري الراحل عباس محمود العقاد، صاحب أشهر صالون ثقافي في تاريخ الثقافة العربية الحديثة، والذي رحل سنة 1964.

علاقة الراحلة بالعقاد لم تقتصر على كونها واحدة من تلاميذ مشاهير كان من بينهم المفكر الراديكالي سيد قطب الذي انقلب متطرفا إسلاميا، والكاتب الموسوعي أنيس منصور، والدكتورة سهير القلماوي، وإنما امتدت العلاقة لقصة حب شهيرة كتب عنها أنيس منصور في كتابه “في صالون العقاد”، وتناولها بتوسع الصحافي مصطفى أمين في كتابه “شخصيات لا تنسى”.

وطبقا لرواية مصطفى أمين، فُتن العقاد وكان قد تجاوز الخمسين عاما بالممثلة الشابة “هنومة خليل” ذات العشرين ربيعا التي شاركت في فيلم “ممنوع الحب” سنة 1940، ودعاها ضمن الكثير من الفنانات لحضور صالونه الثقافي الذي كان يعقد كل جمعة، وكان محل اهتمام العشرات من الأدباء والفنانين والصحافيين طوال الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي.

وكتب العقاد في الممثلة الشابة عدة قصائد، غير أن تعرفها على المخرج السينمائي أحمد سالم واقترانها به في ما بعد أديا إلى صدمة لعملاق الأدب، ودفعاه إلى أن يطلب من الرسام الشهير صلاح طاهر أن يرسم له لوحة للفنانة عبارة عن تورتة يحوم حولها الذباب، في إشارة إلى غرمائه من المعجبين.

وإثر ذلك كتب العقاد عنها قصيدة موجعة بعنوان “يوم الظنون”، قال فيها “يومَ الظنون صدعتُ فيكَ تجلُّدي/ وحملت فيك الضيم مغلـول اليد/ وبكيتُ كالطفل الذليل أنا الذي/ مالان في صعب الحوادث مقوَدي/ وغصصت بالماء الذي أعددته/ للـري في قفـر الحيـاة المُجهـد/ لاقيت أهوال الشدائد كلها/ حتى طغت فلقيت مـا لم أعهـد/ نار الجحيم إليّ غيرَ ذميمة/ وخذي إليك مصارعي في مرقدي”.

جميلة مثقفة

قيمة مديحة يسري تتجاوز بكل حال علاقتها بالعقاد، ومشاركتها في 90 فيلما سينمائيا، وتكريمها من عدة مهرجانات دولية وإقليمية، وتمتد للتعبير عن أزمنة عديدة كان فيها الفن لصيقا بالثقافة، والتمثيل قرينا بالمعرفة، والنجومية محكومة بقدرة النجم على التفاعل مع المجتمع المحيط.

وفي تصوّر الناقد الأدبي مصطفى بيومي، “لم تكن الممثلة الأروع، ولا يمكن أن يتعلق بالذاكرة مشهد بعينه لها في أي من أفلامها، غير أنها هي النموذج الأصدق للجمال المصري الأصيل المتمثل في سُمرة بلون النيل، وابتسامة هادئة دون إسفاف، وأنوثة طاغية دون ابتذال”.

ويقول بيومي : “جمالها الرائق لم تشوهه مشاهد عُري ولم تظهر بفساتين خليعة وكان جمالها متسقا مع الحشمة الشرقية النقية، كانت مثقفة بالمعنى الحقيقي للكلمة، واغترفت من المعارف بصورة لم تعد حاضرة بين ممثلي الشباك الحاليين”. وباستثناء الفنانة التونسية هند صبري التي يطل عبر أحاديثها ولقاءاتها قدر عال من الثقافة، فإن بيومي لا يرى نموذجا مشابها لمديحة يسري في أوساط الفنانين.

ويؤكد عماد الغزالي رئيس تحرير جريدة “القاهرة” التي تصدر عن وزارة الثقافة المصرية، المعنى ذاته، “كانت تمثل جسرا بين ضفتي الإبداع الفني والثقافي”.

ويقول في تصريحات صحفية، “جاءت في زمن كان فيه الإبداع حقيقيا لا تسويقيا، كان هناك توحّد حقيقي بين الكتابة والفن من خلال الصالونات الثقافية والمشاركة الحقيقية للكتاب والأدباء في السينما، فضلا عن الاهتمام الكبير من جانب أهل الفن بالصحافة والإعلام، وكان منطقيا مع تغيرات الزمن وتحوّلاته أن تحتجب عن المجتمع الذي صار الكثير من مبدعي الأزمنة الماضية يرونه غريبا عليهم”.

احتجاب مديحة يسري في السنوات الأخيرة كان محل تقدير من مجتمع عرفها بصورة ذهنية جميلة، إذ صنفت في الأربعينات ضمن أجمل عشر فتيات في العالم، كما حازت في ما بعد اهتمام النقاد الفنيين بحرصها على أداء دور الأم مبكرا منذ فيلم “الخطايا” سنة 1962 مع عماد حمدي وعبدالحليم حافظ ونادية لطفي.

وبلغت محطات زواج الراحلة أربع محطات، أولها المخرج أحمد سالم، ثُم الموسيقار محمد أمين، والمطرب الشهير محمد فوزي (والد ابنها الوحيد عمرو)، وأخيرا الشيخ إبراهيم الراضي بعد أن تجاوزت الخمسين من عمرها.

وظل فقدان الابن عمرو، في حادث سيارة وهو في عمر 16 عاما، الجرح الذي لم يندمل في حياتها، لكنها لم تقع في دوامة الحزن الأبدي وعادت لعملها بعده وظلت حتى أيامها الأخيرة محتفظة بابتسامتها الحانية ووجهها الجميل وجسدها الرشيق.

وكانت تصر على تقديم أعمال ذات قيمة وهدف ولم تكن القيمة والرسالة لأي عمل فني لديها مرتبطة بالتراجيديا، وقدّمت عددا من الأدوار الكوميدية والاجتماعية الرشيقة، ولم تكن تصر على أن تصبح البطلة الأولى لكل أعمالها حتى في ذروة نجاحها ونجوميتها، وتؤمن بأن البطولة في قوة الدور والبراعة في تجسيده وليس في مساحته.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى