التكامل العربي طريق تجاوز الأزمة العربية

بقلم : د. يوسف مكي / كاتب سعودي 

ليس من المقبول أخلاقياً، وقومياً دس الرؤوس في الرمال، وتجاهل وجود أزمة عميقة في العلاقات العربية العربية. كما أنه ليس منطقياً تجاهل نتائج الصراعات بين البلدان العربية، في خلق حالة من العجز والوهن العربيين. إن ذلك يعني أن الخروج من مأزق الوهن العربي الراهن، هو معالجة هذه الصراعات، والتوصل إلى حلول عملية لا تكتفي بمعالجة الخلل في هذه العلاقات، بل وصياغة استراتيجية عربية عملية تحول دون عودتها في دورات يبدو أن ليس لها نهاية.

وإذا كان علينا في هذا السياق، أن نستفيد من التجارب التاريخية، لتجاوز الأزمة الراهنة، والدخول في علاقات عربية عربية على أسس راسخة، فإن التجربة الأوروبية، تبدو مثلاً حياً أمامنا.

لقد خاض الأوروبيون، ضد بعضهم بعضاً، حربين عالميتين مدمرتين، خسروا فيها ملايين الأرواح. ولم يكن لهم من سبيل لتخطي واقع الكراهية والبغضاء بينهم إلا بالوحدة.

فإثر تراجع الصراع الرئيسي بين القارة الأوروبية والخارج، بعد تضعضع السلطنة العثمانية، وتوقف الحروب الصليبية، أصبح الصراع، يدور داخل القارة الأوروبية، وبين الأوروبيين أنفسهم، بين كبريات الدول، وبشكل خاص بين فرنسا وألمانيا.

أصبحت مشكلة أوروبا مع نفسها، بينما كانت مشكلة العرب مع القوى الاستعمارية. فشرارة الحرب العالمية الأولى، كانت بسبب قيام طالب صربي باغتيال ولي عهد النمسا. وكانت نتائج الحرب العالمية الأولى، قد تركت ملفات كثيرة معلّقة دون علاج، بحيث يمكن وصفها، أنها حرب لم تكتمل. وجاءت الحرب العالمية الثانية، لتتصدى لتداعيات الحرب الأولى، ولتفتح الأبواب لأعنف حرب مدمرة لا تزال البشرية، بعد قرابة ثمانين عاماً على نهايتها، تعاني كوارثها.

نحن إذاً، إزاء مقاربتين، تجعل الكفّة، لأول وهلة، ترجح العناصر الجاذبة لوحدة العرب، والعناصر الطاردة لفكرة الوحدة الأوروبية. بمعنى أن المقاربة الأولية لخريطة الصراع في الوطن العربي وفي أوروبا، تجعل الكفّة تميل بقوة لصالح العرب، خاصة أن العوامل التي تحرّضهم على الاتحاد بدت غير موجودة لدى الأوروبيين الذين يفتقرون إلى وحدة الثقافة واللغة والتاريخ والمعاناة المشتركة، وجميعها عناصر جاذبة لتحقيق الوحدة، غير متوافرة للدول الأوروبية.

هنا بالدقة، نطرح السؤال، لماذا تمكنوا من تحقيق وحدتهم وفشلنا نحن؟!.

لقد برزت محاولات منذ مطلع القرن العشرين لتحقيق وفاق أوروبي، ما كان لها أن تنجز بسبب تراكمات الكراهية، التي طبعت العلاقة بين الأوروبيين. لكن حالة الدمار التي نتجت عن الحرب العالمية الأولى، شكّلت نقطة تحوّل، حيث برزت الوحدة سبيلاً وحيداً لإنقاذ أوروبا من نفسها ولمنعها من المضي في اتجاه انتحار جمعي، ومنع الحروب. لكن تلك البدايات، لم تتمكن من منع الاندفاع النازي إلى أتون حرب عالمية ثانية، أكثر دموية وتدميراً.

أسفرت الحرب العالمية الثانية، عن تراجع دور أوروبا، وبروز نظام دولي مستند إلى ثنائية قطبي الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. ومع تطور الصراع بين العملاقين، بدأت تلوح بوادر الخطر السوفييتي على أمن أوروبا الغربية، التي اختارت الطريق الرأسمالي. وكان تحالفها العسكري والسياسي مع الولايات المتحدة الأمريكية، صمام الأمان في مواجهة التهديدات السوفييتية.

ولأن دول أوروبا مجتمعة، بفعل نتائج الحرب العالمية الثانية، باتت أطرافاً تابعة «للمتروبولتين»، المركز «الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي». وصارت أوروبا المنقسمة على ذاتها، إلى غرب وشرق، بحاجة إلى حماية عسكرية من خارجها. فتشكل حلفان: الناتو بزعامة الولايات المتحدة، وقد شكّل مظلة عسكرية واقية لحماية أوروبا الغربية، وحلف وارسو وضم الاتحاد السوفييتي، قبل سقوطه ودول أوروبا الشرقية. انتهى الحلف الأخير، بسقوط الاتحاد السوفييتي، وانهيار المنظومة الاشتراكية في بداية التسعينات من القرن المنصرم. وعلى الصعيد العملي، لم يتبق من حلف عسكري آخر، على الصعيد الكوني غير حلف الناتو.

إن نتائج الحرب العالمية الثانية، أفرزت ثلاث حقائق: تراجع الدور الأوروبي، الذي بات سبباً في انزياح دور الاستعمار التقليدي عن البلدان العربية. وشمول جميع بلدان أوروبا الغربية، بحماية المظلة العسكرية الأمريكية، وخضوع جميع هذه البلدان، لبرنامج إنعاش اقتصادي، عرف بمشروع مارشال. وكانت هذه العناصر الثلاثة، قد وفّرت الأرضية الملائمة لانطلاق مشروع الوحدة الأوروبية.

وجد الأوروبيون في تحقيق الاتحاد فيما بينهم، إنقاذاً للقارة الأوروبية من حروبها مع ذاتها، وكان اختيار الفحم والصلب، كقاعدة انطلاق نحو وحدة القارة الأوروبية أمراً حيوياً وجوهرياً لإنجاح مشروع الوحدة. فالفحم والصلب هما عصب الصناعة العسكرية، ووضعهما تحت سلطة أوروبية مشتركة، ستساعد كثيراً في تبديد مشاعر الخوف والقلق من عودة ألمانيا «العسكرية» إلى الواجهة. والمشروع من جهة أخرى، موضع ترحيب من الألمان، فقد وجدوا فيه فرصة تخلصهم من القيود التي فرضتها عليهم نتائج الحرب العالمية الثانية، باعتبارهم قوة مهزومة.

لقد ارتبطت الوحدة الأوروبية، بمفهوم الضرورة التاريخية، دون ارتباط بعوامل التاريخ واللغة والثقافة، وكان المشروع منذ بدايته براجماتياً بامتياز، ولم يكن معبأ بشحنات عاطفية. كانت المنفعة وحدها الجديرة بالاعتبار، في كل محطات تنفيذ المشروع.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى