مراسم وداعية للجملة الصحفية .. قبل الرجوع الاخير !!

بقلم : فهد الريماوي

وما من كاتبٍ إلا سيفنى      ويُبقي الدهرُ ما خطت يداهُ

فلا تكتبْ بخطكِ غير شيءٍ    يسركَ في القيامةِ ان تراهُ

الامام الشافعي

عندي ان الكتابة شوق، قبل ان تكون مهنة او موهبة او هواية .. هي شوق لقوة البوح ولذة التعبير ورشاقة الخاطر، وهي عزف على اوتار الابجدية، واسرار المعاني النثرية والاخيلة الشعرية.

عندي ان الكتابة وردة الفنون كافة، ورائدة الصناعات الابداعية، وسيدة الحواس الخمس، وحفيدة زرقاء اليمامة، وحصيلة اقتران الحرف المذكر بالنقطة المؤنثة، او احتكاك القلم الفاعل بالورقة المفعول فيها.

عندي ان الكتابة موقف .. فهي صلاة في محراب الصدق الوطني والانتماء القومي، وهي حالة وجدانية مهما كان موضوعها واقعياً وتقريرياً وبعيداً عن المشاعر الرومانسية، وهي مزاوجة تداخلية وتفاعلية بين اقصى ما لديّ من درجات الصراحة ومتطلبات المعارضة وثقافة الضمير .. فما سعيت من ورائها لنيل اجر او كسب جائزة او تحصيل وسام.

“في البدء كان الكلمة”.. وللكلمة عندي موفور التقدير والتكريم والاحترام .. فهي خفقة قلب عاطفية .. ومضة فكر نورانية .. شهقة قلم عفوية .. قطرة ندى صباحية، ليست قابلة للبيع او الايجار، وليس من حق كاتبها ان يهينها او يستعبدها او يغتصب شرفها ويلوث عفافها.

لاكثر من نصف قرن، هذا هو مفهوم الكتابة الصحفية عندي، وهذا هو شرطها ودستورها .. فهي رفيقة عمر، ورسالة حياة، ومبرر وجود، وفعل التزام مبدئي واخلاقي، ومنطلق مصداقية ومسؤولية ادبية، وحاملة قضايا وتطلعات سامية وريادية، وكاسحة ازلام واصنام وحكام فاسدين ومستبدين .. ويشهد الله انني ما هجرتها يوماً او غادرت ساحتها، الا تحت وطأة الضرورات القهرية من منع وقمع ومصادرة واعتقال لمرات عدة وفترات طويلة.

ولكن رغم كل العذابات والعقوبات، ليس هناك ما هو امتع واعذب من ان تنفق خمسين عاماً في صحبة القلم، وان تقضيها قيد الاقامة الجبرية في معاقل الصحافة، وان تمضيها – مع الاشغال الشائقة – في مغازلة الكلمة، ومشاغلة المقالة، ومحاورة الفكرة، ومنادمة الجملة المفيدة والرشيقة .. طلباً لتطابق المظهر والجوهر، وتكامل المضمون النبيل مع الشكل الجميل .. وفقاً لمقولة جورج اورويل : “علينا تحويل الكتابة في السياسة الى فن”.

غير ان الكتابة – على خصوصيتها – ليست لعبة فردية معزولة في برج عاجي، وليست وليدة مزاج فني او شهية انشائية منفصلة عن الواقع والمجتمع، وانما هي عملية جدلية وتشاركية بين الكاتب والقارئ، وبين النص والجمهور .. ولا شك ان مساحة التفاعل والتساجل بين هذين الطرفين هي التي تحدد قيمة النص المكتوب واهميته .. فلا دور للكلمة في غياب الجمهور، ولا اثر لها او سلطان ما دامت محفوظة في بطون الكتب، ومسجونة فوق رفوف المكتبات.

المؤسف هذا الاوان، ان الرياح العربية باتت تأتي بما لا تشتهي السفن المعرفية .. فقد جفت الاقلام، وافل عهد الصحافة، وانهار عرش الكلمة، ودالت دولة القراءة ومتعة المطالعة بعدما استفحل وباء الامية، واوشكت الكتابة – وحتى الثقافة عموماً – ان تصبح بدعة فاسدة، او سلعة كاسدة، او زائدة دودية فائضة عن الحاجة وبعيدة عن اللزوم والاهتمام.

في زمن التويتر والفيسبوك والانستجرام واخواتها .. زمن الاختزال والابتسار والنتف الاعلامية .. زمن الوجبات السريعة والاغذية الجاهزة المعدة للتناول “ع الماشي” .. زمن اباحية التعبير التي اوهمت كل صاحب حساب على مواقع التواصل الاجتماعي انه شاعر جهبذ او مفكر كبير، تشوهت الذائقة العامة، وتبهدلت لغة الضاد، ولم يعد للتجويد الكتابي والمقال الدسم والرأي الحصيف شعبية وازنة وحضور رحيب، ولم يعد للاقلام المخضرمة والموضوعات الجادة والمعمقة الكثير من المريدين والمتابعين والمتشوقين.

ولعل مما زاد الطين بلة والقلب علة، نضوب المواهب العربية، وتصحر القرائح والقدرات النبوغية، واحتجاب القامات الفكرية والادبية والفنية والصحفية السامقة .. وذلك جراء حالة التدمير الذاتي، والتقهقر السياسي، والتدهور الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والامني والاخلاقي التي تهيمن حالياً على الوجود العربي باسره، وتكاد تشطبه من دفاتر التاريخ، وتقحمه في زواريب الجنون.

لقد غاب عن دنيانا اجمل وافضل ما كان لدينا .. غاب نور العقل، وصوت الضمير، ونداء المستقبل، وارادة الحرية، وروح المسؤولية، وفريضة الكفاية والمساواة والعدالة الاجتماعية .. اكثر من هذا فقد جرى – مع سبق الاصرار والتعمد – تخريب نوابض العقل السياسي العربي وآلياته، كي لا ينتج وعياً سليماً، ولا يختار موقفاً سديداً، ولا يهتدي الى جادة الصواب وسواء السبيل.

وعليه، ماذا بقي لي ولامثالي من عواجيز الصحافة، وعتاقي الكتابة، وقدماء المحاربين بسلاح الكلمة، وسط هذا الظرف الشاذ، والحال المقرف والبيئة المرزوءة بانظمة خيانية ملعونة، وشعوب مُدروشة ومطحونة، ونخب انتهازية تلعب على كل الحبال، واقلام تكذب حين تكتب .. تزني عوض ان تصلي .. تبول على الورق بدل ان تفيض بمفردات الحق والصدق.

أليس من اللائق والجدير بنا ان نفيء الى الصمت، ونبتعد عن المسرح، ونتوارى خلف الكواليس، ونغادر مرابع الشهرة الى زوايا الظل والسترة ؟؟ ام ان مع العسرِ يسراً، وان الله مع الصابرين ؟؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى