«راجعين لبلادنا».. الفلسطينيون يقتربون من بلادهم بعد 70 عامًا من الهجرة
بعضهم جلس بجانب الخيمة التي حملت اسم بلدته الأصلية، وآخرون اختاروا لعب كرة السلة، فيما اجتمعت النسوة يستمعن للأهازيج والأغاني الوطنية، وصف ذلك بـ«بروفة» الحدث الأكبر الذي سيمكِّن الفلسطينيين من العودة الحقيقة لبلادهم التي هُجّروا منها منذ العام 1948.
كان ذلك يوم الجمعة ضمن فعالية «مسيرة العودة الكبرى» التي بدأت بالتزامن مع ذكرى «يوم الأرض» وستنتهي في ذكرى النكبة، لقد اختيرت لأول المرة أن تكون الفعالية بمشاركة مئات آلاف الفلسطينيين، وعلى مرمى حجر من قراهم وبلداتهم الواقعة خلف السياج الحدودي، وفيما تعامل الاحتلال مع هذه المسيرة بعنفٍ مفرط، أكدت الأحداث الدامية بالأمس على أن الفلسطينيين ما زالوا بعد 70 عامًا من تهجيرهم قادرين على إعادة ترتيب الأوراق بشأن حقهم في العودة.
«يوم الأرض» دماء بالقرب من «البلاد»
بمناسبة الذكرى الثانية والأربعين لـ«يوم الأرض» ولمآرب أخرى، انطلق الآلاف من الفلسطينيين نساءً وأطفالًا وكبار سن ورجال نحو عدة مواقع على الشريط الحدودي بين غزة ودولة الاحتلال الإسرائيلي في واحدة من أكبر الفعاليات الاحتجاجية شهدها يوم الجمعة الموافق 30 من آذار الماضي.
هذه الفعالية المستمرة – حسب المنظّمين – حتى ذكرى النكبة في منتصف أيار المقبل هي تطبيق عملي للقرار 194 الصادر عن الأمم المتحدة في 11 كانون الأول 1948، والذي ينص على حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى ديارهم التي هُجّروا منها، وهي سلمية بكل تفاصيلها، فيما كان رد الاحتلال عليها عنيفًا جدًا؛ أسفر عن استشهاد 15 فلسطينيًا، وإصابة 1416 آخرين بجراح مختلفة، كان أولهم الشهيد «عمرو سمور»، 30 عامًا، والذي كان يعمل في جني نبات «البقدونس» صبيحة ذاك اليوم في أرض زراعية قريبة من الحدود في بلدة القرارة، شمال خان يونس.
فقد نصبت مئات الخيام من أقصى جنوب القطاع حتى شماله، ومضت الجموع دون اكتراث للرصاص الحي وقنابل الغاز المدمع تطبق البرنامج السلمي، وشكلت الفعالية إثباتًا واقعيًا للوحدة الوطنية في القضايا الفلسطينية الجوهرية كحق العودة، فعلى الرغم من الخلاف الداخلي، وتعثّر المصالحة، شاركت كل الفصائل الفلسطينية، وبالأخص حركتي (حماس) و(فتح) في هذه المسيرات، تقول يسرى الرومي، 67 عامًا: «اليوم نحن أكدنا على حقنا في العودة إلى قرانا ومدننا التي هُجِّرنا منها عام 1948. سيأتي اليوم الذي نرجع فيه إلى ديارنا بفلسطين التاريخية»، وتضيف اللاجئة من قضاء الرملة لـ«الأناضول»: «مشتاقين لبلادنا. زهقنا (مللنا) من الاحتلال والعدوان على قطاع غزة».
فيما قال رئيس «حركة حماس» في غزة «يحيى السنوار» خال مشاركته في المسيرة: إن «مسيرة العودة الكبرى رسالة من شعبنا الفلسطيني للمحاصِرِين بأن يعيدوا حساباتهم (…) وعلى العالم أن يلتقط هذه الرسالة، فعاليات مسيرة العودة الكبرى لن تتوقف وستستمر (…)، حتى عودة الشعب الفلسطيني إلى أراضيه التي هُجر منها قبل 70 عامًا»، ويصل عدد اللاجئين الفلسطينيين بعد 70 عامًا على تهجيرهم من قراهم ومدنهم إلى نحو 5.9 مليون شخص، منهم نحو 1.4 مليون في قطاع غزة وحده.
إسرائيل «بتتكلم عربي»
في الساعات الأخيرة لانطلاق حراك مسيرة العودة، قامت المخابرات الإسرائيلية باختراق حسابات نشطاء المسيرة، ونشرت إعلانات كاذبة تتعلق بمواعيد انطلاق حافلات المشاركين، كما هدد الاحتلال الإسرائيلي شركات الباصات والنقل الخاصة وحذرهم من القيام بنقل المشاركين.
أما الأكثر غرابة في ردة الفعل الإسرائيلية تجاه الحراك، فكانت مخاطبة مسؤولين أمنيين كبار في دول الاحتلال، سكان قطاع غزة بالعربية؛ فقد غرد وزير (الدفاع) الإسرائيلي «أفيغدور ليبرمان» على حسابه في «تويتر» بالعربية: «إلى سكان قطاع غزة: قيادة حماس تغامر بحياتكم. كل من يقترب من الجدار يعرض حياته للخطر، أنصحكم مواصلة حياتكم العادية والطبيعية وعدم المشاركة في الاستفزاز»، وكان من أبزر ما أخرجه الإعلام الإسرائيلي هو قيام كاتب بارز يدعى «بن درور يميني» بكتابة مقال باللغة العربية في صحيفة «يديعوت أحرونوت» العبرية؛ يتودد به للمشاركين في مسيرة العودة بالقول: «نحن أيضًا ارتكبنا الكثير من الأخطاء، هناك ما يمكن إصلاحه، يجب إصلاحه، لكننا أيضًا نمد يد السلام، الرجاء اقبلوا بها، بدلًا عن وهم آخر، ومسيرة عودة أخرى»، وتابع القول: «يجب أن نجرب طريقة جديدة، طريقة فيها الأمل، رجاءً اقبلوا أيادينا الممدودة للسلام، نحن لا نريد المعاناة، نريدكم أن تعيشوا إلى جانبنا بسلام، ازدهار، رخاء واستقلالية. دعونا لا نقاتل بعضنا البعض».
كذلك استخدم الاحتلال أسلوب التحريض بالأخص ضد حركة (حماس)، فقد قال منسق عمليات الحكومة الإسرائيلية في المناطق المحتلة «يوآف مردخاي» في منشوراته على صفحته في «فيسبوك»: «حماس الإرهابية وصلت طريقًا مسدودًا، ولذلك ترسلكم إلى الواجهة، شركات النقل والباصات في غزة تنشر إعلانات عبر شبكات التواصل الاجتماعية عن برامج لنقل الأطفال والنساء إلى منطقة الحدود مع إسرائيل في إطار حملة إعلامية خسيسة تستغل الغزيين بهدف تحويل أنظارهم عن مشاكلهم الأساسية في القطاع، وعن المسؤولة الأولى عن هذه المشاكل»، ونقل عن الناطق باسم جيش الاحتلال «أفيخاي أدرعي» قوله: إن جيشه «لن يسمح لقادة حماس وكتائب القسام بإرسال الجموع للسياج وهم مختبئون داخل القطاع، وفي حال الحاجة سيرد الجيش باستهدافهم»، وشكلت استعانة «أدرعي» بفتوى تحرم الخروج في مسيرة العودة الكبرى موجة سخرية كبيرة؛ إذ قال «أدرعي»: إن فتوى لعضو هيئة كبار العلماء واللجنة الدائمة للإفتاء في السعودية الشيخ «صالح بن فوزان الفوزان» تؤكد أن المظاهرات والاعتصامات ليست من عمل المسلمين، وأنها من أمور الكفار، ولا يرضى بها الإسلام، كما نقل فتوى للشيخ «محمد بن صالح العثيمين» قال فيها: إن «الاعتصامات والمظاهرات العنيفة شر؛ لأنها تؤدي إلى الفوضى».
ولم يتوانَ الاحتلال عن التأكيد لمجلس الأمن الدولي على مساعي قادة حماس لخلق نزاع من خلال تنظيم سلسلة من المواجهات الواسعة، وجاء في رسالة السفير الإسرائيلي «داني دانون» إلى الأمين العام للأمم المتحدة «أنطونيو غوتيريش»: «نظرًا إلى الاستفزاز الذي نظم له وخططه الفلسطينيون خلال الأسابيع المقبلة، أؤكد حق إسرائيل في الدفاع عن سيادتها وحماية مواطنيها»، كما كلّفت إسرائيل جميع سفاراتها وممثلياتها الدبلوماسية بالتأكيد على أن المسيرة هي تحرك لحماس، ومن تعليمات الخارجية الإسرائيلية أن تقوم هذه السفارات بشيطنة المسيرة من خلال: «إبرازها كتحرك أقدمت عليه حماس عبر إغراء الأهالي في غزة بالمشاركة فيه، بتقديم الإغراءات المالية لهم، إذ طلب من الأطقم الدبلوماسية الادعاء بأن الحركة دفعت مبلغ 10 ملايين دولار حتى الآن من أجل إنجاح المسيرة».
الاحتلال «همجي» مع فعالية سلمية
«غزة مصدر التهديد الرئيس على الأمن الإسرائيلي في الوقت الحالي»، هذا ما قاله رئيس الأركان الإسرائيلي «غادي أيزنكوت» الذي أشرف على قمع إسرائيل مسيرة العودة الكبرى.
لقد أكد الفلسطينيون فعليًا على سلمية المسيرات بإقامة الاعتصام ونصب الخيام على مسافة 700 متر من الحدود الفاصلة، إذ تحدد قوات الاحتلال مسافة 400 متر كحد لمنع الاقتراب، وقامت الكثير من الفعاليات التي تؤكد على هذه السلمية، كاتخاذ مجموعة من الشبان أراضٍ فارغة وخطها كملاعب رياضية، وإقامة حلقات الأهازيج والأغاني الوطنية، وبالرغم من ذلك تعاملت قوات الاحتلال بعنف شديد مع المتظاهرين؛ مما أسفر عن استشهاد 15 فلسطينيًا، وإصابة 1416 آخرين بجراح مختلفة؛ فقد عجل رئيس هيئة أركان جيش الاحتلال الإسرائيلي «غادي آيزنكوت» بنشر أكثر من 100 قناص لإطلاق الرصاص الحي، وقال: «جيش إسرائيل سيواجه حركة (حماس)، ومن مصلحتنا – أي إسرائيل – الحفاظ على الواقع الأمني الحالي، على الأقل حتى نهاية العام»، وأعلنت كل المناطق المتاخمة للحدود مع غزة «عسكرية مغلقة»، ونشرت فيها تعزيزات كبيرة، وتؤكد المصادر الطبية الفلسطينية أن جيش الاحتلال الإسرائيلي تعمد استهداف المتظاهرين بالأعيرة النارية بشكل مباشر، في الرأس أو القلب أو الصدر، وفي الأطراف السفلية، ويعاني القطاع الصحي من تدهور غير مسبوق جرّاء الحصار الإسرائيلي المفروض على قطاع غزة، وكذلك العقوبات التي تفرضها السلطة الفلسطينية بقيادة الرئيس «محمود عباس» ضد غزة.
تُعقّب صحيفة «الإندبندنت» البريطانية على هذا الحدث بالقول: «الخوف الإسرائيلي الحقيقي ليس من عمليات (حماس)، وإنما من المشاركين في مسيرة العودة؛ فقد بات هذا النوع من الاحتجاجات يقلق السلطات الإسرائيلية بشكلٍ متزايد؛ فلا شيء يسبب الفزع في إسرائيل مثل مطالبة الفلسطينيين بحقهم في العودة لديارهم التي عاشوا فيها قبل سنة 1948. ومن بين هؤلاء اللاجئين، كان سكان غزة الأكثر قوة وإقناعًا، بما أن قراهم الأصلية لا تبعد إلا بضعة أميال عن حدود القطاع».
وتضيف الصحيفة: «المعاناة اليومية التي يعيشها سكان القطاع تحت الحصار المطبق تجعل من المفاجئ رؤيتهم يخصصون وقتًا للتفكير في الماضي. ومنذ تولي حماس زمام الأمور سنة 2007، عانى سكان القطاع من حصار اقتصادي خانق، ومروا بثلاث حروب مدمرة، كانت أخراها سنة 2014، وأسفرت عن مقتل 2500 شخص، وتدمير آلاف المنازل، وألحقت ضررًا كبيرًا بالبنية التحتية»، وذكرت الصحيفة: أن «الرد الإسرائيلي الهمجي على التحركات السلمية في قطاع غزة لم يكن بالأمر المفاجئ؛ فقد برر جيش إسرائيل استعراض القوة الذي قام به بأن حركة حماس قد تستغل هذه المناسبة لتنفيذ عملية».
حجم الحشود يكسر المعادلات المعتادة
«اتصل بي أكثر من مسؤول غربي ناصحًا بوقف مسيرة العودة لعدم زيادة التوتر والتصعيد على حدود قطاع غزة، لكن أشواق أبناء فلسطين للعودة إلى ديارهم تغلب كل التحذيرات والتهديدات»، هذا ما كتبه عضو المكتب السياسي لحركة (حماس) «موسى أبو مرزوق» على حسابه في موقع «تويتر».
لقد فشل مجلس الأمن الدولي قبل ساعات في الوصول إلى توافق على بيان يدين قمع قوات الاحتلال الإسرائيلي للحراك الفلسطيني في ذكرى يوم الأرض، بناء على طلب الكويت ذلك؛ إذ أفشل الأمريكيون إمكانية الوصول لهذا التوافق، ويأتي هذا الموقف في وقت أدانت مصر والأردن وجامعة الدول العربية الاحتلال لاستخدامه القوة المفرطة ضد المتظاهرين، كما ناشدوا بإنشاء لجنة تحقيق دولية، وهو ما دعا إليه المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة «أنطونيو جوتيريس» حين قال: إنه يجب «إجراء تحقيق مستقل وشفاف في عمليات القتل والإصابات التي وقعت بغزة يوم الجمعة».
في المحصِّلة يبرهن حجم الحشود التي شاركت في مسيرة العودة على الإصرار الفلسطيني الكبير على كسر المعادلات وانتزاع الحق بالعودة، وذلك باستخدام «القوة الناعمة» في إرسال رسائل سياسية للاحتلال والعالم أجمع، وإظهار الوجه الحقيقي للاحتلال حين استخدم القوة المفرطة تجاه متظاهرين عزل، ولتؤكد هذه الفعالية الضخمة وغير المسبوقة على أن الفلسطينيين قادرين على استعادة زمام المبادرة بعد أن أثبتوا أنهم طرف يؤثر ويجب الأخذ بمواقفه.
يقول الجنرال احتياط «رونين إيتسيك»: «لكن في الحقيقة إن حركة (حماس) نجحت في التسبب لأقوى جيش في الشرق الأوسط بالدخول في حالة استعداد بلغت القمة، وإرسال رئيس الأركان للإشراف على الحدث في حد ذاته هو إنجاز وعي لحماس»، وتابع القول في مقالٍ له في صحيفة «إسرائيل هيوم»: «إن نجاح حماس في حشد عشرات الآلاف سيكون إنجازًا رائعاً بالنسبة لها – سيكون اعترافًا بسلطتها، وأيضًا سلاحًا إلى يوم القيامة».