كأنّما العالمُ الغريبُ يهيمُ دون مستقَرّ له

بقلم : إنصاف قلعجي

” وحيداً في الظلام، أقلّبُ في رأسي العالمَ من حولي بينما أغالبُ نوبةَ أرقٍ جديدة، ليلة بيضاء جديدة في البراري الأميركية الشاسعة. في الطابق الأعلى، رقدتْ ابنتي وحفيدتي في غرفَتَي نومهما، وحيدتين أيضا: ميريام ابنتي الوحيدة ذات الأعوام السبعة والأربعين، وقد نامت بمفردها طيلة السنوات الخمس الماضية، وكاتيا ذات الأعوام الثلاثة والعشرين، ابنة ميريام الوحيدة، التي اعتادت أن تنام مع شاب اسمه تايتوس سمول. لكن تايتوس ميّت الآن، لذلك تنام كاتيا وحيدة بقلبها المكسور”..

بهذه العبارة يفتتح الروائي الأمريكي بول أوستر روايته ” رجل في الظلام” التي صدرت بالعربية عام 2010  عن دار الآداب بترجمة أحمد م. أحمد.  وقد حقق أوستر نجاحا كبيرا بعد صدور أول عمل له(مذكرات) ” اختراع العزلة ” ، تبعه ” ثلاثية نيويورك “. يقول :” أعتقد أن العالم مليءٌ بالأحداث الغريبة. حيث أن عالمنا الواقعي يخفي الكثير من الأسرار التي تفوق توقع أيّ منا. ومن هذا المنطلق نمت الثلاثية مباشرة من اختراع العزلة “. وكانت قد صدرت له رواية ” ليلة التنبؤ” 2003  التي كان لها حضور كبير في الساحة الأدبية العالمية، وترجمت للعربية عام 2008 . ثم ” حماقات بروكلين ” ورواية ” رحلات في حجرة الكتابة ” التي ترجمها سامر أبو هواش والتي سأعكف عليها لاحقا.

بطل رواية ” رجل في الظلام ”  أوغست بريل ناقد كتب متقاعد، مستلق على فراشه في الظلام، بعد إصابته في ساقه إثر حادث سير، يتعافى في بيت ابنته ميريام وحفيدته كاتيا. الظلام عالمه لكتابة ما يدور في خلده. يتخيل عالما موازيا لهذا العالم لا تكون فيه أمريكا في حرب على العراق بل مع نفسها في أمريكا الأخرى، أمريكا العنصرية. يضيف :”وبينما أرقد هنا في الفراش أرقب الظلام، الظلام الحالك الذي لا يتيح لك مجرد أن تتبين السقف، أشرع في استحضار القصة التي بدأتها ليلة البارحة. وهذا ما أفعله حين يجافيني النوم : أستلقي على فراشي وأقصّ على نفسي القصص التي قد لا تجدي نفعا، لكنها تمنعني – ما دمت مستغرقا فيها – من التفكير في أشياء أرغب في نسيانها. قد يكون تكثيف الانتباه مشكلة، بكل الأحوال، فغالبا ما ينحرف ذهني في النهاية عن القصة التي أحاول سردها لينحو باتجاه أشياء لا أريد التفكير فيها. وليس هناك ما يمكنني فعله. أخفق المرة بعد الأخرى، أخفق أكثر مما أفلح، لكن هذا لا يعني أنني لا أبذل قصارى جهدي..”.  وهو لا يدوّن حرفا ” إنه يقصّ القصة على نفسه في رأسه “. صوغ عبارات في منتصف الليل.. اختلاق القصص في منتصف الليل… كما يقول.

يبدأ برواية قصته عن أوين بريك، الذي، هو الأخر لا يدري هل هو داخل حلم أم هو واقع، وصحا ليرى نفسه داخل حفرة. وأنه يرتدي زيّ جندي… ”  لا يسعه أن يتذكر أنه خدم في جيش أو قاتل في حرب في وقت من حياته. “.. ” يحاول أن يتفحص احتمال أنه نائم في البيت على فراشه، عالقا في حلم تفوق واقعيته الحد الطبيعي، حلم كثيف بالغ الشبه بالحياة، حيث تذوب الحدود بين الحلم والوعي “.  أصوات نيران مدفعية تأتي إليه، أصوات بنادق آلية، انفجار قنابل يدوية… ثم كورس واهن من العويل البشري” إنها الحرب “. لكنها ليست الحرب على العراق كما يخبره سيرج سيرج الجندي الذي أخرجه من الحفرة.. يقول بأنها الحرب الأهلية في أمريكا،حرب أمريكا مع نفسها في العالم الموازي حيث لم يسقط البرجان، وأن انتخابات عام 2000 أدت إلى انفصال الولايات عن بعضها البعض، وهي الآن السنة الرابعة للحرب وعلى وشك الانتهاء.. ويخبره بأنه أي أوين بريك، هو الذي سيوقف الحرب.. وعليه أن يلتحق بفريسك الذي يريده أن يذهب إلى فيرمونت ليقتل الناقد بريل الذي يخلق الحروب في كتابته.. ليبدأ بريك برحلته الغرائبية إلى أمريكا.. حين يروي لزوجته فلورا ما حدث له، تعتقد أن مسّا من الجنون أصابه. لكنه يخبرها بأنهم سيقتلونه معها إن لم ينفذ الطلب، أي أن الرواية الموازية لعالم أوغست بريل لم تنته. لكنه رغم التهديدات يقرر أن يذهب للمؤلف ويقنعه بأن يوقف روايته وبالتالي يوقف الحرب.

يدرك المؤلف بريل أن بريك وزوجته يحاولان أن يجدا حلا بالاطلاع على حياة المؤلف عبر الإنترنيت الخاص بابنته ميريام. ” يبدو مهمّا أن بطلي يسعى إلى الإلمام بي قليلا، ليفهم أي نوع من الرجال هو مقدم على صدامه، وها هو الآن غارق حتى أذنيه في بعض الكتب التي أوصيت بقراءتها “(تشيخوف،كالفينو، وكامو). وتتفاقم الأحداث في ذهن المؤلف الذي يحاول أن يجد مخرجا لبريك ” العقل الذي اختلق الحرب كان مُعدّا لأجل شخص آخر، شخصية مختلفة أخرى، وهمية مثل بريك وفلورا.. لكن كلما مضيت قدما، أدركت شدة إيغالي في مخادعة نفسي. القصة تدور حول رجل يتوجب عليه أن يقتل الشخص الذي خلقه، فلماذا أزعم أني لست ذلك الشخص، إذ بزجّي نفسي في القصة تصبح القصة واقعية، أو بمعنى آخر أصبح غير واقعي، بل تلفيقا آخر من نسج خيالي.”..

يموت بريك بعدة رصاصات في جسده قبل أن يصل إلى المؤلف.  والطريف أن المؤلف قرر قتله مع أنه بدا لنا أنه متعاطف معه. لماذا قتله أوغست، هل لإكمال ما تبقى من قصته، وما تبقى مليء بالأحداث المتعلقة بزوجته سونيا التي طلقها من أجل امرأة أخرى وعاد إليها بعد تسع سنوات لتموت بعدها بالسرطان، ربما لا وقت لديه، يريد أن يشاهد أفلاما عديدة مع حفيدته التي تركت الدراسة في الإخراج السينمائي لتجلس مع جدها المؤلف يتابعان الأفلام الكثيرة. لكنه الان وبعد وفاة بريك أو قتله، يقرر أن كل القصص التي في ذهنه سيحاول مع حفيدته، أن يحولها إلى أفلام، كتّاب مساعدين، مبدعي قصص مساعدين ” بدل أن نشاهد خيالات الناس الآخرين “. في حين نعلم في النهاية أن صديق حفيدته تايتوس( الذي تمنى دائما أن يكون كاتبا) ذهب إلى العراق، لا لخدمة أمريكا كما قال وإنما لأجل المال. وهو ليس مرتزِقا، لا يريد أن يقتل أحدا وإنما يسوق شاحنة تنقل المؤن. “هل مات لأنه عشق حفيدتنا”. يقول أوغست لتايتوس قبل ذهابه للحرب ” عندما بدأ الغزو، قلت لي إنك ضده. “مروّع” كانت الكلمة التي استخدمتَها، فيما أظن. قلتَ إنها حرب مختلفة، ملفقة، أفدح خطأ سياسي في التاريخ الأمريكي…. وقلت إنه ينبغي أن يلقى بوش في السجن – بالإضافة إلى تشيني ورمسفيلد – وباقي عصابة المحتالين الفاشيين الذين كانوا يحكمون البلاد “.. لكن تايتوس يُقتل بعد قطع رأسه من قبل الإرهابيين والتمثيل بجثته التي عرضت على شاشة التلفاز.

ميريام، ابنة المؤلف أوغست بريل، تعاني هي الأخرى بعد طلاقها من زوجها. تعكف على التدريس والكتابة. كتبت مؤلفا عن حياة الشاعر الإنجليزي جون دون، اشتشهدت فيها بعبارة للشاعر كررها والدها في مؤلفه مرارا : ” كأنما العالم الغريب يهيم دون مستقر له” . وأوغست، والدها ، يطالع مخطوطا لها عن حياة روز هاوثورن ابنة الروائي والقاص الأمريكي ناثانيل هاوثورن.. التي تعرضت لمآس كثيرة في حياتها بعد وفاة والدها.. ويقف المؤلف أوغست عند الفقرتين الختاميتين في مذكرات روزا عن والدها، كتبتا سنة 1896  تصفان المرة الأخيرة التي رأته فيها:

” بدا لي أمرا مريعا أن يمسي رجل شديد البأس، مرهف نيّر كأبي، ضعيفا وواهنا، وفي النهاية هامدا وأبيض مثل شبح. وحتى حين كانت خطوته تتعثر وقامته تؤول خيالا، فقد كان لا يزال يحتفظ بهيبته كما كان أيام الزهو، متماسكا، بأوامر عسكرية ذاتية، بل أكثر نهوضا من ذي قبل. لم يتوان عن المجيء إلى طاولة العشاء في أبهى معطف أسود لديه…….. المرة الأخيرة التي رأيته فيها، كان يهم بمغادرة البيت في رحلة الاستشفاء التي أدت به فجأة إلى العالم الاخر…………….”.

فانتازيا غرائبية تدور بك بين هنا وهناك، بين ذاك الحلم الذي يجتاح حياة المؤلف داخل الرواية، وحياة بطل رواية، وواقع مرّ مليء بالتفاصيل المأساوية لبطلي الرواية، واحد يفكر والثاني ينفذ.. وكلا البطلين تائهان بين عالم يفيض بالكوابيس، وآخر أكثر بؤسا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى