حول مفهوم .. الناصرية
أطروحة لنيل الدكتوراه للباحث محمد فؤاد المغازي
بعد رحيل جمال عبد الناصر ظهرت أصوات تحذر من خطر الثورة المضادة على استمرار الناصرية، وعندما تم استبعادها من السلطة، ظهر إلي العلن حوارات تتناول الناصرية كتجربة وكمصطلح، فتعددت حولها الآراء، وأختلف التقييم من قبل المفكرين والباحثين والسياسيين، كما اختلفت نظرة الأجيال لها.
وتعود بدايات استخدام مصطلح ” الناصرية ” إلى أجهزة الدعاية الغربية، فهي أول من روج هذا المصطلح للإشارة إلى التيار والجماعات السياسية المرتبطة أو المتطلعة نحو القاهرة والمؤيدة لتوجهات الزعامة الناصرية المتمثلة في جمال عبد ناصر. ولأن الغرب كان يحمل لعبد الناصر من العداء أكثر مما يحمل له من الصداقة، ففسر هذا المصطلح _ آنذاك _ بأنه مصطلح يشمل النعوت التي أطلقها الغرب على جمال عبد الناصر، الذي لم يحبذ استخدام مصطلح الناصرية في حياته.
بعد وفاة الرئيس جمال عبد الناصر في 28/9/1970، أخذ هذا المصطلح في الانتشار واستخدم بصورة مكثفة كمرادف لثورة 23 يوليو ومجمل التجربة الثورية التي بدأت في 23 يوليو 1952 حتى وفاته في 28 سبتمبر 1970، كما تضم مصطلح الناصرية الجوانب الفكرية والتطبيقية للرئيس ناصر، والتي شكلت المظلة السياسية والعقائدية للمؤمنين بمشروعه وبتجربته.
غير أن مصطلح “الناصرية” قد خضع لتفسيرات وتحليلات متعددة. فهناك من يعتبر ” الناصرية ” مرادفا لمشروع النهضة الحديثة الذي بدء بمحمد علي وصولا إلى عبد الناصر، وأصبحت الناصرية تمثل بالنسبة لهم..”…تجسيدا لآمال الأمة وأحلامها وليست هناك من كلمة تعبر بدقة وإيجاز عن هذه الأحلام والآمال مثلما تعبر كلمة النهضة.”
ولا يجادل الناصريون حول الاتفاق العام على بدأ مشروع النهضة بمحمد علي باعتباره صاحب أول تجربة تنموية تولت فيها الدولة الدور المركزي لإنجاز مشروع النهضة، وفى حراسة جيش وطني، وفى إطار فكرى وثقافي تولى بناءه مفكرين أمثال حسن العطار وتلميذة رفاعة رافع الطهطاوى .
لكنهم لا يذهبون أبعد من ذلك، فالإشارة التي وردت في الميثاق الناصري توضح أبعاد الخلاف بينهم وبين مشروع محمد علي .. فالناصرية لم تتحدد أهدافها في تحقيق مطامع ومغامرات فرد، أو طبقة، ولا هي حركة مقطوعة الجذور الشعبية، وإنما تستند في شرعيتها على القبول الشعبي بها، بعكس تجربة محمد علي”…فإذا كان هناك شبه إجماع على أن محمد على هو مؤسس الدولة الحديثة في مصر، فإن المأساة في هذا العهد هي أن محمد علي لم يؤمن بالحركة الشعبية التي مهدت له حكم مصر إلا بوصفها نقطة وثوب إلى مطامعه.”
وهناك من المفكرين من يرى أن مصطلح الناصرية يشمل :” أولا شخصية إنسان، هو عبد الناصر. وهي ثانيا صورة دولة عربية، هي الكبرى بين بقية دول العرب، الجمهورية العربية المتحدة، وهي ثالثا منظمات عقائدية أكبرها الاتحاد الاشتراكي العربي داخل مصر، ورابعا هي جماهير عربية غير محدودة .. تملأ رحاب الوطن العربي الفسيح.”
ويذهب الزعيم العربي الجزائري أحمد بن بللا في تعريفه للناصرية بأنها تعبيرا عن أمة بكل فئاتها.. فيقول:” تقييم الناصرية أولا يقتضي تقييم الأوضاع العربية ما قبل ثورة يوليو 1952. الوضع يتلخص بوجود فاروق في مصر..السنوسي في ليبيا..وعبد الإله ونوري السعيد في العراق..وأيوب في السودان..يضاف إلي هؤلاء الإمام أحمد بن يحيي في اليمن، وبالفعل كان وضعا مزريا. فكانت الناصرية هي الانطلاقة الخصبة الأولي لفكرة العروبة وفكرة الوحدة. وكانت المواجهة الحقيقية الأولى مع الاستعمار.. أي مع النظام العالمي. وهذه ميزتها الأساسية كما أراها .
ثم كانت الفترة الناصرية، فترة إبداع وابتكار تاريخي علي طول الساحة. تحولت المبادرة التاريخية إلي أيدي العرب، وتحول الغرب للمرة الأولى للدفاع. وقد اكتملت هذه الفترة بالثورة الجزائرية ليس لأنهما برزا في تاريخ واحد..وإنما لأنهما مترابطتان عضويا، لدرجة يصعب معها الفصل بين الأولي والثانية.
الناصرية جاءت بمنظور أري أنه ما زال قائما، التحرر وتحقيق الاستقلال الشامل في مواجهة المشروع الإمبريالي للسيطرة. فالناصرية بهذا المعني كانت المبادرة الجدية والخصبة الأولي. وما عداها لم يكن هناك شئ.
هي الظاهرة الوحيدة التي برزت وقدمت للعرب شيئا مهما جدا ويمكننا اليوم بثقة متابعة طريقها ومسيرتها. فالناصرية صحوة عربية علي مستوي التحدي الكامن والمستمر منذ الحروب الصليبية. الثورة العربية هي الثورة الناصرية، وما عداها فهو زيف…ولذلك فالناصرية أيضا تيار تاريخي له حضوره المستمر..حتى الثورة الفلسطينية، مثلا ، ظهور فتح هو جزء من الفترة الناصرية، وهناك ارتباط عضوي بين الأصل والفرع…ثم في مجال الثورة العربية..أنا أشهد عليه…وأشهد عن أن فضله على الثورة الجزائرية لا ينكر…فالناصرية في تعريفها هي الوقفة العربية الأولي الصامدة الشجاعة أمام الغول الذي أسمه الاستعمار، وهذه الوقفة ما زالت مطلوبة وقائمة ومستمرة وضرورية لأن الاستعمار ما زال موجودا. ”
ويأتي تعريف د. أنيس صايغ للناصرية معتمدا بالأساس على دور مصر العربي فيقول:” الناصرية، شأن أي حقيقة تاريخية، تبدو أكثر وضوحا، ويغدو فهمها أسهل كلما نظرنا إليها من بعيد، أي من وراء امتداد تاريخي معقول. ليس لأن الوثائق تكون قد نشرت والأسرار قد كشفت…ولا لأن ما خلفها ناقضها وحاول استبدالها بأبعد وأغرب ما كانت هي تعنيه وتحمله…فتلمس الناصرية اليوم، في الثمانينات، صورة متكاملة وجلية مما كانت عليه قبل عشر سنوات، وبالذات حينما فقدنا المعلم الأكبر للناصرية…وضعت الناصرية في مكانها الصحيح مصريا وعربيا ودوليا، سياسيا واجتماعيا وثقافيا. عشر سنوات أعطت الناصرية للفكرة في معظمها، المعني، والتحقيق، والمصداقية…فأضحت أقوي تعبيرا عن نفسها وأشد مضاء في فعلها وأوسع انتشارا في جماهيرها. وكأننا اليوم ونحن نعاني من آلام وآثام إقصاء الناصرية عن السلطة ، نتمتع أكثر من أي وقت مضي بقوة الناصرية وسعة امتدادها عربيا وعالميا، وهذا هو المغنم الكبير لفكرة سياسية أن تخسر حكما ولكن تربح جمهورا، أن تهزم كنظام سلطة فتتحول إلي إيمان أمة .”
كذلك نظر إلي الناصرية بخصوصية وتفرد لكونها النموذج الوحيد في التنمية الاقتصادية ذات التوجه الاشتراكي يخالف ما جري في الاتحاد السوفيتي وفي إطار مجموعة الدول الاشتراكية الشعبية. فالناصرية في رؤية المفكر الماركسي مكسيم رودنسون “…ثمة مواقف أكثر تعقيدا وأكثر جدية تجاه الناصرية التي تستحق أكثر من وقفة تأمل. أليست هي التجربة الوحيدة في العالم الثالث لبناء دولة واقتصاد يسير إلى الأمام بنتائج مذهلة في اتجاه التشريك، منذ عدة سنوات وذلك خارج مثال ماركسي لينيني ؟
وهناك من جيل الشباب الناصري _ الذي ظهر في السبعينات _ من يري أن الناصرية تمثل “ماركسية العالم الثالث، وهذا الاتجاه تبلور من خلال القراءة في الأدبيات الماركسية، والراديكالية ، ومحاولته البحث عن صيغة وطنية وعربية للاشتراكية، ويعتبر الناصرية هذا الشكل، والصيغة المصرية والعربية لها.”
كما فتح التعريف بالناصرية الباب أمام مقولات مهمة كمقولة دور الفرد في التاريخ، وشخصية الزعيم الكاريزمية، وإمكانيات المؤسسة العسكرية خاصة في العالم الثالث على قيادة عملية التنمية والتحديث وأعتبرها المكونات الرئيسية للناصرية، فهي واحدة من أهم التجارب التي تكاملت فيها تلك العناصر السابقة فقد “…حظي النظام الجديد في مصر منذ أيامه الأولى باهتمام الكتاب والباحثين السياسيين في العالم، بحيث يمكن القول، بدرجة عالية من الدقة، أن نظام 23 يوليو كان في مقدمة النظم السياسية في العالم الثالث التي خضعت للدراسة والتحليل المسهبين من منطلقات فكرية مختلفة، ومستويات تحليلية وأكاديمية متباينة.
ومن وجهة نظر علم السياسة، وخاصة فرع السياسات المقارنة…فإن ظاهرة الناصرية نفسها لم تكن مجرد ” موضوع ” لدارسي السياسة، بالمعنى المبسط المباشر، ولكنها كانت أيضا موحية بأبعاد ومتغيرات جديدة أخذت تفرض نفسها على التحليل السياسي المقارن…وتحت تأثير الدور المتميز الذي أخذت تلعبه الطبقة الوسطي لبلاد العالم الثالث…فكان النظام السياسي المصري في مقدمة النماذج التي اعتمدت عليها تحليلات ” مورو برجر” و ” هالبرن” و”جاك بيرك” و” بيل وليدن”، وإن انطوت في أغلبها على نقض التحليل الطبقي الماركسي الذي يركز على العلاقة الصراعية بين الطبقة البرجوازية العليا، والطبقة العاملة الدنيا.”
أما د. عبد الباسط عبد المعطى فقد أشار إلي الدراسات والكتابات الغربية التي استهدفت الإساءة إلي الناصرية عبر تطويع الأطر المنهجية والرؤية السياسية بقصد التشهير بالتجربة..”…فالمتتبع والمسلح برؤية منهجية يمكنه رصد عدد من الملاحظات :
1_ أن عددا من الكتابات لا يستهان به رفع راية الموضوعية والوطنية ليخفى خلفهما مصالحه ومواقفه وثأره الأيديولوجي من الثورة وقيادتها. لكن أصحاب هذه الكتابات داسوا بالفعل هاتين الرايتين عندما فضحتهم لغتهم ولغوهم…لقد استخدم هؤلاء عدة حيل منها التشديد على التفصيلات والوقائع الجزئية، الفردية والشخصية غالبا، وبالتالي اختزلوا ” الثورة الاجتماعية ” في أبعاد نفسية واتجاهات فردية…ولا يخفى على كثيرين دور تفتيت الواقع ووقائعه وتجزئتها، في تزييف الوعي بفهمه وتقويمه وهذا الاتجاه كثيرا ما تبناه المنظرون البرجوازيون للثورات الإنسانية.
2_ ثمة نوع آخر من الكتابات بالغ في إظهار الإيجابيات، أو بالغ في السلبيات…وهذه تكشف عن وهن منهجي…وهناك من قرأ معطيات الثورة بعيون أجنبية مغرضة، إيجابا أو سلبا…ويذكر في هذا الصدد أولئك الذين اسقطوا رؤاهم الأيديولوجية بطريقة جامدة على حركة الثورة وعملياتها وآرائها، فلونوا الأداء بألوان هذا التعامل الأيديولوجي، فكانت الثورة إما إيجابا على طول الخط أو سلبا على طول الخط تقريبا.”
ويعرف الماركسي د. إسماعيل صبري عبد الله بقوله أن..” الناصرية قبل كل شيء ممارسة سياسية تحكمها أهداف ومثل عليا كما أنها تفرز من وقت لآخر وثائق تأصيلية معرضة عن بناء مذهب متكامل. ولهذا الفهم لطبيعة الناصرية أهمية خاصة في نظرنا ألا وهي كونها حبيسة لنصوص تأثرت بظروف صياغتها وقد يتقادم بعضها في بعض أجزائه على الأقل، في حين أن الممارسة تتحمل غالبا إمكان القراءة الجديدة في ضوء ظروف قد تغيرت بغية الاهتداء بها في التعامل مع الواقع الجديد. وهذا كله لأن تلك الممارسة لم تكن في جوهرها آنية خالصة بل كان يحكمها ويحركها دائما أهداف ومثل عليا لها طابع الاستقرار وطول البقاء.”
ومما يدعوا إلي الدهشة والتعجب..أن الرئيس السادات هو الآخر كانت له رؤيته واجتهاده الخاص للتعريف بالناصرية وتحديد المعاني والأهداف التي يتضمنها مصطلح الناصرية. فأمام اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي قال السادات:”…حينما نسمع وصف الناصرية، فإننا ندرك على الفور ما يرمز إليه هذا الوصف..نعرف انه رمز إلى ثورة التحرر..نعرف انه رمز إلى حركة التحول الاجتماعي..نعرف انه رمز لأمل وتصميم هذه الأمة على تحقيق وحدتها…بل نعرف أن هذه الرموز وراءها إجتهادات أصيلة وعميقة حاولت على أساس منهجي واضح بالتجربة والخطأ معا، أن تحقق وان تنجز، حتى نكاد نقول وبلا تزييف أنه أصبح لنا منها نظرية في التطور لها سماتها ولها خصائصها، وهى لا تمارس دورها في عزلة عن غيرها من الأفكار، وإنما كل ما تدعيه لنفسها أن لها كما قلت سماتها ولها خصائصها.”
لكن ماذا تعنى الناصرية بالنسبة للجيل الجديد من الناصريين؟
أحد قيادات العمل الناصري الشابة في مصر حمدين صباحي أعتمد في تعريفه لمصطلح الناصرية بأنها ” نسق فكرى متكامل متسق متنام يحدد فهما لمجتمع معين في فترة تاريخية معينة بغرض تغيير هذا الواقع . ويتضمن هذا الفهم تحديد المشكلة ( أو المشكلات) الجوهرية للواقع…قوى التغيير والقوى المضادة…إدارة التغيير…أسلوب التغيير .
على ضوء هذا التعريف واعتمادا على ما قاله عبد الناصر سنجد أن الناصرية تتوافر لها أركان النظرية الثورية على النحو التالي:
أولا: المشكلة الجوهرية للواقع العربي مشكلة واحدة ذات عدة أبعاد..الاستعمار والصهيونية، الاستبداد والتسلط، التخلف والتفرقة الطبقية، التجزئة والإقليمية.
ثانيا: الحل الجذري واحد ذو آفاق متكاملة ثلاثة هي الحرية والاشتراكية والوحدة .
ثالثا: قوى التغيير هي القوى صاحبة المصلحة في الثورة وهى تحالف قوى الشعب العامل يقوده الفلاحون والعمال ويضم كافة القوى العاملة. والقوى المضادة هي حلف الاستعمار والصهيونية والرجعية العربية المتمثلة في كبار الملاك والرأسمالية وكبار رجال الدولة.
رابعا: أداة التغيير التنظيم القومي الثوري بإطاره الجماهيري (العام) والتنظيم الطليعي (الخاص) داخله.
خامسا: أسلوب التغيير..الثورة الشاملة التي تتداخل فيها مهام التحرر الوطني بالتطبيق الاشتراكي بالتوحيد القومي.”
أما الأستاذ محمد حسنين هيكل..فلا يحبذ استخدام مصطلح الناصرية مبررا ذلك بقوله ” أنني أولا أبدي اعتراضي على حكاية الناصرية..هناك ناصريون باليقين ولكن ليست هناك ناصرية بالتأكيد..عندما تنسب شيئا إلي شئ، فأنت تتكلم عن قانون وجمال عبد الناصر عبر عن مخزونات تاريخية للشعب المصري ولكنه لم يضع قانونا، وهو أيضا صنع تجربة ضخمة جدا وأرسي مبادئ تاريخية هائلة وأجري تحولا تاريخيا ولكن هذا كله أسلوب في التنفيذ وليس نظرية في الفكر.”
ويصطدم موقف هيكل من مصطلح الناصرية برؤية قيادي ناصري من جيل الشباب هو الأستاذ أحمد الجمال الذي لا يتفق مع مقولة هيكل ” هناك ناصريون..وليس هناك ناصرية ” فيقدم نماذج من مراحل تاريخية حملت مسميات قيادات تلك الفترات.
فذكر الجمال من تاريخ مصر القديم مصطلح ( التحامسة ) نسبة إلي تحمس، و( الرعامسة ) نسبة رمسيس، و (البطالمة ) نسبة إلي بطليموس أحد قادة الإسكندر الأكبر، وفي تاريخ مصر الوسيط كان هناك ( الفاطميون ) نسبة إلي فاطمة الزهراء ابنة الرسول، ( والأيوبيين ) نسبة إلي صلاح الدين الأيوبي، والعثمانيين نسبة إلي عثمان.
وفي العصر الحديث فيطلق على أسرة محمد علي ( العلويين )، ويؤرخ للثورة التي قادها أحمد عرابي (بالثورة العرابية )، كذلك حملت الانشقاقات التي حدثت في حزب الوفد الاسم الأول من أسم الزعيم المصري ( سعد زغلول ) فسموا حزبهم ( بالسعديين ).
وعلى الجانب الديني عرف من اتبع الإمام مالك ( بالموالك ) وجري نفس الشيء مع الإمام الشافعي فعرفوا أتباعه ( بالشوافع ) وعرف أتباع الإمام حنبل ( بالحنابلة )، ولم يقتصر هذا على المسلمين بل شمل الأقباط المصريين فهم ( اثناسيوسيون ) نسبة إلي اثناسيوس.
عبر هذا الاستشهاد التاريخي يصل الجمال إلي القول:” أن الشعب المصري في صميم تكوينه يقبل نسبة العصور إلي أشخاص أو أسر ويقبل نسبة الأفكار إلي قادته سواء كانوا قادة دنيا، أو قادة دين. ومن ثم من يستبعد اتخاذ ( الناصرية ) مصطلحا للدلالة على حقبة، أو فكرة اعتمادا على احتمال استهجان الشعب لذلك يلزمه أن يبدي رأيه في هذه الشواهد من الوجدان الشعبي.
كما يصل أحمد الجمال إلي تحديد عناصر الانتساب إلي الناصرية بقوله :” أ_ التمايز ضمن تيار الانتماء لثورة 23 يوليو 1952…كان الفرز داخل الشعار العريض (ثورة يوليو) واردا ومنطقيا بحكم متغيرات تلك المرحلة وازدادت حتمية الفرز (ناصريا) بعدما أنقض السادات ونظام حكمه على (الناصرية)…إذن طرحت الناصرية أولا للفرز بين المنتمين لثورة يوليو، ثم تحول الأمر إلي المطابقة الكاملة بينهما وبين ثورة يوليو.
ب_ التمايز داخل فصائل اليسار المصري، إذ انفتح جدل طويل بين الماركسيين والشيوعيين وبين أولئك الذين ادعوا بأنهم ناصريون فمنهم من قال أن اليسار واحد قوامه الاشتراكية العلمية…وأن الاجتهاد في التطبيق لا تلغي وحدة الأصل…ومنهم من ذهب إلي أن الناصرية ليست شيئا يعتد به في نظريات الفكر، أو مذاهبه، بل لقد صورها أحدهم بأنها (ثلج مقلي على النار)…أو حكم البرجوازية الصغيرة، وتأميم الصراع الطبقي، وحكم ( العسكريتارية )”.
ج_ وعلى صعيد رقعة الوطن العربي، كان الفرز والتمايز مبكرا عن مصر. فوجد مصطلح الناصرية طريقه إلي الأدبيات السياسية في وقت مبكر على نطاق الأفكار والأحزاب القومية من بعث، وقوميين عرب، ووحدويين اشتراكيين، وماركسيين قوميين، بل وطائفيين قوميين…وبينما كانت الحملة تشتد في مصر على الناصريين والناصرية، في الوقت نفسه تضافرت فيه كثير من القوي القومية على العمل لفرملة النمو الناصري المنظم بين صفوف الجماهير العربية. حدث الالتقاء بين الناصريين في مصر وأقرانهم من الوطن العربي على أرضية فكر عقائدية واحدة هي الناصرية*.
ويخلص أحمد الجمال إلي القول:” كان لدي جمال عبد الناصر قانون للحركة يعد تعبيرا ذاتيا عن مجتمعاتنا ومحصلة لتجاربنا ولدي الناصرية قانون للحركة تجاه التحديات المختلفة ابتداء من تحدي الطبيعة، وليس انتهاء بتحدي استغلال الإنسان لأخيه الإنسان وسواء اصطلح البعض على وصف هذا القانون بأنه نظرية، أو أنه منهج فأن ما يعنيني هو أن هذا القانون ما زال صالحا للتعامل مع تلك التحديات.”
ثم يأتي إسهام الأستاذ فريد عبد الكريم لسد الثغرة الفلسفية الغائبة في مصطلح الناصرية فيقول:” ليس من الصحيح أن الردة على ثورة 23 يوليو بسبب غياب النظرية أو التنظيم لهذه الثورة. فليس صحيحا أن الناصرية تفتقد إلي النظرية، إن المشكلة تكمن في القائلين بغياب النظرية في الناصرية يذهبون بقولهم هذا إلي القياس على النظرية الماركسية أو الذين يتوسعون في معني مصطلح النظرية فيشترطون توافر فلسفة لها قوانين ثابتة وعلاقات داخلية وظاهرية بين هذه القوانين ومنهج للتطبيق…إن الذين يأخذون على الناصرية أنها بلا نظرية يخطئون ويتعسفون في تفسير الأمور فالميثاق الوطني كان إطارا نظريا للعمل الوطني رأى عبد الناصر أن يعاد النظر فيه كل فترة زمنية لإيمانه بحق الأجيال التالية في أن تضيف لتجربتها ما تتحصل عليه من خبرات العمل الوطني…الناصرية لم تكن في حاجة إلي فلسفة جديدة مبتكرة أو حتى مستعارة فلدينا الفلسفة الإسلامية التي تشكل الأساس الثابت لبنياننا الثقافي والفكري والوجداني.
وأن انصراف عبد الناصر عن التفكير الفلسفي لم يكن هربا من الدخول في هذا المجال…ولكن كان لحكمة منه يحكمها عاملان.
العامل الأول هو الاهتمام وإعطاء الأولوية للقوانين الثابتة اللازمة لتغيير المجتمع ثوريا وتحقيق أهداف الجماهير وهذه أمور تحتاج إلي تركيز الطاقات الذهنية والحركية والديناميكية في المجتمع بأسره الأمر الذي لم يكن ليتسع لشغل الأذهان بمشكلات التفكير الفلسفي.
العامل الثاني هو أن الأساس الفلسفي للناصرية هي الفلسفة الإسلامية الصحيحة التي جعلت من الإسلام رسالة استهدفت شرف الإنسان وسعادته…ومن ثم فإن الردة التي حدثت لم تكن لغياب النظرية بدليل أن التيار الناصري ما زال موجودا في جوف المجتمع حتى الآن وما زال الطرح الناصري للمشكلات الراهنة موجودا انطلاقا من النظرية الناصرية.”
أما مصطلح ” الناصرية ” الذي ورد في وثائق الحزب العربي الديمقراطي الناصري فقد جاء على النحو التالي :” كانت الناصرية في البداية وفى النهاية تجسيدا لآمال الأمة وحلمها..وليست هناك من كلمة تعبر بدقة وإيجاز عن هذه الأحلام والآمال مثلما تعبر كلمة النهضة.”
وفى موضع آخر أضيف إلى التعريف السابق تكملة تقول بأن ” جوهر الناصرية هو بعدها القومي ممتزجا ببعدها التحرري وبعدها التقدمي، لا حدود بينها، ولا انفصال.”
إن أهم ما يشير إليه مصطلح الناصرية _ من وجهة نظرنا _ هو أن الناصرية قدمت من خلال تجربتها على المستوى الفكري والتطبيقي نموذجا متميزا عن تجارب أخري أقدمت على تغييرات للواقع الاجتماعي السابق عليها، مما جعلها ومن خلال عملية القياس على تلك النماذج والتجارب السابقة أن ما أحدثته من تغييرات جوهرية تخص تطور وأمن المجتمع المصري بالدرجة الأولي يجعلها على درجة كبيرة من الاستحقاق أن يكون مرادف مصطلح الناصرية هو مصطلح مشروع النهضة.
وعليه فالناصرية يمكن تعريفها بأنها حركة تغيير تاريخي في اتجاه تحقيق مشروع النهضة لمجتمع الفقراء، وسيظل النموذج الناصري واحدا من بين النماذج المطروحة كحل لمشكلات مجتمعات العالم.