الرؤى الجماهيرية ومستقبل البشرية.. (نحو خطاب ثقافي فكري جديد)
بقلم : إسماعيل أبو البندوره

1- الرؤى الجماهيرية تتصارع راهنا مع خطاب العولمة الذي تحول على أيدي قوى الهيمنة إلى أداة للطغيان والهيمنة الثقافية ومحو الآخر وخصوصا العالمثالثي الجنوبي .
ومما لاشك فيه أن أصحاب خطاب الهيمنة يملكون الأداة المادية الهائلة والميديولوجيا لتسويق وتسويغ معطيات خطابهم ، لكنهم على ارض الواقع يفتقدون إلى الفضاء و الأداة المعنوية والرمزية التي تؤهلهم لتبيئة وتوطين هذا الخطاب في مجتمعات العالم الأخرى المغايرة . ذلك أن مثل هذا الخطاب وكما يتبين من مجمل معطياته هو في حقيقته خطاب إفناء ومحو واستتباع وانسياق وإلحاق وهو يفتقد في جوهره إلى المعنى الإنساني والإطار الأخلاقي الذي يجعله خطابا للبشرية ومن اجلها .
ولذلك فان الشعوب التي أصبحت تعي أخطار واكراهات وعماءات هذا الخطاب كانت ولا تزال تبحث عن رؤى جديدة ومدارات للتحرر من أثقاله وتريد العودة إلى المبادئ التي تأسست عليها وعلى أرضيتها أفكار العدالة والمساواة والتكافؤ وفكرة البيت الإنساني المشترك بمعانيها السامية بصيغ جديدة ومن خلال خطاب جديد يجتمع فيه ما هو عالمي مع ما هو قومي محلي وإقليمي وتتلاقح فيه الأفكار وتتحاور الخصوصيات حوارا حضاريا اتفاقيا ووفاقيا لا يسعى إلى فرض الهيمنة والاستعلاء والمركزية من أي نوع وتحت أية دوافع ومبررات .
انه خطاب حوار الشعوب والحضارات المتمسكة بخيارها الإنساني المتعالي لا خطاب الافتراس وصراع الحضارات ونهاية التاريخ . لا بل انه خطاب التاريخ الجديد المتسارع الذي لابد أن يتأسس على حقائق إنسانية – معرفية متقدمة ولا يقوم بأي حال على أرضية العقد التاريخية والنفي والإقصاء أو المركزية الأوربية – الأمريكية التي لا ترى الآخر إلا تابعا وموضوعا للاختبار ولا ترى الحقيقة إلا داخل أسوار وسياجات هذه الحضارة المتمركزة والمغتبطة بظفراويتها وانتصارها الملتبس وسعيها إلى الاستقطاب والاحتواء والهيمنة .
2- تمتلك الجماهير على امتداد العالم ثقافاتها الخصوصية وهوياتها الثقافية ، وهي تجد نفسها دائما ذات إمكانات ومقومات ورأسمال رمزي تستطيع أن تستظهره وتتقدم به لمحاورة العالم .
إنها من الناحية التاريخية لا تجد نفسها في حالة فراغ تاريخي ووجودي حتى وان وجدت نفسها مقهورة ومبتورة عن سياقات الحضارة والعصر ولذلك تراها تتقدم بأشكال مختلفة من الرؤى والإشارات والمبادرات الدّالة على وجودها ولا تزال تبحث في كافة المجالات والأطر الإقليمية والعالمية عن منافذ واختراقات تستطيع من خلالها أن تطل برأسها وتقول قولها ورأيها في مسائل الحياة والوجود والعلاقات بين البشر والدول .
إنها الطاقة الفكرية والروحية التي لا ولم تنضب ولم تتبدد تحت مطرقة الانحرافات العولمية ولم تتمكن قوى الهيمنة من إفراغها ومحوها وتبديدها وإخراجها من حلبة الوجود العالمي ومدارات التداول .
ولذلك تراها تطل الآن ” وبإيمان أعمق في أطروحتها ونزوعها “على كافة مناحي وظاهرات وتظاهرات الحوار العالمي وأصبحت تحقق وجودا وحضورا لافتا في المنتديات العالمية وخصوصا بعد أن أمعن الغرب الأمريكي الأوروبي في تسويد بربرية جديدة مستحدثة وإبادات ثقافية أصبحت تقلب الأسس والمرتكزات والعلاقات الإنسانية وتريد أن تسّود نمطا ونموذجا اخضاعيا يجعل الشعوب مادة وموضوعا للتاريخ لا ذاتا له .
لم تصمت الجماهير ولم تستكن وقاومت بالحيلة حينا وبالتجابه أحيانا أخرى حتى وان وهنت قواها وتراجعت تدخلاتها ومبادراتها وازدادت الضغوط عليها واشتدت محاولات إخراجها من التاريخ . وبقيت على قولها وقناعتها وإيمانها التاريخي بأن الحرية سوف تنتصر يوما حتى وان طال الزمن . ورسّخت في وعي العالم أن نضالها من اجل الحرية و بقائها في مضمار الحرية ومطلقها “حتى وان كان حلما” هو أفضل من رضوخها واستتباعها وانسحاقها وإلحاقها بمتطلبات الهيمنة المغطاة كذبا وزيفا بقشرة العولمة المؤمركة الواهية .
3- إنها ثقافة الجماهير المؤسسة على قيم الحرية والإنسانية إزاء ثقافة الاستعمار المؤسسة على الهيمنة والاستتباع وانتهاك حرية الشعوب ومصادرة قرارها .
ولذلك هي في حقيقتها تعبير معرفي عن رؤية تاريخية وليست موقفا سياسيا مرحليا أو عابرا يمكن أن يزول ويتلاشى . إنها ثقافة ملازمة لحياة الشعوب وتاريخها وتعبيرا عنها ومفصحة عن نزعاتها ولذلك تراها لا تموت ولا تتقلص وتبدو عصية على المحو والانمحاء .
ذلك أنها تحيا في عقل الشعوب منذ ابتداء وجودها وهي جزء لا يتجزأ من تكوينها العقلي ومفاهيمها الاجتماعية والسياسية ، وهي ثقافة تحيا بهذا الاعتقاد الراسخ إنها ليست ثقافة طارئة أو ضد تاريخية أو معادية للحرية أو أن لها نزعات واحتمالات في الهيمنة على الآخر وتقويض اسس حياته وحريته .
وهذا ما يعطيها مشروعيتها التاريخية ويزيد في دعاتها و أتباعها ومناصريها وفيها ما يجذب الشعوب ويعطيها الأمل في الحياة والبقاء والاستمرار التاريخي .
وهي ثقافة ضد الهيمنة بكل ألوانها وتجلياتها كما إنها ضد قيم ثقافة الهيمنة مهما بلغت هذه القيم ووصلت في فرض عماءاتها واستساغتها في بعض أطراف العالم وبهذه المثابة هي ثقافة تريد أن تستبدل الهيمنة بالحوار الحضاري وتسعى إلى تسويد قيم إنسانية جديدة يرتكن إليها العالم في إنشاء علاقات جديدة تقوم على مبادئ العدل والمساواة والتكافؤ وارتقاء الإنسان .
وهي ثقافة رفض ومقاومة لثقافة الاستعمار والإخضاع ذلك أن لها مسعى في وقف هذه الموجة الضارية من الرؤى الاستعمارية الجديدة والمشاريع المرافقة لها لا بل إنها تسعى إلى إفراغ هذه الرؤى من محتواها اللاعقلاني واللاانساني بالمقاومة والمزيد من التصدي .
4- تحتمي ثقافة الجماهير والرؤى الطالعة منها بخصوصياتها ومكونات ورموز حضارتها وانطواء ثقافاتها وحضاراتها على تراث هائل من المعطيات والمنظورات الحضارية بمواجهة عملية الطمس والتهميش والهيمنة الثقافية التي تريد أن تؤسس للحوارات والانشغالات المعرفية الكونية وان تشغلها بقضايا تبدو أحيانا في غاياتها ومضامينها عملية استلاب واستحواذ على الأفكار الكونية وتدوير لها لكي لا تكون هناك ثقافات تحاورها أو تضع قضاياها وأسئلتها القومية في مواجهتها .
انه تلاعب بالعقول من خلال التحكم بها وضبط تفكيراتها وتحديدها وحصرها ووضع عناوين مركزية إكراهية لأي حوار يدور في العقول العالمية .
ويلتقي في ذلك ما تفرضه قوى الهيمنة من ثقافة الصورة الحسية التي تدهش العقل ولا تعطيه الفرصة للتأمل وأخذ العبر وتحقيق الادراكات المعقولة والمقبولة والمطلوبة ، وهذا العالم المصوّر قصديا هو محاولة لإحباط العقل وتحطيمه وإجباره على التخلي عن اشتغالاته بأن يكون مصدرا للتفكير وتكوين الادراكات .
ثقافة الصورة” المقدمة من قوى الهيمنة” تقوم على الاختزال وتعطيل العقل وتحاول من خلال الإفصاح المباشر أن ” تلجم العوام عن علم الكلام ” كما كان يقول أجدادنا .
انه غزو للثقافة والعقل يريد حصره في مساحات ثقافية مضبوطة وموجهة امبرياليا مركزيا وهو تعطيل لأدوات المعرفة والأجهزة المفاهيمية السائدة كما إنها تهميش للثقافات الأخرى التي لم تصل في أطوار تطورها إلى هذه المرحلة من التكيف مع ثورة المعلوماتية بصورتها الضاغطة والقهرية .
5- الرؤى الجماهيرية ترتبط بالمستقبل وتسعى لبلوغ مستقبل أكثر وضوحا وتكافؤا وأقل هيمنة وتسلطية ولذلك فإنها ترتكز على رؤى ومنظورات إنسانية حضارية تراها أرضية وفضاء مقبولا للتثاقف والتلاقح والحوار بين الحضارات والشعوب .
إنها لا تخضع لاكراهات العولمة السلبية ولا ترى نهاية التاريخ وسدرة المنتهى في هذه الواحدية والوحدانية القطبية وإنما هي ترى التاريخ فضاء مفتوحا لكل ما هو تكاملي أنساني واقدر على ارتقاء الإنسان وبلوغه غاياته في الحياة الوادعة والسلمية القائمة على التعايش والتبادل والانسجام .
إنها رؤى جماهيرية تشكل في جوهرها وحقيقتها مشروعا للمستقبل أكثر مما هي أقنومات و أصناما ثابتة لا ترى إلا بعين واحدة ويقتصر وجودها على ثباتها وتكلسها وتمسكها بموقعها ولذلك فهي تمد أنظارها إلى عالم ما بعد امبريالي وطغياني وترى البشرية باتساعها ونوازع الخير فيها وانطوائها على احتمالات مضادة لكل ما تسطره وتشرعنه وتفرضه قوى الهيمنة والإكراه في العالم .
والتمسك بالمستقبل والتطلع إليه بالنسبة لمنطوق الرؤى الجماهيرية ليس حلما ورغبة ورؤية رومانسية وإنما هو توجه وخيار تاريخي وإنساني مستقر في العقل ويراد له أن يبقى تطلعا راسخا في الحياة البشرية لان التخلي عن الحلم بمستقبل نوعي مغاير يفقد هذه الرؤى معناها ويثبّط عملية بحثها عن المعاني في الحياة البشرية .
إنها الإنسانية المضادة والموازية التي تريد أن تهزم الادعاء بالإنسانية أو قولبتها من خلال طمسها والذي تطرحه وتروج لمفاهيمه السلبية قوى الشر والهيمنة .
6- الرؤى الجماهيرية تؤسس خطابها ووعيها بالعودة إلى المبادئ والأفكار الكبرى مثل الحرية والتحرر وحقوق الإنسان والتسامح و العدالة والمساواة والتكافؤ . وبالعودة للمبادئ تعيد الرؤى الجماهيرية إنتاج معاني جديدة لهذه الأفكار والمفاهيم وتقدمها بديلا عن أفكار الهيمنة والاستعلاء والمركزية لا بل إنها بإبداع معانيها الجديدة تقدمها خيارا ممكنا و مفترضا لتبديل العلاقات بين الشعوب والدول وبذلك تفتح أفقا جديدا لحضور الشعوب في التاريخ بطريقة متجددة قادرة على ردم الهوة بين الشمال والجنوب وفي كل أرجاء المعمورة .
إنها رؤى جماهيرية تريد أن تواجه التفكيك الكارثي الذي تقوم به قوى الهيمنة بإعادة تركيب و بناء الحياة والعلاقات بين الشعوب على أسس ومبادئ جديدة يتقدم فيها الإنسان وتطلعاته ومعاييره على غيره من العناصر والاعتبارات ويحول دون تفتيت القوميات والشعوب وتذريرها في محاولة لاحتوائها امبرياليا وتمكين قوى الهيمنة من وضع اليد عليها .
والعودة إلى المبادئ الكبرى لا تعني ابتداع نظم علاقات جديدة تجّب كل ما قبلها وتلغي نضالات ومحاولات الشعوب الدائبة من اجل الحرية وإنما هي عملية تجديد واستعادة واستحضار و تقديم ما هو إنساني على ما هو طارئ ومتحول وإبعاد شبح صراع البشر والحضارات باستنباط ما هو مشترك وقادر على احتواء تطلعات الشعوب بكافة منابتها وأصولها وخصوصياتها ودمجها في إطار اتصالي تبادلي وتكاملي واحد .
7- هل يلوح في ظل هذه العماءات والاكراهات والفوضى غير الخلاقة التي نشأت في العقود الأخيرة من تاريخ البشرية انبثاق خطاب ثقافي فكري جديد ؟
والجواب نجده دائما في عملية البحث الدائبة التي تقوم بها الدول ” الضحية” لظاهرات الهيمنة الجديدة والمتولدة في الأفق العالمي . ذلك أنها ترى آثار الهيمنة الثقافية ” والإبادة الثقافية ” اشد وأقوى تأثيرا عليها من الهيمنة السياسية فالهيمنة الثقافية تريد تحطيم العقل المفكر قبل تحطيم الأرض التي يقف عليها الإنسان وعقله .
وهكذا يبقى هذا العقل المراد تحطيمه وإخراجه من التاريخ والتداول الإنساني ينافح عن وجوده ويصر على ثوابته ويقيناته الثقافية والتاريخية وعناصر استمراره وهو لا يملك سوى هذا النمط من الخيارات التي أصبحت تتحول إلى ضرورات واحتياجات إنسانية ووجودية .
وعلى هدي هذه التحديات نشأ وينشأ خيار البحث عن خطاب جديد يقوم على نفي الهيمنة والاستعداد لمواجهتها وبناء أفكار إنسانية جديدة وإثارة الحوار حولها وتأسيس حقول جديدة لفكرة الحوار والتعايش بين الأفكار والشعوب والعودة إلى المبادئ الكبرى التي تحكم العلاقات بين الشعوب والدول وتشكل مرجعية لها . إنها عملية جديدة لبناء المرجعيات وليس تفكيكها كما تفعل قوى الهيمنة في المرحلة الراهنة .
إن نمط هذا الخطاب ونسقه هو نزوعه للانسنة في الدرجة الأولى ورغبته في الحوار والتسامح والتعايش السلمي وهو يمثل إعادة قراءة لتاريخ الأفكار والعلاقات وقراءة نقدية جديدة لإعادة بناء ما يجب أن يكون . ولذلك فهو في صميمه أنساني النزعة والمنطلق سلمي الوسيلة نبيل الغايات ولذلك يبقى فضائه مفتوحا ودعواته متداولة ومشروعة واستقطابيه في عصر التفكيك والإقصاء والتهميش والإلغاء .
انه خطاب نفي الهيمنة ونقيضها الذي تكونه دول الأطراف و تبحث من خلاله عن انعتاقها وحريتها.
8 – يشكل فكر الهيمنة” المعبّر عنه راهنا بالعولمة السالبة المرتبطة بالأمركة ومشروعها واستراتيجياتها الكونية” قطعا وانقطاعا في سياقات الفكر الثقافي العالمي وتضادا مع ونفيا للرؤى الجماهيرية التائقة للحرية ويحمل في ثنياته تهديدا لمستقبل البشرية لأنه يطمس ثقافة الآخر و يحول الفكر والثقافة إلى أدوات افتراسية والحاقية بدل أن تكون أدوات في خدمة الحضارة والحوار الحضاري .
ولذلك فان الصراع والخصومة بين فكر وثقافة الهيمنة وثقافة ورؤى الجماهير تأخذ إبعادها الكونية وتصبح إشكالية عالمية وموطن خلاف واختلاف عميقين ولا تصبح صراعا لحظيا بين أمتين أو حضارتين وحسب وإنما تعتبر قضية تهم كل شعوب الأرض وتشكل عنوانا و مضمونا لصراعها من اجل الحرية والتحرر والانعتاق من ربقة القيود و السياجات التي يقيمها فكر الهيمنة ويجعل الشعوب الفقيرة والمحرومة حبيسة لها و لاستحقاقاتها واكراهاتها و وقودا وموضوعا لها .
وعليه فان الخطاب الجديد الذي تنطوي عليه وتنادي به الشعوب المقهورة يتأسس ابتداء على مضمون وجوهر إنساني وتحرري وفيه نويات انتهاض واستنهاض ضد قوى الهيمنة والاستكبار وفيه أطروحات ورؤى ذات طبيعة إنسانية تكاملية وتواصلية وفيه اعتراف بالآخر وخصوصيته القومية والثقافية والحضارية وفيه أيضا انفتاح على أفق جديد وتعبيرات ودلالات جديدة كما انه ينطوي على قراءة جديدة مغايره تجعل من العالم ” ورشة حوار ” من اجل تجاوز إشكاليات الحاضر وبناء المستقبل على أرضيات إنسانية جديدة تعادي الهيمنة والعنف وإرهاب الدولة الذي أصبح يمارس على نطاق واسع .
9- الخصوصيات القومية تطرح تنوعا ايجابيا و تفصح عن هويات ولا تعيق عمليات التكامل والاندغام والاندماج العالمي وهي في حال وعيها وإدراكها حضاريا وإنسانيا تصبح مجرد خطوط للتمييز في اللوحة الكونية الكبرى ولا تشكل قلاعا ” وجيتوات” للانغلاق أو متاريس للنزاع والاقتتال إلا إذا تحولت في لحظات تاريخية معينة أو بفعل عناصر طارئة وإكراهية إلى هويات قاتلة تسعى لإفناء الآخر واستئصاله .
والخصوصيات القومية تقدم تعريفات مرجعية للشعوب والأمم وتطالب الآخرين بمثل هذه التعريفات حتى ينبسط أمام الأمم تاريخ واضح فيه كل العناصر المطلوبة للنديّة الحضارية والتاريخية ولا تتطاول أو تعتدي أو تستعلي فيه أمما على حساب أخرى أو تقدم مزاعم وأوهام حول هويات استثنائية متعالية ومستعلية . وبهذا ينشأ في الأفق مناخا مناسبا لرؤية الآخر وصورته على حقيقتها وليس صورته المتوهمة والمتخيلة ويكون ذلك مساحة و مجالا مفتوحا لتفاهمات كونية من نمط مختلف لا يكون فيها اللون الأسود والأبيض والأصفر علامات نفور وتباعد بل يكون ذلك في سياق الفهم التاريخي للخصوصيات القومية ودلالاتها الإنسانية وإمكانية التقائها وحوارها الجديد المختلف والقائم على المساواة.
10 – انه إذن خطاب الهوية القومية الإنسانية المنفتحة على الآخر والمتحررة من العقد التاريخية بمواجهة خطاب ( العولمة المتأمرك ) الذي يريد أن يتجاوز الهوية ويمحو الخصوصيات وينتهك سيادة الدول بحجج ومزاعم موهومة وبأن العالم أصبح في هذه اللحظة إطارا مفتوحا بلا قيود أو حدود أو هويات ومشرعا لكل التجارب الثقافية والسياسية ولكل محاولات الانتهاك والفك والتركيب واختبارات وتفاعلات التفكيكية المتوحشة .
إن هذه الإطلالة التدخلية لخطاب الهوية القومية المؤنسن والمحّمل بكل الدعوات للحوار على أرضية خطاب جديد للحرية والتحرر والعدل والمساواة والتكافؤ وهذه الجملة الاعتراضية العالمثالثية على ما تقوم به قوى الهيمنة هي الإضافة النوعية والمبادرة الجديدة التي يريد الخطاب الثقافي لدول الجنوب أن يدخلها في سياقات الحوار الثقافي العالمي الراهن ويجعلها نسقا من أنساقه .
ولذلك يسعى هذا الخطاب بمحاولات متفرقة ومجتمعه وبكل دلالاته ومعطياته وحمولاته أن يعبّر عن حضوره في الإطارات والملتقيات العالمية المختلفة ويسعى إلى استقطاب اكثريات على نطاق العالم لتعزيز هذا الخيار وتحويله إلى خيار عالمي ذلك انه بدون مثل هذه المبادرات سوف يبقى العالم كما يبدو في اللحظة الراهنة فريسة العدوان والانتهاك والتوحش والهيمنة .
ويبدو مثل هذا الخطاب ضرورة ثقافية تدخليه اكبر واهم وأعمق من المبادرة العابرة لان فيه معاني التحول والانتقال بشعوب الجنوب من أن يكونوا موضوعا للتاريخ إلى ذوات وصناع له ، وفيه أبعاد وعلامات الصحوة والنهضة والاحتجاج والاعتراض ، وفيه أخيرا ما يجنّب الشعوب الصراع والاقتتال وتدمير روح وحياة الإنسان إذ انه يعطي فرصة للهدنة والتأمل والقلق الايجابي الحافز على التغيير .
11 – انه خطاب متعدد الأوجه والدلالات والمعاني يمكن أن يتأسس عليه و يبدأ منه الحوار الحضاري المنشود بأبعاده الإنسانية الجديدة وهو بهذه المعاني النقيض والنفي للصراع الحضاري الذي روّجت له قوى الهيمنة في لحظة الفراغ والاندهاش التاريخي والسياسي والثقافي الذي تبدّى بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وسقوط الشيوعية .
فالثقافات والحضارات لا تتصارع كما توهم دعاة الصراع إلا في حالة إفلاسها وانحلالها وانحطاطها أو عندما تحولها قوى الهيمنة إلى أدوات في الصراع . وهي تأتلف وتختلف دائما في دائرة إنسانية وعقلانية مترابطة لتعود ثانية للائتلاف والتوالف والتلاقي ولكنها لا تتوزع إلى معسكرات متنافرة متناقضة ومتصارعة إلا بفعل فاعل كما هو الأمر عندما شرعت القوة العالمية الكبرى “أمريكا بمعاداة دين وثقافته وهو الدين الإسلامي ووصمه بالإرهاب ووزعت العالم بناء على ذلك الى من هو معهم ومن هو ضدهم ، واستحدثت صراعا وهميا ومزعوما بين الأديان والحضارات تحت عنوان مهيّج : لماذا يكرهوننا ؟ .
هذا النمط من النزعات المتسرعة و المتطرفة هو الذي يعطل و يوقف الحوار الحضاري ويؤثر على مضامينه ومجرياته وهو يضع عصّيه بشكل اعتباطي و ضاغط في دواليب أي اقتراب ومقاربة عقلانية لمسائل الحوار والتسامح والانفتاح ويعطل أي جهد في هذا المجال .
ومن هنا تأتي الحاجة إلى خطاب الحوار والتسامح الذي يتضمنه الخطاب الثقافي الجديد المرتجى ذلك انه يفتح آفاقا جديدة للحوار الحضاري ويبشّر بمستقبل جديد للبشرية ينقلها من عتمات الهيمنة وعماءاتها إلى أنوار الحرية وفضاءاتها المفتوحة ويعطيها الأمل بمستقبل يكون الإنسان وإنسانيته وقيمه النبيلة بعدا جوهريا من أبعاده .
12 – إنها رؤى جماهيرية تبدو صغيرة ومثالية في أطروحاتها وتصوراتها و تتكثف في مدار عولمي كبير يعج بالفوضى والاغتراب والاستلاب والاضطراب الفكري والثقافي لكنها تحمل معاني سامية وعميقة ورغبة إنسانية صادقه وحارة في تحويل العالم إلى مجال لارتقاء الإنسان وتطوره وتفاعل الشعوب والتقائها ، وهي رؤى تستمد نسغها من رأسمال رمزي إنساني كبير انطوت عليه البشرية وكونته في سياقاتها التاريخية المديدة وفيه كل احتمالات التعميم والعمومية والشمول والشمولية ذلك إنها تأتي استكمالا واستئنافا لجهود إنسانية كبيرة بذلت من اجل هذه الغاية ولخصت فيها الشعوب نزعاتها وأشواقها الإنسانية التحررية .
انه خطاب الأمل والحرية الذي بدأت ترفعه الشعوب بمواجهة خطاب الإحباط واليأس والقهر والهدر الذي تطرحه وتروج له دوائر الهيمنة وهو الخطاب الذي بدأ يتحول من فكرة إلى ضرورة وخيار ولذلك فهو الآن يشق طريقه بقوة ويصل إلى كل أرجاء الأرض محملا بقوته الأخلاقية والإنسانية وهو باندفاعاته يفتح نافذة للبشرية لكي ترى ذاتها التاريخية بمنظورات وصور جديدة ويدفعها للنهوض بوجه سلبيات العولمة والهيمنة وتداعياتها اللاانسانية واللااخلاقية.
13 – هل تملك الأمة العربية في المرحلة الراهنة تقديم رؤية قومية وخطاب جديد في مواجهة الرؤى الإقليمية والعالمية ؟
هل تملك الأمة تعريفات مرجعية وإستراتيجية للصراع الدائر من حولنا وهل تجد الأمة ذاتها قادرة على إنتاج خطاب تلاقي فيه وتحاور الرؤى والخطابات المهيمنة وأخطارها الآنية والقادمة ؟
والجواب” بعيدا عن المزاعم والأوهام والأفكار الرغبية والظفراوية “إن الأمة تفتقد إلى البوصلة واليقينات في لحظتها الراهنة ولكنها لا تفتقد إلى التاريخ بوهجه وإيحاءاته وتتوق إلى الإمساك به في كل منعطف وتحول ، فالتاريخ الحافز والنابض بالتحدي والسؤال وقف ولا يزال يقف دافعا ومهيجا ومحركا لفكرة النهضة والاستنهاض فيها ولم يغادر خيال جماهيرها ، لكن تمزقات واختلالات سببها داخلي وخارجي شطّرت الأمة ومزقت قواها النهضوية وأسست حكومات ودول فاشلة وخائبة قدمت سلطتها على أوطانها وربطت ذاتها بدوائر التبعية و وقفت ضد ذاتها وتاريخها وحولته إلى تاريخ عصبيات وقبائل وأبقت الأمة في حالة تبعية واستتباع وحالت دون اجتراح آفاق جديدة للعمل القومي العربي المشترك . مع إن ذلك كله لم يحل بين الأمة وحركة واشتغال جماهيرها والتطلع إلى تاريخها ومستقبلها فقد بقي مشروع النهضة المجهض مشروع الأمة في أصعب وأدق أحوالها حتى وان بدا انه ضمر وغاب لحظيا . وبقيت الأمة في مدارات يقظتها و صحوها الذي تعبر عنه في أحايين تاريخية وسياسية مختلفة ، لكن تمزقها الراهن يحول بينها وبين إنتاج خطاب ومشروع ثقافي استنهاضي جديد ذلك أن مثل هذا المشروع يقتضي أرضيات من التوحد والتفاهم السياسي وسياسات ثقافية وحدوية نهضوية ترتقي إلى مستوى التحدي وتشكل الاستجابة التاريخية المطلوبة ، ويتطلب رؤى إستراتيجية ترى الأمة بشمولها ولا ترى الأقطار والقطريات بحدودها وحكوماتها وعندما تتقدم هذه الرؤى الجماهيرية إلى ساحة الخيال والواقع السياسي القومي العربي عندها يصبح من تحصيل الحاصل البحث عن سبل جديدة للحوار والتأسيس الثقافي والسياسي والتغيير بمستوياته المختلفة .
انه الخطاب الذي نرنو إليه و نراه عصيا وراء الأبواب .. وعلينا أن نراه سهلا ومتاحا عندما نستظهره بفتح الأبواب !! .