مؤسسة القدس الدولية تكشف الملابسات حول إغلاق الكنائس وبيع ممتلكاتها

تساؤلات عديدة ثارت حول الإغلاق الذي أعلنه قادة الكنائس الثلاث، الروم الأرثوذكس والفرانسيسكان والأرمن الأرثوذكس على كنيسة القيامة، فالبطرك ثيوفيلوس الذي قاد ذلك المشهد كان أبناء رعيته يرمونه بالبيض والأحذية عند كنيسة المهد قبل شهرٍ واحدٍ فقط بسبب ضلوعه في صفقات تسريبٍ لأملاك الكنيسة الأرثوذكسية لصالح الصهاينة، شهد عام 2017 وحده الكشف عن خمسة منها، فكيف به الآن يتصدر الحراك ضد الصهاينة ويطلب من الجماهير مساندته؟ هذا التحقيق يحاول توضيح هذا الالتباس وإجابة أسئلته، فلماذا أُغلقت كنيسة القيامة؟ وما هي الأسباب التي دعت القادة الثلاثة إلى إغلاقها؟ وما هي مطالبهم؟ وكيف انتهى المشهد؟ وما هو المتوقع بعده؟

يستدعي التحقيق بداية الخلفية التاريخية للعلاقة ما بين الكنيسة والاستعمار البريطاني ومن بعده الصهيوني، إذ وجد الاستعمار البريطاني له مصلحةً في استدامة الشرخ بين النخبة الدينية اليونانية التي تستأثر بمقادير الطائفة الأرثوذكسية، وأبناء الطائفة الوطنيين، باعتباره سبيلاً لتقييد أبناء الطائفة وتحجيمهم، ومدخلاً لاستثمار هذا الشرخ والتضارب في المصالح بين الطرفين للبناء عليه في اتجاهات عدة، أبرزها الاستحواذ على عقارات الكنيسة التي نظرت لها بريطانيا باعتبارها “الدجاجة التي تبيض ذهباً”، وأورثت هذه الرؤية للكيان الصهيوني بعد قيامه، فانتهى ذلك إلى صفقاتٍ متتالية لتسريب أملاك الكنيسة وعقاراتها لصالح الصهاينة، بحيث لم تمر حقبة لأي بطرك منذ عام 1939 لم تشهد صفقةً أو تجديداً لصفقةٍ قادمة.

الطريق إلى هذا الإغلاق مرّ بالكشف عن تطوراتٍ في ستة صفقاتٍ كبرى للكنيسة، كانت ترتكز في لبها على تأجير عقاراتٍ مؤجرةٍ سابقاً للصندوق القومي اليهودي لمددٍ إضافية بعد انتهاء التأجير الحالي الطويل الأمد مع قبض الثمن مقدماً، بحيث بات بعض تلك العقارات “مؤجراً” حتى عام 2195. هذه السياسة التي اتبعتها الكنيسة بقصد المناورة والادعاء بأنها لم تقم بصفقاتٍ جديدة، أثارت حفيظة الدولة الصهيونية، فبادر 40 نائباً بقيادة النائبة راحيل عزاريا بطرح مشروع قانون يسمح للحكومة بمصادرة تلك العقارات بأثر رجعي حتى عام 2010 لمنع الكنيسة من التفكير بإعادة بيع عقارات الحكومة للشركات الخاصة، فجاء قرار الإغلاق جاء في يوم كانت قد تقرّرت فيه جلسة للجنة الوزارية للتشريع لكي تناقش مشروع القانون، وكانت الإشارة لهذا القانون حاضرة في خطاب قادة الكنائس والجهات المقربة من البطريرك ثيوفيلوس لكن دون إيضاح الحيثيات وطبيعة المعركة، لمحاولة إبقائها عامةً لتظهر كأنها في سياق “الدفاع” عن أملاك الكنيسة، بينما هي في حقيقتها لتوسيع سوق العقار أمام الكنيسة، والمحافظة على قدرتها على تأجير عقاراتها للشركات الخاصة والقطاع الخاص الصهيوني، ولمنع الحكومة الصهيونية من فرض نفسها كمشترٍ وحيد.

يوضح التحقيق أن هذه المناورة خاضها قادة الكنائس الثلاث تحت عنوانين: الأول معلن وهو مواجهة فرض ضريبة الملكية “الأرنونا” على أملاك الكنائس، والثاني ضمني لكنه الأكثر تأثيراً وهو الحفاظ على سوق العقار مفتوحاً أمام الكنيسة على الشركات الخاصة.  ويشخص التحقيق بأن فرض الضرائب على أملاك الكنائس هو إجراء خطير من الواجب مواجهته إذ يهدف أولاً لفرض السيادة الصهيونية على القدس وفرض الاعتراف بها على الكنائس، وثانياً إلى تعميق أزمة الكنائس المالية بشكلٍ يدفعها لمزيد من التفريط بملكياتها، ولعل البعد الثالث والأكثر خطورة لهذا الإجراء أنه يعمق أزمة الكنائس المحلية التي لا تتلقى معوناتٍ خارجية بشكلٍ غير قابلٍ للحل لأنه يضيف مصدراً دائماً للاستنزاف، والكنيسة التي ستكون الأكثر تضرراً هي بطركية الروم الأرثوذكس وتليها الكنيسة الأرمنية، أما الكنائس الغربية التي تحظى بدعمٍ خارجي كبير فسيساعدها هذا القانون على تعزيز نفوذها على حساب الكنائس المشرقية. رغم خطورة هذا الإجراء إلا أن قادة الكنائس الثلاث قبلوا بمجرد تجميده ولم يخوضوه حتى النهاية، لأن عينهم كانت على العنوان الضمني وهو حماية قدرة الكنيسة على إبرام صفقات مستقبلية مع القطاع الخاص دون قيود.

لقد أرجأت اللجنة الوزارية للتشريع مناقشة مشروع القانون في اليوم عينه الذي أُعلن فيه إغلاق كنيسة القيامة، فربحت بطركية الروم الأرثوذكس بذلك جولةً من جولات الصراع على سوقها العقاري، ولعل هذا يفسر سرّ التراجع السريع عن إغلاق الكنيسة، فالدافع الأول للإغلاق تحقق من اليوم الأول، أما الدافع الثاني وهو منع فرض الضرائب على الكنائس فلم يكن قد تحقق، فاستمر الإغلاق مع محاولة إقناع أبناء الطوائف المسيحية والمقدسيين عموماً بالاصطفاف خلف البطركية وقادة الكنائس لتحقيقه، ومحاولة محاكاة ما حصل في هبة باب الأسباط، ورغم أن التجربة التاريخية دفعت معظم المقدسيين للشك في نوايا ثيوفيلوس وعدم الارتياح لخيار الاصطفاف إلى جانبه، إلى أن البلدية هي الأخرى جمدت الإجراء، ورغم أن ما تحقق في الحالتين كان تجميداً مؤقتاً وليس تراجعاً كاملاً على المسارين، مع تشكيل لجنة وزارية لمناقشة مطالب الكنائس برئاسة وزير التعاون الدولي من حزب الليكود تساحي هنيغبي، إلا أن القادة الثلاثة للكنائس أنهوا الإغلاق وأعلنوا في بيانٍ مشترك أنه “بعد التدخل البناء لرئيس الوزراء [نتنياهو] نتطلع إلى العمل مع الوزير تساحي هنغبي ومع كل الذين يحبون القدس”.

يخلص التحقيق إلى الاستنتاج: “انجلى المشهد إذن عن كسب بطركية الروم الأرثوذكس لجولة من جولات صراعها على توسيع سوقها العقاري لتأجير ممتلكاتها، وعلى تجميد مؤقت لقرار جباية ضريبة الأملاك منها ومن سائر الكنائس، رغم أن هذا الإجراء من شأنه أن يهددها وجودياً إن حصل ويفترض أن تكون بالتالي معنيةً بخوض المعركة لحين إلغائه تماماً وليس تجميده، كما انجلى على تعزيزٍ لمكانة ثيوفيلوس وشرعيته بعد أن كان الحراك الشعبي الأرثوذكسي قد قوّض كثيراً منها، وانجلى عن قادة دينيين ينتمون لهذه الأرض وأهلها بالقدر الذي يسمح لهم باعتبار تدخل نتنياهو “بناءً”، وبـ”التطلع للعمل” مع الوزير الصهيوني تساحي هنغبي واعتباره من زمرة هؤلاء الذين “يحبون القدس”.

بهذا السوق العقاري الواسع، والمشروعية المعززة نسبياً بعد أزمة كشف 6 صفقات، يمسي من المنطقي التساؤل: هل انجلى المشهد عن نصرٍ أم عن شهيةٍ مفتوحةٍ لمزيد من الصفقات؟ وكيف يمكن الاصطفاف خلف قيادة دينية تفكر بعقلية الشركة العقارية القابضة وتتطلع للعمل مع تساحي هنغبي؟!

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى