بئس الحال .. فإسرائيل لم تعد خارج البيت العربي

قبيل بضعة أشهر من اندلاع ثورة 25 يناير المصرية المطبوعة على رزنامة عام 2011، أطلق الدكتور مصطفى الفقي، سكرتير الرئيس حسني مبارك للمعلومات آنذاك، تصريحاً اعترافياً صادماً ومدوياً قال فيه حرفياً : “للأسف ان الرئيس القادم لمصر يحتاج الى موافقة امريكا وعدم اعتراض اسرائيل”.

يومها استولت هذه المفاجأة المذهلة على اذهان الكثيرين، وغشيتهم حالة من الاستغراب والاستهجان والتساؤلات.. متى وكيف ولماذا حدث ذلك في أكبر دولة عربية طالما تباهت بسيادتها واستقلالها وكرامتها الوطنية ودورها القيادي والريادي الممهور بخاتم التاريخ؟

بعدها تفجرت ثورة 25 يناير التي اختلط فيها العامل الوطني بالتدخل الاجنبي، وايدها من طرف خفي قادة القوات المصرية المسلحة، ثم أعلن الانحياز لها الرئيس الامريكي اوباما حين أطلق عبارته الشهيرة: “التغيير الآن يعني الآن”.. وهو ما دفع حسني مبارك الى التنحي فوراً، رغم معارضة كل من السعودية وإسرائيل التي اعترف وزير دفاعها بنيامين بن اليعازر ان مبارك كان يشكل “كنزاً استراتيجياً لإسرائيل”.

بقوة الخداع الديني وفق المذهب الإخواني، فاز المرشح محمد مرسي برئاسة الجمهورية المصرية، وتوهم الكثيرون أنه سيبادر من فوره لإسقاط معاهدة كامب ديفد، وامتشاق سيف صلاح الدين لتحرير فلسطين .. غير أنه ما لبث ان فاجأ الواهمين المخدوعين برسالته الودية الاخوية الى الرئيس الصهيوني شمعون بيريز التي بدأ مقدمتها بـ “عزيزي وصديقي العظيم”، وختم مؤخرتها بـ “صديقكم الوفي محمد مرسي”.. وهكذا اتضح أن الخل أخو الخردل، وان مرسي صنو مبارك، وان اسرائيل حاضرة في قصور الرئاسة المصرية الى حد ان هذا الإخواني، الذي رفض التصالح مع عهد عبد الناصر، قد تصالح وتسامح مع عرش بيريز.

تحت قوس من الشكوك وعلامات الاستفهام، نفّذ الفريق عبد الفتاح السيسي انقلابه العسكري على الحكم الإخواني، فقد تساءل الكثيرون يومذاك عن الأسباب الحقيقية والجهات الخفية التي تقف خلف هذا الانقلاب المريب وحمّال الأوجه ما بين الدواعي الوطنية الداخلية والأصابع الإقليمية والدولية.

ولأن الحكم الإخواني كان متخلفاً وجهولاً وعصبوياً، ولأن السيسي رفع في مواجهته قميص عبد الناصر، فقد ابتلع المتشككون شكوكهم وغضوا الطرف – مؤقتاً – عن مخاوفهم وهواجسهم.. آملين أن يكون الجيش المصري المعروف بوطنيته، والذي أنجب ثورة 23 يوليو وساند ثورة 25 يناير، قد بادر الى تخليص الثورة من خاطفيها، وتحرير البلاد والعباد من طغيان الإخوان.

ولكن ها قد ذاب الثلج وبان المرج، واتضح أن السيسي ليس بعيداً عن لعبة الكراسي الموسيقية، ولا عن مقولة مصطفى الفقي إياها، ربما مع تعديل جديد في الاشتراطات بحيث تصبح “الموافقة” من اختصاص اسرائيل “وعدم الاعتراض” من نصيب امريكا.

طيب، إذا كان هذا هو الحال في مصر، ام الدنيا وقاعدة العرب وقائدتهم، فكيف به في باقي الممالك والمشيخات العربية والاعرابية المصطنعة التي تتضور خوفاً وضعفاً وتخلفاً وسوء مآل؟؟ كيف به في دول ودويلات الخليج النفطي، والهلال الخصيب، والرباعي المغاربي، والسودانين والصومال والجيبوتي وحتى جزر القمر؟؟

أخشى أن معظم أقطارنا مُخترقة من مسافة صفر، ومنخورة بأصابع موسادية، نخباً وأنظمة ومؤسسات، ومحكومة في حركاتها وسكناتها وتوجهاتها بالريموت كنترول الصهيوني، ومسكونة بذهنية وسيكولوجية وثقافة انهزامية تسوغ لها فعل الخيانة، وتبرر لها خطيئة التنازل عن الحق الفلسطيني لصالح العدو الاسرائيلي.

لم تعد اسرائيل خارج البيت العربي، ولم تعد – في حسبان بعض الانظمة العربية – عدواً لدوداً، او محتلاً غاصباً، او حتى مجرد خصم وغريم .. بل اصبحت، في غالب الاحيان، صديقاً وحليفاً ومحل ثقة واطمئنان يمكن الاستنجاد به والركون والتعويل عليه.

الغريب واللافت للنظر، أن معظم المحللين والمراقبين السياسيين والاستراتيجيين الذين يتصدون بالبحث والتنقيب في دواعي ودوافع الانهزام العربي الراهن، وفي عوائق وموانع النهوض الوطني والانبعاث القومي، يذهبون في ذلك مذاهب شتى، ويوردون من الأسباب ما هب ودب.. غير انهم يغضون الطرف، عمداً او سهواً، عن آفة التغلغل الصهيوني السياسي والاقتصادي والاستخباري في مفاصل معظم الكيانات العربية من أرفع قممها الى اوسع قواعدها، وبما يؤدي الى تسميم افكارها، وتشويش بوصلاتها، وتمزيق صفوفها، وتوهين عزائمها، ووضع العصي في دواليب نهضتها ووحدتها واهتدائها إلى جادة الصواب.

لم يعرف التاريخ شعباً ماكراً ومتآمراً مثل الشعب اليهودي، فهو مختص منذ أبعد مدى في سبك الدسائس، وحبك المؤامرات، واتقان فنون التلصص والتربص والتجسس والانتظام في إطار “طابور خامس” يعمل ضد كل بشرية يتواجد بين ظهرانيها، بدءاً من خيبر، ومروراً بأوروبا، وانتهاء بأمريكا التي باتت تخضع بالكامل – في عهد ترامب – لهيمنة اولي المخالب والأنياب في اللوبي اليهودي.

اليهود هم الشعب الوحيد في العالم المؤطر ضمن نطاق حزبي موحد، او حتى كيان عضوي مكتمل له جهازه العصبي، وقيادته المركزية، وروابطه التنظيمية، مهما تعددت أماكن وجوده، وتباعدت المسافات بين عديده.. ولعل في هذا تفسيراً لأسباب قدرته على التماسك الطويل الأمد، والتأبّي على الذوبان في المجتمعات والشعوب التي يخالطها ويساكنها ويداوم الإصرار على نخرها والتمايز عنها والتسلط عليها.

من سوء الحظ ومكر التاريخ أن يُبتلى الوطن العربي المجزأ والمتخلف بشرور الحركة الصهيونية الشيطانية التي تخيّرت فلسطين موقعاً ورأس جسر لمشروعها الاسرائيلي الجائع للتوسع المستمر، والعاجز عن الشبع مهما ابتلع.. ولو ان هذه الحركة الملعونة قد اختارت لمشروعها مكاناً آخر فوق هذا الكوكب لما اصاب امتنا كل هذا البلاء العظيم، ولما سقط منا في درك الخيانة كل هذا الحشد من الاتباع والاشياع والعملاء وأبناء السبيل.

من سوء الحظ ايضاً ان يتزامن هذا التغول الصهيوني علينا مع احلك ليالي الظلام التي تلف امتنا، واقصى درجات الانحطاط التي ترسف فيها، حتى باتت معظم دولها تتنازل طواعية عن سيادتها واستقلالها، وتستقدم القواعد الاجنبية من الشرق والغرب، وتحنّ الى زمن الحماية و الانتداب والاستعمار.. بل تدفع من قوت شعوبها ثمن عبوديتها الجديدة، والعياذ بالله!!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى